"حيفان": ملتقى التجارة ومعزوفة العاشقين

من سمات أغنية المكان في اليمن استيعابها ثقافة الأمكنة وتفاصيلها، من ذلك ما تجلى من استيعاب غنائي، حظيت به بعض من خصائص منطقة "حيفان"، جنوب محافظة تعز وسط اليمن.

من سمات أغنية المكان في اليمن استيعابها ما يمكنها استيعابه من ثقافة الأمكنة وتفاصيلها. ولا سيما تلك التي تسمو بالعلاقات والمضامين العاطفية، إلى لذة المحبة المنسابة في حنايا العاشقين. من ذلك ما تجلّى من استيعاب غنائي، حظيت به بعض من خصائص منطقة "حيفان"، جنوب محافظة تعز وسط اليمن.

خصوصية المكان والتاريخ

لمديرية "حيفان" حضور بارز في الذاكرة اليمنية؛ إذ كانت مركزاً اقتصادياً وتجارياً مهماً، في التبادل التجاري بين شمال اليمن وجنوبه، قبل إعادة توحيد اليمن في 22 أيار/مايو 1990. 

كما اتسمت بطابعها المدني الأكثر اهتماماً بالتعليم؛ ففيها أسست أول مدرسة نظامية في الشطر الشمالي عام 1956، كان اسمها "مدرسة البعث"، ثم صار بعد ذلك "مدرسة الحرية". 

كما ينتمي إلى "حيفان" كثير من الشخصيات الوطنية، التي أسهمت في نجاح الثورة اليمنية في 26 أيلول/سبتمبر 1962، و14 تشرين الأول/أكتوبر 1963. وينتمي إليها أيضاً عدد من الشخصيات الثقافية البارزة، من مثل رائد القصة القصيرة في اليمن، محمد عبد الولي، والفنان أيوب طارش عبسي، ومثله الفنان، عبد الباسط العبسي. 

أما مكانة "حيفان" الاقتصادية، فإنها غير مقصورة على ما تمثّله من مركزية لسوق التبادل التجاري، بل تشمل نشأة بيوت تجارية وازنة وعريقة فيها، من أهمها: بيت هائل سعيد أنعم، وبيت إخوان ثابت، وبيت شاهر عبد الحق.

معزوفة العاشقين

تماهت "حيفان" في تجارب وجدانية، قامت عليها مضامين بعض الأغاني، كأغنية "أناديك من حيفان" [1]، وأغنية "طلّ القمر"، التي تعدّ أيقونة هذا التماهي بين المكان واخضرار العاطفة فيه.

تتميّز أغنية "طلّ القمر" بهويتها الحيفانية شعراً وغناءً. إذ كتب كلماتها ابن "حيفان" الشاعر عبد المجيد الأغبري، ولحّنها وغنّاها ابن "حيفان" أيضاً، الفنان أيوب طارش. وتستهل ترنيمها انتشاءً بجمال إحدى الأماسي المقمرة في "حيفان":

طلّ القمر واشرق بنور وضاح

على "المدارة"، و"القباعة"، و"الجاح" [2].

ومن جمالية الانتشاء بالضوء، تمضي بشاعرها إلى ذكرى الحبيبة، التي وردت بصيغة المذكّر، هذه الصيغة الشائعة في شعر الغناء اليمني [3]:

لو كان لي بين الضلوع أجناح

لا طير لك ويا قمر بحيفان [4]

يتمنى الحبيب هنا امتلاك أجنحة الطير؛ ليصل بها إلى حبيبته، وفي ذلك إحالة على المسافة الفاصلة بينهما؛ فمن خلال ما سيأتي من تفاصيل سياق الأغنية، يتجلى مكان الحبيب في عدن، ضمن من قدم من أبناء الشطر الشمالي للعمل فيها، إذ كانت حاضرة الجزيرة العربية في النصف الأول من القرن العشرين. 

أما الحبيبة، فباقية في "حيفان"؛ وفقاً لما تشير إليه الكناية عنها في "قمر حيفان"، بما في هذه الكناية من ارتقاء بالحبيبة إلى أن تكون قمر المنطقة كلها، إن لم تكن متماهيةً فيه، ملامسةً عاطفة الحبيب البعيد، الذي استعاد ذكرى البلاد، بحنين جارف إليها، وإلى الحبيبة المطمئنة في ربوعها:

"حيفان" حياة يرعى الحبيب فيها

سعد المنى يوم السفر إليها

قد زاد شوقي والحنين إليها

إلى رباها سهلها ووديان

ثم يعود نسق التماهي بين الحبيبة والقمر، في تعبير الشاعر عن إحساسه بأنها هي مصدر جمال القمر وضيائه، إذ يقول:

نور القمر من نور وجه خلي

يضوي شمالاً وجنوب وقبلي [5]

أفديه أنا بالروح وكل أهلي

ساجي العيون طرفه كحيل نعسان

لقد تجاوزت الحبيبة القمر، فكانت هي وجهه ونوره الممتد إلى كل الجهات، بما فيها تلك التي ينزوي فيها الحبيب، الذي يهون عليه كل شيء فداءً للحبيبة ذات العيون الكحيلة. ذاك المعذب باغترابه، الشاكي إلى القمر حال بكائه شوقاً وحنيناً إلى فتاة قلبه:

يا بدر يا عالي على السحائب

يا سلوة العشاق والحبايب

دموع عيني كالسحاب ساكب

على الحبيب اللي سكن بحيفان

وتظهر جمالية اختيار لفظة "البدر"، الدالة على اكتماله، بدلاً من لفظة "القمر"، مجسّدةً نسقاً من تداعي الشاعر مع لحظة الشرود، التي استحضر فيها جمال قد الحبيبة، كما استحضر اكتمال بهاء جمالها في اكتمال ضوء القمر:

وجه الحبيب كالبدر في اكتماله

خويزران القد في اعتداله

ومن استحضار الحبيب لجمال حبيبته، يمضي في مناجاة البدر، ملتمّساً منه إخباره عن أحوالها؛ عله يمحو بذلك بعضاً مما علق في نفسه من أحزان فراقها:

بدر الدجى خبّرني كيف حاله

وامحي همومي والغموم والاشجان

تجانس إيقاعي

لقد تشكّل المقطع الأول من هذه الأغنية بمضامين الذكرى والحنين؛ فتجانست مع إيقاعه الغنائي الموسيقي، الذي يتدفّق بهدوء متسق مع لوعة الفراق وتأوّهات الشكوى. 

كما تجلّى تجانس مماثل في المقطع الثاني، الذي تجانس تسارع إيقاعه مع معانيه، المحيلة على رغبة الشاعر، في تسريع سفر القافلة التجارية؛ لتصل برسالته إلى حبيبته في أسرع وقت ممكن.

وبدأ المقطع الثاني، بمخاطبة عدد من الأماكن في "حيفان"، مشيراً إلى بعض مآثرها وتاريخها المشرق، وحيويتها الاقتصادية والتجارية، التي أحالت عليها صفة "ملتقى الأموال والتجارة". لينتقل بعدها إلى مخاطبة قافلة تجارية، وهي مغادرة عدن في طريقها إلى "حيفان":

يا قافلة يا حاملة حراير

خفي المسير وسابقي البوادر

جمال تجمل بالرحيل بادر

وافرد حمولك وسط سوق حيفان [6]

تعني "جمال"، الشخص الذي يتولى العناية بجمال القافلة التجارية، وتحيل هذه المهنة على زمن كتابة كلمات هذه الأغنية. ذاك الزمن الذي كان اليمن فيه يعتمد على الحيوانات حميراً وجمالاً وسائل نقل ومواصلات، قبل أن يعرف المواصلات الحديثة، التي أسفرت عنها الطفرة الصناعية العالمية.

وفي السياق نفسه، تتجلّى الإحالة على صعوبة الاتصالات بين شطري الوطن ــ آنذاك ــ إذ اضطر الحبيب إلى إرسال سلامه إلى حبيبته مع أحد المسافرين في تلك القافلة، حاثّاً "جِمالها" على التعجيل بالسفر، ليصل بالبضائع إلى سوق "حيفان"، ومن ثم ينطلق إلى الحبيبة برسالته إليها:

شل السلام مني مع التحية

إلى الرشا والكوكب المضية

باهي الجبين والطلعة السنية

ندي الخدود كالورد فوق الاغصان [7].

يسترسل الحبيب في وصف محبوبته، ولا سيما في ما يتجلى من اطراد لصفة الضياء في جمالها، بعد الكناية عنها بـ"الرشا". بما في ذلك من اتساع هذا الاسترسال، ليشمل بالسلام كل الأهل والأقارب:

يهدي السلام للأهل والعشاير

من كان منهم غائباً وحاضر

أنا قليبي كم يبات ساهر

شريد الافكار مكتسي بالاحزان

وصلت رسالة الحبيب إلى حيث يريد، ثم عليه أن ينتظر رد الحبيبة، برسالة مماثلة، ستصل إليه بالطريقة نفسها، مع "جمال" قافلة مقبلة من "حيفان" إلى عدن. كما أنّ عليه أن يتصالح مع احتسائه مرارة الانتظار، تلك التي تضمّنها تساؤله عن المدى، الذي عليه أن يظلّ فيه ساهراً حتى يصل إليه ذاك الردّ المنتظر.

لقد عبّرت هذه الأغنية عمّا كان من صعوبة في التواصل بين الحبيبين المتباعدين، أحدهما في شمال الوطن والآخر في جنوبه؛ فاتسمت بجمالية استيعاب خصوصية الزمن الذي كتبت فيه. 

كما اتسمت بديمومة جمالية أخرى، تمثّلت في إمكانياتها الدلالية، التي تؤهّلها إلى استيعاب التعبير، عن أحوال انقطاع التواصل بين الحبيبين، في أية لحظة معاصرة ــ على ما فيها من ثورة اتصال حديثة غير محدودة، حينما لا يتعلق الأمر بتقنية الاتصال، بل بمسارات علاقة حبيب مع محبوبة من "حيفان"، تداعت مع ظروف حتّمت عليها إنهاء علاقتهما، إلى حدّ أن تفصح عن رغبتها في قطع خيط التواصل بينهما، فيجد الحبيب في مضامين هذه الأغنية ملاذاً تعبيرياً عن حال شوقه وحنينه إليها، وعذاب انتظاره لانحسار اعتبارات الغياب.

 
 [1] كلمات الشاعر عبد الحق سعيد الحيفاني، ألحان وغناء الفنان محمد حمود الحارثي.
 [2] أسماء مناطق وجبال في "حيفان".
 [3] كثيراً ما شاع استخدام صيغة المذكر، في الإشارة إلى الأنثى الحبيبة، ضمن نسق من التورية إليها، بما يتسق مع الثقافة الاجتماعية من ناحية، ومع شيوع هذه التقنية الفنية، في الشعرية العربية القديمة والحديثة، من ناحية أخرى.
 [4] "لاطير لك": كي أطير إليك. "ويا قمر": الواو هنا زائدة استدعاها الوزن الشعري.
 [5] "يضوي": يضيء. "قبلي": باتجاه القبلة.
 [6] "حراير": حرير، أقمشة. "افرد حمولك": افرغ ما تحمله.
 [7] "شل": احمل. "المضية": المضيئة.

اخترنا لك