هل يستحق العداء للإسلاميين، كل هذه الأثمان؟
غير بعيد من السودان، في قطاع غزة، تطل تجربة "جنجويدية" برأسها البشع، لتقتص من المقاومة وتدفعها أثماناً، عجز الاحتلال عن تدفيعها لها، طيلة عامين من حرب التطهير والإبادة.
-
داعمي الجنجويد لا يأبهون لردود الأفعال التي تثيرها ممارسات هذه المليشيات الإجرامية البشعة.
أن تشهر أنظمة وحكومات و"لاعبون غير حكوميين"، راية العداء لـ"الإسلام السياسي"، فهذا أمر مفهوم، وليس بجديد، وقد اعتادت المنطقة على رؤية فصول متعاقبة منه، بعضها دامٍ، وأغلبها، اتخذ من القضاء والسجون والتهميش والشيطنة، ساحات وميادين لممارسة العداء المضمر حيناً، والسافر في أغلب الأحيان، لقوى هذا التيار، على تعددها واختلاف مواقفها وتحالفاتها واصطفافاتها.
وأن تلجأ الأطراف المعادية لظاهرة ملأت الأرض والفضاء طيلة العقود الثلاثة أو الأربعة الفائتة، إلى طوفان من الحجج والذرائع لتبرير سلوكها الاستئصالي، فهذا سلوك وثقته عشرات التقارير والدراسات والأبحاث الصادرة في عواصم المنطقة والعالم، ولسنا بجاجة إلى الاستزادة... وأن تجد هذه الأطراف، في أخطاء وخطايا بعض أركان هذا التيار، ما يكفيها لـ"تذخير" حملاتها وتبريرها وتسويقها، فذلك ما حصل في غير زمان ومكان، اعترفت ببعضها حركات "الإسلام السياسي" وتجاوزت عن أغلبه، مفضّلةً، شأنها في ذلك شأن خصومها ومجادليها، تبرئة الذات واتهام الآخر.
لكن، أن يصل الأمر ببعض هذه الأطراف، من أنظمة ولاعبين "لا-دولاتيين"، حد اللجوء إلى "خيار شمشون"، وتدمير الأوطان وتقسيمها، وتسويق وتسويغ "العمالة" و"الخيانة" والتعامل مع العدو، فذلكم أمر، لا يمكن تفهمه ولا قبوله، ومن العار على أي فريق التساوق معه، أو الوقوف على الحياد حيال ظواهره وتداعياته ومفاعيله... وهنا سنكتفي بالوقوف أمام "تجربتين" طافحتين، بالمعاني الكاشفة عن مدى الإسفاف والتهافت.
السودان: التطبيع ليس شفاعة
يقف السودان كشاهد على عمق الدرك الذي بلغته حملات العداء، العابرة للحدود، لكل ما (ومن) له صلة بالإسلام السياسي...لم يشفع للجنرالين المتحاربين، أنهما اختطفا ثورة ضد نظام تلفع بالإسلام السياسي، وقاد البلاد إلى التقسيم والانقسام، وتركه نهباً للديون والأطماع والتدخلات الخارجية...كما لم يشفع لهما، "سباق المسافات" الذي انخرطا فيه، لكسب ودّ "إسرائيل" والتطبيع معها، أحدهما "تسلل" إلى "عينتيبي" للقاء بنيامين نتنياهو، واختيار المكان لم يكن مصادفة أبداً، فقد أراد منظموه، أن يكون بمنزلة "تكريم" لرئيس الوزراء الإسرائيلي، في المكان ذاته، الذي سقط فيه شقيقه، قتيلاً على يد فدائيين فلسطينيين ذات يوم من عام 1976.
أما الجنرال الثاني، فقد سلك طريقاً استخبارياً خلفياً، لنسج خيوط التعاون مع الإسرائيليين، كدأبه منذ نشأته بين أحضان أجهزة المخابرات المحلية والإقليمية، للقيام بدور "الوكيل المعتمد"، حدث ذلك زمن عمر حسن البشير، عندما اشتهر بقيادته لمليشيا الجنجويد التي عاثت قتلاً وتخريباً واغتصاباً وتنكيلاً، بدارفور وأهلها، ليواصل بعد ذلك، الدور ذاته مع توسيعه ليشمل كل السودان، وإن تحت أسماء وألقاب أخرى، وبرعاية من أجهزة استخبارية إقليمية وعربية مختلفة...وبأجنحة "إبراهيمية" حملت خيوله، أو بالأحرى "إبله" إلى معسكرات الموساد والأجهزة الأمنية الإسرائيلية، طلباً للعون والخبرة في إدارة الإجرام والإبادة.
اصطدم الجنرالان بعد شهر عسل قصير، ذهب كل منهما إلى طريقه بحثاً عن المدد والإسناد، أحدهما رفع الحظر المفروض على بقايا النظام السابق وحزبه الحاكم، وأبرم تحالفات "الأمر الواقع" مع قوى محسوبة على "الإسلام السياسي"، أما الثاني، فقد ذهب بعيداً في الانصياع لمقتضيات تحالفاته الإقليمية، مطمئناً إلى حمايتها ودعمها السخي بالمرتزقة والسلاح والمسيّرات، وهو بالمناسبة، دعمٌ مدفوع من جيوب السودانيين و"ذهبهم المنهوب".
راعي الإبل الذي صار جنرالاً من دون أن يجتاز "الابتدائية"، وتحوّل إلى "جبل من ذهب"، لن يكتفي بـ"مجد الدنيا"، بل كلّف أعوانه البحث والتنقيب في بطون الكتب، علّهم يجدون له صلة بالبشارة المزعومة، القائلة بأن "راعي إبل" سيخرج من السودان، لنصرة الأمة (الثُلّة المؤمنة)، وأن هذا الراعي، لا تسوءه "أميّته"، فالله "بعث في الأميين رسولاً منهم"، وأنه منذور لدور يتخطى "السودان" و"البيضان" إلى الأمة بأسرها.
نفهم أن يُقدِمَ حميدتي-دقلو، على تقتيل أهل دارفور مرتين، المرة الأولى زمن البشير، والثانية هذه الأيام، ونفهم تجرّد الرجل من كل قيمة وخلق في حربه على السلطة والثروة في هذه البلاد، واستنجاده بكل من يمكن أن يقدم له العون والمدد ... بيد أننا لا نفهم أن يدفع العداء للإسلام السياسي، وربما للإسلام بذاته، بدول وعواصم مهمة، لأن تكون عوناً في جرائم الجنجويد، ومعولاً لهدم وحدة السودان وتمزيق نسيجه الاجتماعي، وتفتيح أبوابه على كل العواصف وعاتيات الدهر.
ما الذي يخشاه هؤلاء من بقاء الإسلام السياسي على قيد الحياة في بلد بعيد، تفصلهم عنه كثبان وجبال وبحار؟ ما الذي يرتجونه من بلد لم يبرأ بعد من جراح تقسيم أول، حتى يشرع في تطبيب جراح تقسيم ثانٍ، وربما ثالث ورابع؟ ... وهل يستحق العداء للإسلام السياسي كل هذا العناء، وكل هذه الأثمان؟ ... أي استهتار هذا، ولماذا تصمت عواصم العرب وجامعتهم، فيما التطورات الجارفة في بلد "اللاءات الثلاث"، تكاد تجرف أمنهم القومي، وأمن حواضرهم ودولهم الأساسية على ضفتي البحر الأحمر، وليس على ضفة واحدة منه فقط؟
غزة: المقاومة ليست شفاعة
غير بعيد من السودان، في قطاع غزة، تطل تجربة "جنجويدية" برأسها البشع، لتقتص من المقاومة وتدفعها أثماناً، عجز الاحتلال عن تدفيعها لها، طيلة عامين من حرب التطهير والإبادة... مليشيات أربع، تقول التقارير، إن لديها "حبالاً سُريّة" وليس حبلاً واحداً، تمتد إلى العواصم العربية ذاتها، وتضرب جذوراً لدى بعض مراكز القوى المتنفذة في رام الله، وجميعها، تحظى برضى "إسرائيل" ورعايتها ودعمها...وبصورة تشي بأن رعاة جنجويد السودان، هم أنفسهم رعاة "جنجويد فلسطين"، من ميليشيات "حلس" و"الأسطل" و"أبو شباب" و"المنسي"...وهم أنفسهم رعاة أكثر من جنجويد في أكثر من بلد عربي، أشهرها بعد السودان، في ليبيا واليمن.
هنا، نفتح قوسين، لنذكّر بأن بعضاً من قوة المقاومة واقتدارها، إنما كان يأتيها من السودان، زمن البشير، وبرعاية إيرانية لم تعد خافية على أحد، لأنها لم تكن خافية على "إسرائيل"، التي شنّ طيرانها الحربي، ونفذت أجهزتها الاستخبارية، عمليات استهداف ضد ما كان يعرف بأحد شرايين الدعم لغزة ومقاومتها، ونفذت واشنطن مباشرة، ضربات في الخرطوم، ضد مصنع الشفاء، زمن بيل كلينتون في عام 1998، ظناً منها أنه مصنع لإنتاج الأسلحة والصواريخ...لكأن غزة والسودان، تُعَاقبان بأثر رجعي، من قبل القوى والأطراف ذاتها.
لم تشفع مقاومة "الإسلام السياسي" الأسطورية في غزة، لحماس والفصائل الأخرى، كما لم تشفع "الميول التطبيعية" للبرهان، له ولجيش السودان، عند هذه الأطراف...فاستحق الجانبان، عقاباً مفتوحاً، حتى وإن أفضى الأمر، إلى تشظي بلد بأكمله، أو السير يداً بيد، وكتفاً إلى كتف، مع نظام الفصل العنصري والتطهير العرقي والإبادة الجماعية.
وثمة مفارقة لا تخطئوها العين حين نرى أن داعمي الجنجويد، لا يأبهون لردود الأفعال الغاضبة التي تثيرها ممارسات هذه المليشيات الإجرامية البشعة...في غزة، لا يأبهون لصوت الإجماع الشعبي ضد العملاء والخونة، بل ويحرضون "إسرائيل" على عدم وقف الحرب قبل الانتهاء من حماس، و"تحرير" غزة من نفوذها، وفي السودان، يعطون أذناً من طين وأخرى من عجين، لموجات الإدانة والاستنكار العالمية لجرائم الدعم السريع في الفاشر ودارفور، وهي موجات جذبت إلى صفوفها حكومات ومنظمات، بعضها لم يُعرف بصداقته أو تعاطفه مع "الإسلام السياسي"، وبعضها الآخر، ناصبه العداء في غير ساحة وزمان... إنهم يصرون على ممارسة دور "رأس الحربة" ضد هذا التيار، مهما كان الثمن ومهما بلغت خطورة مغامراتهم ومقامراتهم.