الهروب نحو كازاخستان.. تطبيع بلا عمق وهروب من فشل وعزلة

الحقيقة التي تعيشها "اسرائيل" في هذه المرحلة هي أنها تسعى إلى تصدير صورة الدولة المقبولة دولياً، لكن الواقع مغاير تماماً فهي تعيش أعمق مراحل العزلة السياسية منذ عقود.

0:00
  • ماذا بعد كازاخستان ؟ وإلى ماذا تسعى
    ماذا بعد كازاخستان ؟ وإلى ماذا تسعى "إسرائيل" بالضبط؟

في مشهد سياسي لافت ومستغرب، وبينما تتواصل أصداء الحرب  الإسرائيلية على غزة وما خلّفته من فاتورة وكلفة إنسانية وسياسية عالية أثرت على صورة "إسرائيل" الدولية، وأحدثت تصدعاً كبيراً في علاقاتها مع كثير من الدول العربية والدولية، أعلنت كازاخستان مؤخراً عن إقامة علاقات رسمية دبلوماسية مع "إسرائيل"، في خطوة فاجأت كل الأوساط السياسية لتنضم إلى قطار التطبيع الذي انطلق منذ عام 2020 في عهد ولاية الرئيس الأميركي دونالد ترامب الأولى. 

خطوة كهذه في ظاهرها تبدو للوهلة الأولى أنها تعكس تقدما جديداً في مسار الانفتاح الإسرائيلي والتوسع في مشروع التطبيع ، إلا أنها في جوهرها تعكس أزمة أعمق من مشروع التطبيع ومحاولات توسيعه في محيط عربي وإسلامي بات أكثر حذراً ورفضاً لهذا المسار السياسي. 

توقيت الإعلان ليس بريئاً ولا عابراً، ويأتي من حيث التوقيت في لحظة سياسية حرجة تمر بها "إسرائيل" وهي تواجه تراجعاً كبيراً في صورتها الدولية بسبب حرب الإبادة الجماعية والتطهير العرقي الذي ارتكبته في غزة وتصاعد الانتقادات الغربية لكل ما قامت به ضد المدنيين الفلسطينيين.

بين يدي هذه المعطيات، تبحث "إسرائيل" عن أي إنجاز دبلوماسي  يرمّم صورتها المتصدعة المهشّمة، حتى لو جاءت الخطوة من دولة بعيدة جغرافياً عن المنطقة العربية، لا وزن لها في معادلة الصراع ولا حتى في التوازنات السياسية، خطوة كهذه تؤكد أن "تل أبيب" باتت تبحث عن بروباغندا تلمّع فيها صورتها و تهرب حتى إلى الدول البعيدة جغرافياً، بعد أن أُغلقت أمامها أبواب دول الجوار العربي والإسلامي، وهذا إن دلّ فإنما يدل على أن "إسرائيل" تعيش مأزقاً سياسياً حقيقياً في كسب دول الجوار والتطبيع معها.

قراءة الإعلان الكازاخستاني في موضوع التطبيع لا يمكن قراءته بمعزل عن التوقيت، "إسرائيل" تمر في مرحلة تعد من أسوأ مراحلها سياسياً ودبلوماسياً بعد حرب الإبادة في غزة، إذ واجهت وتواجه عزلة متزايدة بسبب ما ارتكبته من إبادة وتطهير عرقي في غزة، كما أنها تواجه حالة احتقان داخلي يهدد تماسك حكومتها، وتراجعاً في صورتها أمام الرأي العام العالمي والغربي، وفي خضم ذلك وبالتنسيق المباشر مع إدارة الرئيس ترامب تبدو  "إسرائيل" أنها تبحث عن أي إنجاز سياسي ولو كان رمزياً، يقدم كدليل على أن مشروعها السياسي الإقليمي لا يزال حياً وقائماً، وأنها قادرة رغم كل ما جرى خلال عامي الحرب على كسب تحالفات جديدة، حتى إن كانوا بعيدين عن بيئة وساحة المواجهة.

في هذه المعادلة لا يمكن أبداً إغفال الدور الأميركي، الداعم الرئيسي لإعادة إحياء مسار التطبيع الذي رعته لتثبيت نفوذها في منطقة الشرق الأوسط وآسيا الوسطى، خصوصاً بعد تصدع واهتزاز ثقة حلفائها في سياساتها الإقليمية، وبالتالي باتت المعادلة الآن مزدوجة بين أهداف أميركا الاستراتيجية لإثبات حضورها وبين تحسين صورة "إسرائيل" للتغطية على فشلها وإخفاقاتها في المنطقة.

في التعمق أكثر في أهداف التطبيع الكازاخستاني، فهو لم يأتِ تعبيراً عن انحياز سياسي صريح أو وفق حسابات سياسية، أو ضمن معادلة الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وإنما يُنظر إليها في كازاخستان الرسمية على أنها خطوة مصالح اقتصادية في الدرجة الأولى، فالدولة الغنية بالنفط والغاز تبحث عن شركاء في مجالات التكنولوجيا الحديثة والطاقة، وتعتقد أن خطوة كهذه قد تفتح لها أبواباً جديدة في الأسواق الغربية. 

مهما كانت دوافع وأهداف كازاخستان وراء هذه الخطوة مع "إسرائيل"، فإنها تكشف عن الدلالة الأبرز في الحدث بحدّ ذاته، والتي تكمن في عجز "إسرائيل" حتى الآن عن اختراق محيطها العربي، وهي التي راهنت على انطلاق جولة التطبيع الأولى من أنها ستفتح الطريق وتمهّده أمام سلسلة من خطوات الدول العربية والإسلامية، وجدت نفسها اليوم مضطرة إلى التوجه نحو آسيا الوسطى، لتعويض الفشل في استقطاب عواصم عربية أكبر وأكثر تأثيراً في المعادلة السياسية.

الحرب الأخيرة على غزة أعادت تشكيل المزاج والرأي العام في العالمين العربي والإسلامي، وأجهضت إلى حد كبير أي محاولات لتسويق مشروع التطبيع كمسار سلام طبيعي بعد كل ما ارتكبته "إسرائيل" من جرائم ضد الإنسانية في قطاع غزة.

باتت الشعوب العربية في المنطقة ترى أن العلاقات مع "إسرائيل" تشكّل غطاءً سياسياً للعدوان، ومكافأة مجانية للاحتلال الإسرائيلي الذي يواصل انتهاكاته من دون محاسبة، ومع هذا الوعي والانتفاضات التي شهدتها عواصم عربية وغربية، تراجعت شهية الأنظمة الرسمية في الانخراط الرسمي بمسار التطبيع، بل وأصبح التقدم فيه عبئاً أكثر من كونه مكسباً سياسياً.

تأتي خطوة "إسرائيل" للتطبيع مع كازاخستان كدولة بعيدة سياسياً وجغرافياً، اعترافاً ضمنياً بأن مشروع التوسع الإقليمي قد وصل إلى نهايته، قد يقول قائل، ألهذه الدرجة توصف الأمور بهذه الطريقة، أقول نعم لأن مشروع التطبيع كان في بداياته، كان يقدم كتحول استراتيجي في بنية وتركيبة منطقة الشرق الأوسط، إلا أنه تحول بعد الحرب على غزة وكل ما جرى فيها إلى مجرد اتفاقيات رمزية تستخدمها "إسرائيل" لأغراض سياسية إعلامية من دون أثر فعلي يؤثر في موازين القوى ومعادلات الصراع وتوجهات الشعوب.

ثمة سؤال يطرح نفسه بعد حال التباهي الإسرائيلي بهذه الخطوة والتضخيم الإعلامي لها، ماذا بعد كازاخستان ؟ وإلى ماذا تسعى "إسرائيل" بالضبط؟

أعتقد أن العمل سيستمر بهذه الوتيرة بالتنسيق والتعاون مع الإدارة الأميركية، بالسعي نحو نسج اتفاقيات تطبيع مع دول في آسيا الوسطى وربما أفريقيا، بحيث يسهل تمرير الاتفاقات بعيداً عن ضغوط الرأي العام العربي الرافض لهذا المسار تحديداً، لكن بالمجمل، ستبقى هذه العلاقات محدودة الأثر والفعالية، لسبب رئيس هو أنها تفتقر إلى العمق السياسي وتقوم على المصالح المؤقتة لا التحالفات الاستراتيجية الحقيقية.  

الحقيقة المرة التي تعيشها "إسرائيل" في هذه المرحلة، أنها مهما استمرت في هذا النهج فإنه سيعمق صورتها كدولة معزولة، تسعى لأي مخرج يخفف من وطأة عزلتها وحصارها السياسي، فالتطبيع مع كازاخستان لن يغير واقعها في المنطقة ولن يعيدها إلى قلوب الشعوب التي شاهدت دمويتها ووحشيتها في قطاع غزة.

إعلان كازاخستان نيتها التطبيع مع "إسرائيل" لا يعد نصراً استراتيجياً بقدر ما هو مؤشر على نفاد خيارات التوسع مع محيطها، ولا يمكن اعتباره إنجازاً سياسياً بقدر ما هو تطبيع بلا عمق سياسي وبلا امتداد جغرافي، وهو وصفة ترامبية لتجميل المشهد ومحاولة لإحياء مسار التطبيع بعد فرض خطة ترامب لوقف الحرب على غزة، في وقت تتكشف فيه أزمات "إسرائيل" السياسية والأخلاقية على مرأى العالم أجمع.

الحقيقة التي تعيشها "إسرائيل" في هذه المرحلة هي أنها تسعى إلى تصدير صورة الدولة المقبولة دولياً، لكن الواقع مغاير تماماً، فهي تعيش أعمق مراحل العزلة السياسية منذ عقود، وإدارة الرئيس ترامب تعي ذلك جيداً.

وحتى لا نتفاجأ مجدداً، فيما لو جاء إعلان جديد لمسار تطبيع غير كازاخستان من دولة بعيدة، فهو ليس إلا دليلاً واضحاً على فشل التطبيع في قلب المنطقة.