غزة تبلسم جراحها.. وتترقّب بحذر قادم الأيام!
كثيرة هي القضايا التي تشغل بال الغزيين، وعديدة هي الملفات التي تنغّص عليهم فرحتهم بوقف المجزرة التي ارتكبت بحقهم، إلا أن رغبتهم في الحياة تجعلهم يتجاوزون الكثير من الأزمات.
-
كثيرة هي القضايا التي تشغل بال الغزيين وتنغّص عليهم فرحتهم.
على الرغم من الكارثة الكبيرة التي ألمّت بكل نواحي الحياة في قطاع غزة نتيجة العدوان الصهيوني البشع، والذي ما زال الكثير من تداعياته وآثاره مجهولاً بسبب سيطرة قوات الاحتلال على مساحات شاسعة من أراضيه، وخصوصاً تلك الواقعة في المناطق الشمالية والشرقية منه، إضافة إلى كامل مدينة رفح، إلا أن الكثير من مناحي الحياة قد عادت إلى طبيعتها، أو باتت قريبة جداً من العودة إليها.
وبالرغم من عدم سماح العدو حتى الآن، أي بعد أكثر من ثلاثة أسابيع ونصف من توقف القتال، بدخول مواد الإغاثة اللازمة والمنصوص عليها في اتفاق وقف إطلاق النار،ومنعه دخول مستلزمات الإقامة المؤقتة مثل الخيام والبيوت المتنقّلة، إضافة إلى الآليات الثقيلة من رافعات وجرّافات وشاحنات لرفع الأنقاض وفتح الطرقات، غير أن أهالي القطاع المُنهَكين والمُتعَبين، والخارجين لتوّهم من حرب إبادة جماعية مجنونة لم تبقِ ولم تذر، إلى جانب البلديات المحلية متواضعة الإمكانيات، ومعها بعض المؤسسات الدولية التي جرى تقييد معظم أنشطتها، يقومون بعمل رائع وغير مسبوق، أسهم كثيراً في التخفيف من آلام الناس ومعاناتهم، وسهّل عليهم العودة إلى ممارسة جزء من حياتهم الطبيعية، والتي تحوّلت بفعل إجرام الاحتلال الهمجي إلى جحيم لا يُطاق .
في غزة تبدو كل المناطق والشوارع والحارات أو ما تبقّى منها وكأنها ورش عمل لا تهدأ، إذ تبدأ عجلة إزالة الأنقاض، وفتح الطرقات، وإصلاح المحالّ، وتوصيل شبكات المياه في الساعات الأولى من كل صباح، غير عابئة بعمليات النسف الهائلة التي ينفّذها جيش الاحتلال على مقربة منها في المناطق الواقعة خلف "الخط الأصفر"، ومتناسية معضلة ضعف الإمكانات، وعدم توفّر الحد الأدنى منها، ولا سيّما على صعيد المواد الخام اللازمة للكثير من الإصلاحات، والتي يواصل الاحتلال منعها من دخول القطاع المنكوب والمدمّر.
عجلة الإنتاج لبعض المصنوعات المحلية مثل الملابس والأحذية، وتلك الخاصة بإنتاج المواد الغذائية والحلويات، إلى جانب المطاعم الشعبية التي تشتهر بها مدن غزة ومخيماتها عادت هي الأخرى إلى الدوران، وإن بشكل خجول بعض الشيء، خصوصاً في المناطق التي أُصيبت بنسبة دمار مرتفعة، أما في المناطق الأقل ضرراً مثل منطقة الرمال في قلب مدينة غزة، ومدن ومخيمات المنطقة الوسطى مثل دير البلح والنصيرات والبريج فإنها عادت إلى حياتها الطبيعية بنسبة تفوق الثمانين في المئة.
المجال الصحي هو الآخر شهد نشاطاً ملحوظاً، حيث جرى افتتاح العديد من النقاط والمراكز الطبية للتخفيف من الضغط الهائل الذي كان يقع على كاهل ما تبقّى من مستشفيات، والتي كانت تخصّص أثناء الحرب كل جهودها وإمكاناتها الشحيحة من أجل معالجة الجرحى والمصابين الذين كانوا يطرقون أبوابها بالمئات يومياً، وأوقفت بسببهم كل ما يتعلّق بتقديم الخدمات الطبية الخاصة بالأمراض المزمنة، والعمليات الجراحية الروتينية، إلى جانب تعطيل جزء مهم من المراكز والأقسام التي كانت تُعنى بمرضى الكلى والسرطان والعديد من الأمراض الخطيرة والقاتلة.
في الشق التعليمي الذي توقّف كلياً بفعل العدوان، ونتيجة تدمير أكثر من 95% من المدارس والجامعات والكليّات، والتي تحوّلت أنقاضها، أو ما تبقّى من مبانيها إلى مراكز إيواء لمئات آلاف النازحين الذين دّمرت بيوتهم، وهُجروا قسرياً بفعل عمليات القتل الصهيونية التي لم تستثنِ أي مكان في داخل قطاع غزة، بدت الأوضاع أفضل حالاً مع مرور الوقت، إذ إن هناك محاولات جادّة لإقامة مراكز تعليمية مؤقّتة، خصوصاً لطلاب المرحلة الابتدائية الأكثر حساسية من باقي المراحل، حيث يمكن رؤية الكثير من هذه المراكز تنتشر في أكثر من مكان، وهي على بعد خطوات قليلة من أن تبدأ نشاطها التعليمي، سواء بشكل وجاهي، أم من خلال التعليم الإلكتروني الذي ما زال يصطدم بعقبات كبيرة مثل انقطاع الكهرباء، وضعف ورداءة شبكات الإنترنت.
كثير من المجالات الأخرى يشهد نقلة نوعية وغير مُتوقّعة، ما يشير إلى رغبة جامحة في تخطّي الكثير من الصعوبات التي يضعها العدو في وجه أهالي القطاع، وإلى إرادة فولاذية تجعل من المستحيل ممكناً ومُتاحاً.
في مقابل هذا النشاط الملحوظ واللافت الذي يشهده العديد من المجالات في قطاع غزة، فإنه ما زال هناك العديد من القضايا التي تؤرّق السكان والمواطنين، بل وتقضّ مضاجعهم، وهي تشغل بال نسبة كبيرة منهم، وتجعلهم يفكرون مليّاً في خطواتهم المقبلة، والتي يربطونها بتطور الأوضاع في العديد من الملفات التي ما زالت عالقة.
إحدى أهم القضايا التي تشغل بال الغزيين هي إمكانية انهيار اتفاق وقف إطلاق النار بعد الانتهاء من تسليم جثث الجنود الإسرائيليين الموجودين لدى فصائل المقاومة في قطاع غزة، إذ إن التجربة التي خاضوها في هذا المجال، ولا سيّما بعد انهيار هدنة التاسع عشر من كانون الثاني /يناير الماضي تجعلهم يتخوّفون من إمكانية انقلاب الاحتلال الإسرائيلي على ما تم التوصّل إليه من اتفاق، خصوصاً في ظل انتهاكاته المتواصلة له والتي لم تتوقف حتى الآن، والتي تشير إلى عدم رغبته كما يقول البعض في إتمام باقي مراحله، أو الوفاء بكامل التزاماته.
هذا الهاجس منع المئات من الأسر من العودة إلى شمال قطاع غزة حتى هذه اللحظة، وهم ما زالوا ينتظرون انتهاء المرحلة الأولى من الاتفاق، ويترقّبون كيف ستسير الأمور بعد ذلك.
هذ الأمر ينسحب على العديد من أصحاب المصانع الكبيرة والمهمة كذلك، إذ إنهم يتريّثون في إعادة بناء مصانعهم أو إصلاحها، أو حتى إعادة عجلة الإنتاج في ما تبقّى سليماً منها حتى تتّضح الصورة، ويصبح موضوع عودة الحرب من جديد خلف ظهورهم.
قضية أخرى تشغل بال أهالي القطاع وهي إعادة الإعمار، والتي تستحوذ على تفكير مئات الآلاف من المواطنين الذين هُدمت منازلهم، ودُمّرت منشآتهم، وجُرفت مزارعهم، وقُطعت مصادر أرزاقهم.
حتى اليوم يبدو ألّا جديد في هذا الإطار، فلا عمليات إحصاء الأضرار بدأت، ولا تعويضات صغيرة كانت أو كبيرة صُرفت،ولا أي مواد لازمة لإعادة البناء والإصلاح دخلت إلى قطاع غزة، وهذا الأمر تحديداً يمنع من يريد الإعمار على نفقته الخاصة من التحرّك إلى الامام، إذ تخلو أسواق غزة تماماً من المواد الأساسية مثل الإسمنت والحديد وباقي مستلزمات البناء، وبعض من تلك المواد التي كانت مخزّنة منذ فترة ما قبل الحرب باتت فاسدة وغير صالحة للاستخدام، وهي تُباع لمن أراد استخدامها بأسعار فلكية لا يقدر عليها معظم أهالي القطاع المعوزين والمحرومين.
ثالثة القضايا التي تشغل بال شريحة مهمة من سكّان القطاع هي تعثّر تشكيل لجنة مؤقتة لإدارة شؤونه، سواء من الشخصيات المستقلة، أم من المهنيين والاختصاصيين "التكنوقراط"، وهي اللجنة التي يعوّل عليها معظم السكان للانطلاق نحو مرحلة إعادة الإعمار، وصرف التعويضات، إضافة إلى دورها المنتظر في تثبيت اتفاق وقف إطلاق النار، وترتيب البيت الداخلي الفلسطيني، الذي ما زال يسيطر عليه شبح الانقسام المستمر منذ حوالي ثمانية عشر عاماً.
على كل حال، كثيرة هي القضايا التي تشغل بال الغزيين، وعديدة هي الملفات التي تنغّص عليهم جزءاً من فرحتهم بوقف المجزرة التي ارتُكبت بحقهم طوال عامين كاملين، إلا أن رغبتهم في الحياة كباقي شعوب العالم، وعلى أرضهم التي بذلوا من أجلها كل غالٍ ونفيس، تجعلهم يتجاوزون الكثير من الأزمات، ويتغلّبون على الكثير من الصعوبات، فهم كما خبرهم العدو قبل الصديق، صبورون عند الشدائد والملمّات، ينظرون إلى المستقبل بعيون وقلوب مفتوحة، مليئة بكثير من الأمل والثقة، ومحمّلة بكثير من الفخر والعنفوان، ويمضون نحو تحقيق غاياتهم المحقّة والمشروعة بكل همة وإصرار مهما بلغت التضحيات.