"هدار غولدن" رمزية مكثفة للفشل الإسرائيلي ما قبل السابع من أكتوبر وما بعده
مثّلت رمزية احتفاظ المقاومة بجثة غولدن وتسليمها في توقيتها، مع قرب تنفيذ نهاية المرحلة الأولى من خطة وقف الحرب، حقيقة مستوى الأهداف التي حققها كل طرف منذ السابع من أكتوبر.
-
لماذا أظهرت حكومة "إسرائيل"اهتماماً استثنائياً باستعادة جثة هدار غولدن؟
تصلح قضية الأسير الإسرائيلي الضابط هدار غولدن، والذي توفي فور أسره في العدوان الإسرائيلي على غزة عام 2014، للتعبير عن امتداد الفشل الإسرائيلي الاستراتيجي للسابع من أكتوبر، وما بعد السابع من أكتوبر وسط حرب إسرائيلية أميركية غربية لإبادة غزة طوال عامين، ولكن جثة هدار المقدسة وفق القاموس العبري التوراتي ظلت حبيسة نفق في رفح، والتي مشطها جيش الاحتلال واخترق أنفاقها للبحث عنها من دون طائل.
هناك حيث زعم نتنياهو مراراً وتكراراً أن رفح بخصوصية معبرها وموقعها، وإصراره على ضرورة السيطرة عليها في آخر عهد الرئيس الأميركي السابق بايدن، والذي عارض ذلك علناً، تصلح للدلالة على نجاعة عناده العسكري ونهجه السياسي، فإذا بالمقاومة تستخرج جثة غولدن هناك أسفل قدمي نتنياهو وكاتس وزامير وكل قادة "إسرائيل" وجنرالاتها، ما يبعث على سؤال المعركة الأساس؛ ماذا كانوا يفعلون هناك طوال الوقت؟! وهل بالفعل كانت مهمة الجيش الإسرائيلي الرئيسة في غزة ورفح وجباليا أن يعيد "الرهائن" أحياءً وأمواتاً، أم هي حرب الإبادة الجماعية ليس إلا؟
أظهرت حكومة "إسرائيل" وقادة جيشها اهتماماً استثنائياً باستعادة جثة هدار غولدن، والتي كانت مرشحة للضياع وسط حرب الإبادة واستشهاد كثير من قادة كتائب القسام الذين احتفظوا بجثته لسنوات طويلة، ودارت رحى مفاوضات مكثفة بهذا الخصوص، حتى خرجت إلى العلن وشارك بتأجيج نيرانها إعلام الاحتلال، في ظل ربطها مع ما يُقال عن وجود مئتي مقاتل من القسام في رفح عالقين في نفق مغلق داخل ما يُعرف بالخط الأصفر وفق تصنيفات خطة ترامب لوقف الحرب في غزة.
وشكّلت استعادة جثة غولدن نجاحاً إسرائيلياً على صعيد ما وصفه نتنياهو بالضغط العسكري على حماس، وهو بمسمّاه الحقيقي "حرب الإبادة" التي دفعت حماس إلى تعديل أولوياتها بضرورة وقف الحرب ابتداءً وإن على حساب تحرير جميع الأسرى الفلسطينيين من المؤبدات ومباشرة الانسحاب والإعمار، نجاح إسرائيلي مفخخ برمزية الفشل المكثف، كيف حصل ذلك؟
كان يمكن لنتنياهو استعادة جثة غولدن منذ بداية الحرب عبر عمليات التبادل ذاتها التي تمت أو عبر ما يشبهها، ومن دون إراقة دماء جنود جيشه في رفح وكل أزقة غزة المدمرة، وكان يمكنه ذلك قبل السابع من أكتوبر وربما بثمن أقل، ولكن طموحاته وأجندته وجنونه جعلته يختار حرب الإبادة ولو مقابل دماء كثير من الإسرائيليين بمن فيهم الأسرى واحتمال ضياع جثامين الموتى منهم.
وما إن وضعت الحرب أوزارها أو كادت، حتى وجد نتنياهو نفسه وسياسته أمام استحقاق غولدن وجثمانه الذي طال عليه أمد الأسر في بقعة جغرافية كانت وما زالت ضمن دائرة السيطرة الإسرائيلية الأمنية، فغزة لم تخرج يوماً من الحصار والاستهداف الإسرائيليين، وجاء احتلال أرضها بعد السابع من أكتوبر طوال عامين باعتبار هذا الاحتلال البري إنجازاً لعربات جدعون العسكرية الإسرائيلية في محطتها الأولى والثانية تحت إلحاح المستوى السياسي، ولكن جثة غولدن المغيبة وسط الدمار ظلت من دون العثور عليها.
نتنياهو يقف على أطلال رفح ويتباهى بمشهد نهاية الحرب من دون وجود القائد يحيى السنوار ليرفع شارة النصر، كما سبق أن فعل بعد معركة سيف القدس 2021، ويتباهى نتنياهو أيضاً أن العقل الإسرائيلي الأمني بقدرات الذكاء الاستخباري في ظل إدارته السياسية وقراراته الصارمة، نجح في الوصول إلى قائد المحور السيد حسن نصر الله واغتيال عشرات القادة والعلماء في إيران واليمن ولبنان، ولكنه مع ذكائه الاصطناعي الخارق وسيطرة دباباته على أرض رفح، وكل ميليشيات العمالة والمرتزقة، ظل عاجزاً عن أن يصل بجنوده لاكتشاف موقع جثة غولدن، حتى قيل إنهم فتشوا ذات النفق الذي تبيّن لاحقاً أن المقاومة تخفي فيه لا في غيره هذا الجثمان، والذي ربط رئيس الأركان تسليمه بقضية ما يتردد عن العالقين من المقاومين، ما يعني حقيقة الأثمان المطلوب دفعها مقابل هذا الفشل المدوّي.
مثّلت رمزية احتفاظ المقاومة بجثة غولدن وتسليمها في توقيتها، مع قرب تنفيذ نهاية المرحلة الأولى من خطة وقف الحرب، حقيقة مستوى الأهداف التي حققها كل طرف منذ السابع من أكتوبر، فالإسرائيليون يعترفون بالإجماع بأنهم قبل السابع من أكتوبر وقعوا في غفلة استراتيجية، ولكنهم استيقظوا ويزعمون جميعاً أنهم لن يعودوا إلى هذه الغفلة مجدداً، فإذا بقضية غولدن تقرع رؤوسهم وإن من دون ضجيج صاخب، أن مستوى صحوتهم ما زال مخروقاً بكثير من الثغرات، حتى في ظل رئيس أميركي داعم بالمطلق لجرائمهم، ووسط منظومة عربية إسلامية للتطبيع، مرتهنة بالتمام للأميركي وحتى لهذا الإسرائيلي.
وحدهم شباب رفح في وحدة الظل القسامية، كما منظومة المقاومة في سرايا القدس والقسام، امتلكوا الإرادة والقدرة وضبط السيطرة، طوال سنوات العدوان والحصار وسنتين من حرب الإبادة، ليحتفظوا بما لديهم من أسرى وجثامين أسرى من دون خرق أو خلل أو لحظة ارتخاء، في تكريس جوهري لأهداف الطوفان، مع كل تكلفته البشرية والعمرانية الهائلة داخلياً، فالوحش الإسرائيلي الأميركي نجح في إبادة عشرات الآلاف من شعبنا وأمتنا، وضغط على خاصرة المقاومة الرخوة، ولكنه وسط جريمته احتفظ ببقايا عجزه الممتدة منذ الأول من آب 2014 حتى التاسع من تشرين الثاني 2025، بقرار صارم من قيادة المقاومة، ما يعني أن اليوم التالي لحرب الإبادة ما زال وسيبقى يزخر بتبعات بأس المقاومة وهيبة ردعها وإن بكثير من الحسابات الداخلية التي يتطلب النظر في واقعها.