تصويت المغتربين: كلام حق يراد به باطل

إصرار الرئيس بري على رفض تمرير تعديل قانون الانتخاب بالطريقة التي تُطرح اليوم، لا يمكن اعتباره ممارسة استثنائية، بل هو استخدام دستوري في مواجهة محاولة ارتكاب خطيئة كبرى.

0:00
  • يشهد لبنان كباشاً داخلياً حول بند تصويت المغتربين اللبنانيين في الخارج.
    يشهد لبنان كباشاً داخلياً حول بند تصويت المغتربين اللبنانيين في الخارج.

يشهد لبنان كباشاً داخلياً حادّاً حول قانون الانتخابات، وبشكل خاص بشأن بند تصويت المغتربين اللبنانيين في الخارج، بين من يدعو إلى استعادة مشهد عام 2022 عندما صوّت المغتربون للمقاعد الـ128، وبين من يطالب بالالتزام بنصّ القانون الصادر عام 2018، الذي نصّ على تخصيص ستة نواب إضافيين لدائرة جديدة تمثل انتشار اللبنانيين في الخارج (أوروبا، أميركا الشمالية، أميركا الجنوبية، أستراليا، أفريقيا، وآسيا).

وعلى خلفية هذه المواجهة، يعمد فريق سياسي لبناني إلى تعطيل الجلسات البرلمانية والعملية التشريعية للضغط على المجلس ورئاسته من أجل طرح مشروع تعديل لقانون الانتخابات يسمح للمغتربين بالتصويت لجميع النواب الـ128.

تُشير المعطيات إلى أن هذا التعديل لا يأتي في سياق تطوير قانون الانتخاب، بل يبدو جزءاً من خطة مدروسة تهدف إلى تشويه التمثيل اللبناني وتعديل موازين القوى داخل المجلس النيابي، في إطار مشروعٍ أكبر يسعى إلى تبديل موقع لبنان الإقليمي وإخراجه كلياً من صفّ قوى المقاومة، تمهيداً لإلحاقه بقطار التسوية والتطبيع والاتفاقات الإبراهيمية.

لا يمكن بطبيعة الحال إنكار الحسابات الداخلية الضيّقة التي تدفع بعض القوى السياسية إلى السعي لتحسين حصصها السلطوية، وهو أمر لا يتعارض مع المشروع الأكبر، بل يتقاطع معه في المصالح والأهداف.

فهذه القوى غالباً ما تستفيد من الاتجاهات الدولية والإقليمية، ولا تتردد في استغلال رغبات ومشاريع الخارج لتقوية نفوذها وتحقيق مكاسب داخلية إضافية.

ليس هذا الأمر جديداً على المجتمع السياسي اللبناني، الذي عُرف تاريخياً بضعفه أمام التدخلات الأجنبية وتماهيه مع الإرادات الخارجية وإملاءات القناصل والسفارات، إلى حدّ نقل البندقية من كتف إلى كتف وفقاً لاتجاهات الرياح الدولية والإقليمية المتقلبة.

وفي هذا السياق، تأتي محاولة قوى اليمين التاريخي الاستفادة من المتغيرات التي أفرزتها حروب السنتين الماضيتين، على قاعدة الاستقواء بالنيران الإسرائيلية لفرض وقائع داخلية تخدم مصالحها الخاصة، وتعزز نفوذها، وتقدّم في الوقت ذاته خدمات للمشروع الهادف إلى وضع لبنان بالكامل تحت الوصاية الأميركية – الغربية.

وترى هذه القوى، في الداخل والخارج، أن بوابة تحقيق ذلك هي الانتخابات النيابية، التي يجب تكريس كل الإمكانات للفوز بها. ومن المفاتيح الأساسية لتحقيق هذا الهدف قانون الانتخابات نفسه، عبر جعل أصوات المغتربين اللبنانيين مؤثرة في جميع الدوائر الانتخابية، ولا سيما تلك التي يُراد إحداث خروق فيها لمقاعد فريق المقاومة، وخصوصاً الثنائي الوطني (حزب الله وحركة أمل).

يعوّل هؤلاء على واقع أن الدول الغربية أدرجت عدداً من الشخصيات والمؤسسات المرتبطة بالمقاومة على لوائح الإرهاب والعقوبات، ما يقيّد قدرة مرشحي المقاومة على التواصل الفعّال مع الناخبين في الخارج، في حين يتحرك الطرف الآخر بحرية تامة ومن دون قيود، وبدعم من الدول المضيفة.

كما يدرك الجميع أن كثيراً من المغتربين اللبنانيين تعرضوا للاعتقال أو الإبعاد لمجرد الاشتباه بهم، أو بسبب تغريدة نشروها، أو لتواصلهم مع أقارب لهم في لبنان، أو حتى لتحويلهم مبالغ مالية لدعم أسرهم. وهذا الواقع سيؤدي بطبيعة الحال إلى إحجام عدد غير قليل من المغتربين المؤيدين للمشروع المقاوم عن المشاركة في الانتخابات، خشية الملاحقة أو العقوبات.

 هذا الأمر لا يخفى على دعاة تعديل قانون الانتخاب، بل هو في صلب حساباتهم، إذ يسعون عن سابق إصرار وتصميم إلى ارتكاب خطيئة تشويه التمثيل الشعبي اللبناني، من دون أي اعتبار لمقتضيات الوفاق الوطني وميثاق العيش المشترك.

لا يُشكّل هذا المسعى استثناءً في سلوك هذه القوى السياسية، بل يأتي امتداداً لمسارٍ ثابت تتبعه منذ سنوات، يمكن تلخيص أبرز محطاته في الآتي:

1- رفض خفض سنّ الاقتراع إلى 18 عاماً:
تُصرّ هذه القوى على رفض تعديل قانون الانتخابات بما يسمح للشباب الذين بلغوا سنّ 18 عاماً بالتصويت، رغم أنهم يشكّلون شريحة أساسية من المجتمع اللبناني، تتحمّل المسؤوليات القانونية، وتؤدي الخدمة العسكرية في الجيش اللبناني والمؤسسات الأمنية، وتُؤتمن على مهمات حساسة وخطيرة. هؤلاء الشباب هم نبض الجامعات اللبنانية وسوق العمل والإبداع، ومع ذلك يُحرَمون من حقهم الدستوري في الانتخاب بحججٍ طائفية واهية.

2- تعطيل تنفيذ اتفاق الطائف:
ترفض هذه القوى ما نصّ عليه اتفاق الطائف لجهة إقرار قانون انتخابي خارج القيد الطائفي، يقوم على دوائر انتخابية موسّعة تضمن الحد الأدنى من العدالة والتوازن. فالقانون الحالي أتاح وصول نائب بألفي صوت فقط، في حين حصل آخر على أربعين ألف صوت ما يُظهر الخلل البنيوي في النظام الانتخابي القائم.

3- ازدواجية المعايير:
تُظهر هذه القوى تناقضاً فاضحاً في مواقفها. فبينما تدعو إلى تصويت المغتربين لـ128 نائباً بحجة المساواة، نراها في الانتخابات البلدية سعت إلى تقسيم مدينة بيروت إلى دائرتين انتخابيتين، بحجة الحفاظ على المناصفة بين المسيحيين والمسلمين.
إن رفضها أن تكون العاصمة دائرة انتخابية واحدة، وسعيها لتقسيمها حفاظاً على نفوذها أو حصتها في المجلس البلدي، لا ينسجمان مع موقفها من قانون الانتخاب النيابي الذي، في حال تعديله كما تريد، سيؤدي إلى إقصاء مكوّن أساسي كان له الدور الحاسم في تأمين المناصفة في بيروت خلال الانتخابات البلدية.
في المقابل، يعكس أداء فريق المقاومة حرصاً على الاستقرار والتوازن في لبنان.

ما فعله الثنائي الوطني في تلك الانتخابات لم يكن بدافع مصلحة انتخابية ضيقة، بل انطلاقاً من رؤية وطنية شاملة تنتمي إلى مدرسةٍ تعدّ الوفاق الوطني مسألة وجودية في لبنان، وتؤمن بأن الوطن النهائي لجميع أبنائه لا يقوم إلا على ميثاق العيش المشترك والوحدة الوطنية، لا على المصالح الفئوية والأنانية.

كما حرص فريق المقاومة على الحفاظ على التنوع الطائفي من خلال احترام أعراف انتخابية كان يمكنه تجاوزها بسهولة ترجمةً لنتائج الانتخابات، فمثلاً، سمح بتولي شخصيات من طوائف أخرى رئاسة بلديات تقع في عمق الضاحية الجنوبية، وسعى إلى حفظ حقوق مختلف الطوائف في المدن الكبرى مثل بعلبك وصور وسواهما، ضمن تركيبة المجالس البلدية.

وفي الإطار النيابي، وافق الثنائي الوطني على اعتماد القانون النسبي الذي أتاح خرق لوائحه في عدد من الدوائر، في حين كان يمكنه – لو تمسّك بقانون الأكثري – أن يحصد جميع المقاعد. بل إن عدداً من النواب المعارضين للمقاومة في بعلبك الهرمل وجنوب لبنان لم يكن ليدخل البرلمان لولا هذا القانون النسبي الذي دعم الثنائي إقراره لتوسيع المشاركة على امتداد لبنان.

وفي اتفاق الدوحة عام 2008، وافق الثنائي الوطني، رغم امتلاكه فائض قوة آنذاك، على اعتماد قانون الستين بهدف طمأنة اللبنانيين، ولا سيما المسيحيين منهم، وللتأكيد أن أحداث السابع من أيار لم تكن استقواءً على أحد، بل تصحيحاً موضعياً لمحاولة المسّ بسلاح المقاومة.

هذا كلّه غيض من فيض الأداء الوطني للثنائي الوطني، الذي يقارب القضايا بعين الحريص على لبنان بكل مكوّناته.

ومن هذا المنطلق، فإن إصرار الرئيس نبيه بري على رفض تمرير تعديل قانون الانتخاب بالطريقة التي تُطرح اليوم خارج إطار التوافق الوطني، لا يمكن اعتباره ممارسة استثنائية، بل هو استخدام دستوري مشروع لصلاحياته في مواجهة محاولة ارتكاب خطيئة كبرى تمسّ جوهر الوفاق الوطني والميثاق اللبناني.

أما قوى اليمين الموالية للغرب، وفي طليعتها القوات اللبنانية والكتائب، فهي تواصل نهجها المعروف بالمغامرة بالاستقرار اللبناني ودفع البلاد نحو التوتر والانفجار، خدمةً لمشاريع خارجية ولتحقيق مكاسب فئوية ضيّقة، كما أثبت التاريخ مراراً.