ترامب وقرار استئناف التجارب النووية
لا شك في أن الصراع العالمي قد دخل مرحلة جديدة وهذه المرة بقفازات نووية، وربما كانت قمة آلاسكا هي المحاولة الأخيرة لتغيير مسار الصراع قبل أن يكتب لها الفشل.
-
الصراع العالمي دخل مرحلة جديدة وهذه المرة بقفازات نووية.
أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترامب في 31 تشرين الأول/أكتوبر أنه أمر باستئناف بلاده تجارب الأسلحة النووية، وذلك بعد توقف دام لأكثر من 30 عاماً، وكتب ترامب على منصته تروث سوشال "بسبب برامج الاختبار التي تقوم بها دول أخرى، وجهت وزارة الحرب ببدء اختبار أسلحتنا النووية على قدم المساواة"، مشيراً إلى أن الاختبارات ستستأنف "فوراً".
وعلى الرغم من أن الولايات المتحدة لم تصادق على معاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية CTBT في مجلس الشيوخ، فإنها وقعت على تلك المعاهدة في عام 1996 وبقيت ملتزمة بها، سياسياً وطوعياً، منذ ذلك التاريخ على الرغم من أنها غير ملزمة لها قانونياً. ورداً على عدم قيام واشنطن بتصديق المعاهدة، أصدر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مرسوماً في عام 2023 يقضي بإلغاء تصديق بلاده على تلك المعاهدة من دون الانسحاب منها أسوةً بالولايات المتحدة.
وكانت الولايات المتحدة قد توقفت عن إجراء تجارب نووية فعلية منذ عام 1992، حيث أجريت آخر تجربة في صحراء نيفادا ، لكنها استمرت في برامج المحاكاة الحاسوبية والتجارب غير التفجيرية للحفاظ على جاهزية ترسانتها.
ورداً على القرار الأميركي، أعلن وزير الدفاع الروسي خلال اجتماع لمجلس الأمن القومي عن البدء فوراً في الاستعداد للاختبارات النووية واسعة النطاق" في موقع "نوفايا زيمليا" القطبي الشمالي، الموقع الرئيسي للاختبارات النووية السوفياتية خلال الحرب الباردة.
فما العوامل التي دفعت بالرئيس ترامب إلى اتخاذ قرار استئناف التجارب النووية في هذه المرحلة؟
أولاً؛ جاء قرار الرئيس الأميركي ترامب بعد أيام من إعلان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عن نجاح الاختبارات لأحدث سلاحين استراتيجيين للردع النووي، وهما صاروخ كروز المجنّح "يوريفستنيك" غير المحدود المدى الذي يعمل بواسطة مفاعل نووي صغير والقادر على تجاوز جميع منظومات الدفاع الغربية، والمسيرة البحرية التي تعمل تحت الماء "بوسيدون" التي تعمل هي الأخرى بواسطة مفاعل نووي صغير، وقادرة على التحرك بسرعة كبيرة وعلى تجاوز جميع الدفاعات، وقد عُدّ هذان السلاحان الإستراتيجيان قفزة نوعية في مجال العلم العسكري، وهما قادران على تحقيق الردع الإستراتيجي لروسيا لعقود طويلة، وربما خلال القرن الحالي كما قال بوتين.
ثانياً؛ جاء قرار الرئيس الأميركي باستئناف التجارب النووية قبيل لقاء القمة الذي جمعه مع الرئيس الصيني " شي جين بينغ" في كوريا الجنوبية، حيث ترفض بكين الدخول في مفاوضات ثلاثية مع واشنطن وموسكو لتحديد عدد الرؤوس النووية نظراً لكونها متأخرة عنهما بفارق كبير، حيث تمتلك الصين 600 رأس نووي مقابل ما يزيد على 5500 رأس لكل من روسيا والولايات المتحدة.
ثالثاً؛ يأتي الإعلان الأميركي قبل أشهر قليلة من انتهاء المدة المتبقية لمعاهدة "نيوستارت New START" بين روسيا و الولايات المتحدة في 5 فبراير/شباط المقبل 2026، والتي تتضمن الحد من الرؤوس النووية المخصصة للتركيب على الصواريخ والطائرات إلى 1550 رأساً، والحد من حاملات هذه الرؤوس إلى 700 وحدة لكل طرف، ومن أهدافها كذلك تعزيز الشفافية والتحقق من خلال زيارات تفتيشية متبادلة لكل طرف، وتبادل بيانات دورية عن مواقع ومستودعات الأسلحة، واستخدام تقنيات مراقبة عن بُعد وأنظمة إشعار مبكر، وفي الوقت الذي اقترحت فيه موسكو تمديد الاتفاقية ما زالت واشنطن تتجاهل المقترح الروسي، وتطالب بضم الصين إلى الاتفاقية فيما ترفض الأخيرة ذلك، إذ يبدو أن واشنطن تراهن على مسارات جديدة للضغط على روسيا متعلقة بالحرب الأوكرانية، أو العكس من ذلك عبر استخدام ملف المعاهدة للضغط على موسكو في ملف الحرب الأوكرانية.
رابعاً؛ من غير المستبعد أن الرئيس الأميركي دونالد ترامب يسعى من خلال هذا الإعلان للمماطلة و المشاغلة إلى حين اكتمال مشروع القبة الذهبية الذي أعلن عنه في كانون الثاني/يناير 2025 والذي يهدف إلى تأمين الحماية الكاملة لأراضي الولايات المتحدة من أي هجوم صاروخي مهما كان مصدره أو مساره، بما في ذلك من الفضاء والمؤلف من طبقات دفاع فضائية وأرضية، إذ من المتوقع الانتهاء منه في عام 2029 قبل انتهاء ولاية ترامب الرئاسية.
خامساً؛ جاء قرار ترامب بعد إعلانه عن فرض عقوبات وللمرة الأولى على قطاع النفط الروسي، والذي شمل عملاقي الشركات النفطية الروسية (روسنفط و لوك أويل) بهدف ممارسة ضغط اقتصادي هائل على روسيا لدفعها إلى تقديم التنازلات، وخاصة في ما يتعلق بالملف الأوكراني، ولطالما أعلن ترامب ان الاقتصاد الروسي في وضع حرج ولن يتمكن من الصمود، وبالتالي فليس من المستبعد أن تكون غاية ترامب من قراره باستئناف التجارب النووية هو الدفع بروسيا نحو سباق تسلح جديد لزيادة الضغط الاقتصادي والمالي عليها.
سادساً؛ لقد بات واضحاً أن ترامب الذي عاد إلى البيت الأبيض بشعار "محاربة الدولة العميقة" وهو الشعار الذي حظي من خلاله بتأييد حركة "ماجا"، بات أسيراً للدولة العميقة التي كان ينوي محاربتها، ولقد بدا هذا التحوّل واضحاً منذ زيارته الأخيرة لبريطانيا، كما أن تمكن المحافظين الجدد من التغلغل داخل إدارته والسيطرة على دوائر القرار، وكل ذلك عكسته التحولات في سياساته الخارجية في ما يخص "أوكرانيا و فنزويلا وإيران ومؤخراً نيجيريا " سيكون ذلك كفيلاً بتحويل "رجل السلام" إلى صانع حروب بعد عجزه عن إيقاف الحرب في أوكرانيا نتيجة الضغوط الممارسة عليه من قبل مجمع التصنيع العسكري و حلفائه في حلف "الناتو".
سابعاً؛ بالنسبة إلى صانع القرار الأميركي تبقى أوروبا هي المحور الرئيسي لأي استراتيجية أميركية، ومهما بلغت الأهمية القصوى للمشاريع الإستراتيجية الجديدة، فإن أوروبا تبقى الجبهة المتقدمة لواشنطن في التنفيذ و المواجهة مع الخصوم. وعليه، فإن ترامب يدرك أن استئناف التجارب النووية سيدفع بروسيا إلى استئناف مقابل، وهو ما سيخلق مبررات حتمية لدى أوروبا لتعديل استراتيجيتها النووية و الردعية حتماً لمواجهة روسيا، وإذا كان ذلك يحقق لواشنطن مزيداً من القطيعة بين أوروبا وروسيا، ويضمن لهما استمراراً للتبعية الأوروبية لواشنطن، فإنه أيضاً يسهم في بناء درع نووي أوروبي أكثر قرباً من حدود روسيا في ظل مطالبات كل من ألمانيا وبولندا وحتى أستونيا بنشر أسلحة نووية على أراضيها لمواجهة روسيا، وهو اقتراح ربما تؤيده الدولتان النوويتان "بريطانيا و فرنسا"، وستجدان في قرار موسكو باستئناف التجارب النووية رداً على واشنطن مبرراً كافياً لتحقيقه.
ختاماً؛ لا شك في أن الصراع العالمي قد دخل مرحلة جديدة وهذه المرة بقفازات نووية، وربما كانت قمة آلاسكا هي المحاولة الأخيرة لتغيير مسار الصراع قبل أن يكتب لها الفشل، ثم جاء الإعلان عن الاتفاقية الاستراتيجية بين موسكو وبكين على مشروع خط الغاز "قوة سيبيريا 2" ليشكل الضربة القاضية لآمال ترامب في محاولاته لاحتواء روسيا وإبعادها عن الصين، وهو ما جعله يرضخ لخصومه في الداخل، ولحلفائه في "الناتو" ويعيد حساباته الإستراتيجية بعد أن ظن لفترة طويلة أن بمقدوره العبث برأس بوتين من دون أن يقدم له الضمانات المطلوبة لوقف الحرب في أوكرانيا.