من "الفتوة" إلى "البلطجي".. الدراما المصرية تغرق في مستنقع العنف؟
كيف انزلقت الدراما المصرية إلى الترويج لــ "البلطجة" على حساب أخلاقيات "الفتوة" التي قدّمها نجيب محفوظ في أعماله؟
على خلاف شخصية "الفتوة" التي قدّمها الأديب المصري، نجيب محفوظ في أعماله، والتي سعت إلى ترسيخ قيم العدالة والشهامة، انزلقت الدراما المصرية خلال السنوات الأخيرة إلى مسارٍ مختلف. إذ تحوّلت من أداة لبناء الوعي المجتمعي إلى وسيلة تروّج للعنف والإسفاف وتُمجّد "البلطجة" على حساب القيم والأخلاق.
وبدل أن تعكس التجارب الإنسانية وقضايا المجتمع، كرّست الدراما خلال العقدين الأخيرين صورة "البلطجي" كبطل شعبي يُحقّق العدالة خارج القانون، ما عزّز منسوب العنف خاصة في الأحياء الشعبية، وفقاً لآراء نقّاد فنيين.
وفي ظل تصاعد الانتقادات، أعلنت الحكومة المصرية في آذار/مارس الماضي بتوجيه من الرئيس عبد الفتاح السيسي عن تشكيل لجنة لمتابعة الأعمال الدرامية وتعزيز الهوية الوطنية، مع تأكيد ضرورة تقديم محتوى يُجسّد الواقع المصري الإيجابي ويعزّز القيم المجتمعية.
"فتوات" نجيب محفوظ و"بلطجية" محمد رمضان
-
الفنان الراحل نور الشريف في لقطة من مسلسل "الحرافيش"
في كتابها "الفتوة في السينما المصرية" تفرّق الكاتبة والناقدة المصرية، ناهد صلاح، بين "الفتوة" التي تعني في العامية المصرية الرجل القوي، وصاحب السلطة والسطوة، و"البلطجي" وهو الخارج عن القانون والذي يعاني من الفقر والجهل والظلم والقهر التي تخلق من المواطن الصالح مجرماً.
وكان أبرز الكتّاب المصريين الذين قدّموا شخصية "الفتوة"، نجيب محفوظ، في فيلم "فتوات الحسينية"، عام 1945، وتوالت كتاباته عن الفتوات، مثل "الحرافيش" التي قدّمت حكايات تمثّل أجيالاً متعاقبة من الفتوات لترصد تحوّلات المجتمع المصري في فترات الأربعينيات والخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، مستلهماً من التراث الشعبي و"الحارة" المصرية خلفية لكشف تلك التحوّلات وتداعياتها.
لكنّ محفوظ الذي صوّر الفتوة على أنها رمز للقوة الجسدية والقيم النبيلة والعدل، ينتقد الجوانب السلبية في شخصية هؤلاء الفتوات مثل العنف الزائد أو الاستبداد، بخلاف الأبطال الرئيسيين في الدراما الحالية. إذ يحققون العدالة بطرقهم الخاصة وبسلوك إجرامي منحرف يفتقر إلى البعد الأخلاقي والاجتماعي بعيداً من القانون، وفق تصريحات الناقد الفني، أحمد الشربيني، لــ "الميادين الثقافية".
ويضيف الشربيني أنّ نماذج "البلطجة" وإن بدأت كعنصر هامشي في السبعينيات والثمانينيات، وتصاعدت مع فيلم "الإمبراطور"، فقد حدث التحوّل الكبير في العقد الأخير مع مسلسل "الأسطورة" عام 2016، للفنان محمد رمضان، الذي قدّم المناطق الشعبية كبؤر إجرامية والبلطجي كبطل شعبي أسطوري والعنف تعبيراً عن الفقر والتهميش.
وتكرّر نموذج البلطجي مع مسلسل "ملوك الجدعنة" عام 2021 ، الذي ركّز على الإثارة لجذب الجمهور وتعزز العنف ضد القانون، وهو ما يتشابه مع ما قدّمه مسلسل "بيت الرفاعي" عام 2024 من بطولة محمد رمضان أيضاً، بتركيزه على النهب والانتقام وغياب دور الشرطة، ما يشجّع على الاعتقاد داخل المجتمع المصري، بأنّ العنف ينتصر في النهاية وهو السبيل لردّ الحقوق، وفق الشربيني.
أما الروائي يوسف القعيد، فيقارن بين الفتوات الذين عبّر عنهم نجيب محفوظ في أعماله الروائية، وبين نموذج البلطجي في الدراما المصرية الحالية، مشيراً في حديث مع "الـميادين الثقافية"، إلى أن "فعل البلطجة انتشر حالياً بديلاً من عصر الفتوة، وبينهما فارق كبير، فالبلطجي كلمة تركية معناها حامل البلطة، والفتوة كان يحترم العادات والتقاليد وقيم المجتمع، بعكس البلطجي الذي يستولي على حقوق الناس بقوة السلاح".
أعمال رسخت البلطجة والعنف
-
محمد رمضان في لقطة من مسلسل "الأسطورة"
تتسابق الدراما المصرية حالياً في تناول أعمال تمجد البلطجة والعنف والصراعات بين أصحاب رؤوس الأموال المشبوهة، حيث غرقت مسلسلات 2025، في "مستنقع البلطجة"، وفق "مركز إنسان للإعلام".
وشهد هذا العام توطيناً أكبر لفعل "البلطجة" مع مسلسلات مثل "فهد البطل" الذي يركز على صراعات دموية في أحياء شعبية، و"ولاد الشمس"، الذي يروّج للعنف كوسيلة لمواجهة الظلم، و"العتاولة 2" الذي يصوّر العصابات والنهب، وكذلك "سيد الناس" و "الحلانجي" بتركيزها على الاتجار بالمخدرات والسلاح.
ولا يختلف الأمر كثيراً مع مسلسلات "حكيم باشا" و"قلع الحجر 2"، و"الشرنقة"، لترويجهم لأعمال لتجارة المخدرات والآثار والخيانة الزوجية، بينما يصف النقاد مسلسل "إش إش" بأسوأ الأعمال لتضمّنه دراما تصوّر العري ومشاهد الرقص المبتذل والرذيلة. أما أعمال مثل "وتقابل حبيب"، و"شباب امرأة"، فجسّدت مشاهد تخدش الحياء العامّ لتناولها قضايا الجنس بشكل فجّ.
وبحسب الموسيقي والكاتب، طارق عباس، فإنّ الأعمال الدرامية المصرية، وعلى مدى السنوات العشر الماضية، "تزداد هبوطاً وانحداراً بمرور الوقت، سواء على مستوى المضمون والفكرة، أم على مستوى الشخصية أو اللغة المستعملة في الحوار وطبيعة الدور الذي تؤديه الشخصية".
وأضاف في حوار مع "الميادين الثقافية"، "تمعن بعض الدراما المصرية والعربية في تصوير القضايا التي يتمّ اصطناعها كأولوية للمجتمعات العربية ومن أخطرها البلطجة التي باتت ضيفاً ثقيلاً يزورنا كلّ عام بالإكراه".
دراما تعزز العنف الاجتماعي
-
نجيب محفوظ
تشير دراسة لجامعة القاهرة إلى أن الدراما المصرية التي تركز على العنف تزيد السلوكيات العدوانية بين الشباب، الذين يقلدون البلطجية كقدوة، مما يعزز السلوكيات العنيفة ويقلل من احترام القانون، كما أن تصوير الأحياء الشعبية كبؤر للجريمة يُشعر سكانها بالتهميش.
ومن وجهة نظر بعض النقّاد وخبراء الفن، فإنّ السينما والدراما المصرية تبالغ بالتركيز على الجوانب السلبية وتقدّم الشخصيات الخارجة عن القانون أبطالاً رئيسيين، كتجّار المخدرات وأصحاب النفوذ، كمثل أعلى للشباب، مشيرين إلى أن صُنّاع الدراما، يسعون لتحقيق "الترند" وزيادة نسب المشاهدات، بينما يركّز الفنانون على تحقيق النجومية من دون الاكتراث بالمجتمع وهمومه الرئيسية.
وحول هذه النقطة يقول الكاتب سامح عسكر لــ "الـميادين الثقافية"، إنّ الدراما الحالية "تركّز على الإثارة الرخيصة التي تغذي العنف الاجتماعي ليصير هذا "البلطجي" رمزاً للعدالة والصراعات الاجتماعية، ومثالاً يُحتذى به بين فئات الشباب بالمناطق الشعبية"، لافتاً إلى أنّ "الخطورة في استلهام الشباب لتلك النماذج ومحاكاة تصرفاتها وسلوكها اليومي أو مظهرها الشخصي".
أما الناقد الفني، أمجد عاشور، فيقول إن الدراما في مصر "دأبت على تكرار غير مسبوق لأعمال العنف والبلطجة، من دون تقديم قضايا حقيقية تمس المواطن"، مضيفاً أن "الخطورة تعود إلى إمكانية تقليد الشباب لتلك الشخصيات التي تبالغ في العنف وتتجاوز حدود الفن".
