خيط بين كأسين
في تلك البلاد الممزقة بين غزة والضفة والأراضي المحتلة، كان أحمد واحداً من آلافٍ لم يعودوا يحلمون. لأن الحلم هناك، مثل الخيط، يمكن أن يُقطع في لحظة، وتبقى الكأس فارغة، تنتظر صوتاً لن يعود.
-
غزة
لم يعد يحلم.
يا إلهي، حتى الحلم أصبح ممنوعاً عليه. كان يجلس على سطح بيته، يحدّق في السماء الرمادية كمن يحاول اقتناص فكرةٍ من بين الغيوم، لكنه لم يعد يرى سوى شريطٍ من دخانٍ يتسلل من بيتٍ بعيدٍ أصابه القصف قبل أيام. كان يعيش في زمنٍ لا يعرف سوى الانتظار: انتظار الكهرباء، انتظار الماء، انتظار الفجر الذي قد يأتي برصاصة، أو باعتقالٍ يخلعك من دفء الوسادة إلى ظلمةٍ بلا زمن.
كان اسمه أحمد، شاب من غزة لا يعرف كيف يمكن للإنسان أن يُخطّط لغدٍ لا يملك فيه دقيقة واحدة من الأمان. كل يومٍ يستيقظ على صوتٍ غريبٍ. إما أزيز طائرة، أو بكاء طفل، أو صراخ أمّ تبحث بين الركام عن صورةٍ لم يتبقَّ منها سوى إطارٍ محروق. ورغم ذلك، كان في داخله صوت صغير يقول: "تَنَفَّس... فقط تنفّس، لعلَّ الهواء لا يزال حيّاً هنا".
في المساء، حين يهدأ الضجيج قليلاً، يجلس أمام النافذة الصغيرة، يحدّق نحو الغرب، نحو البحر الذي لم يعد بحراً، بل جداراً مائياً يفصل بينه وبين ما تبقى من حلمه.
هناك، في الطرف الآخر من البلاد، في الضفة الغربية، يعيش صديقه الذي لم يره منذ 5 سنوات. بينهما حواجز، وأسلاك، ونقاط تفتيش، وكوابيس تتكلم بالعبرية. كانا يتحدثان عبر الهاتف أحياناً، لكن المكالمات تُقطع فجأة، كأن الاحتلال نفسه يضع إصبعه على الأثير ويقول: "كفى، لا مزيد من التواصل".
تذكّر لعبة الطفولة: كأسان من البلاستيك، وخيطٌ يمتد بينهما. كان يربط أحد الكأسين عند فمه، وصديقه يُمسك الآخر بعيداً، ثم يتحدثان. الصوت ينتقل، يرتجف الخيط، فيضحكان من دهشتهما الأولى بأن الهمس يمكن أن يعبر الهواء. قال لنفسه ذات ليلة: "ربما الحياة كلها خيطٌ كهذا، إن انقطع، مات الصوت، وانتهى كل شيء".
لكن في فلسطين، حتى الخيط يصبح تهمة. أي خيط يمتد بين قلبين، بين مدينتين، بين حلمين، هو خطرٌ على من يملكون الحواجز.
كان سامر يعيش مع والدته في بيتٍ صغيرٍ قرب المخيم. والدته، امرأةٌ منهكة من البكاء حتى صار الحزن في وجهها ملامح دائمة، كانت تزرع الأمل في كلمتين: "ارجع باكراً". كانت تعلم أن كل خروجٍ من البيت مغامرة، وأن كل عودةٍ نعمة. حين يغادر صباحاً ليعمل في المخبز، تضع يدها على صدره وتقول: "احمل قلبك جيداً، لا تتركه هناك".
وفي المساء، حين يعود محمّلاً بالغبار، يضحك قائلاً: "عدت يا أمّي، القلب ما زال في مكانه". لكنها لا تضحك. تنظر إليه طويلاً كأنها تودّ أن تحفظ ملامحه جيداً، تحسباً لليلةٍ لا يعود فيها.
في تلك الليلة، لم يكن في الحيّ سوى صمتٍ ثقيلٍ يقطعه هدير الطائرات. جلس سامر على سطحه مجدداً، ربط خيطاً طويلاً بين كأسين بلاستيكيين، كما في طفولته، وعلّقه بين سطح بيته وسطح الجارة.
قالت له الجارة وهي تضحك: "ما زلت طفلاً؟" فأجابها بهدوء: "أحياناً أحتاج أن أسمع الصوت من دون أن أراه، لأن الرؤية أصبحت مؤلمة".
تحدّث عبر الخيط مع صوتٍ لا يراه، ربما كان صوتها، أو صوته الداخلي، أو صدى الله في الفراغ. كل كلمةٍ تهتز عبر الخيط كانت تشبه صلاة صغيرة، وعداً بأن ثمة حياة ما زالت تتحرك في هذه الأرض الميتة.
عند الفجر، انكسر الحلم كالكأس. طرقٌ عنيفٌ على الباب، صراخ بالعبرية، فوضى. الجنود يقتحمون البيت، يكسرون الأثاث، يفتشون الخزائن، يصرخون في وجه الأم التي تمسك بيد ابنها وتقول: "إنه لم يفعل شيئاً". لكن الجندي لم يكن يسمع سوى صوت الأوامر في سماعته. اقترب من سامر، كبّل يديه، وسحبه إلى الخارج. لم يفهم الشاب ما الذي يحدث. كان يسمع فقط ارتطام الخيط بالكأس على السطح، كأن اللعبة القديمة تحتج على انقطاعها.
اقتادوه إلى الشاحنة العسكرية، وهناك بدأ الزمن بالانهيار. رأى وجوهاً كثيرة بلا ملامح، صراخاً يُترجم كل اللغات إلى لغةٍ واحدة: الخوف. كان يحاول أن يتذكر آخر صوتٍ سمعه قبل أن يُغلق الباب الحديدي عليه، فتذكّر صوت أمه وهي تصرخ: "سامر" وتذكّر الخيط يتدلى من السطح، وكأن السماء نفسها نسيت أن تشده.
في الزنزانة، لم يكن هناك سوى جدارٍ رطبٍ ونافذةٍ صغيرةٍ تطل على العدم. كان يسمع أصوات السجناء كأنها تأتي من عمق الأرض، أصواتاً بلا وجوه، تهمس بالحياة رغم كل شيء. كان يسأل نفسه: "هل يمكن للصوت أن ينجو من الأسر؟ هل يمكن للخيط أن يمتد حتى هنا، من بيتنا إلى هذا القبر الحجري؟".
مرت الأيام، أو الشهور، لم يعد يميّز الزمن. في إحدى الليالي، جلس وحيداً في الظلام، وتخيل أنه يمسك بالكأس من جديد. وضعها على فمه، وهمس: "هل تسمعينني يا أمي؟" ثم انتظر. لم يأتِ صوت. لكن في داخله، شعر باهتزازٍ خفيفٍ، كأن الخيط تحرّك فعلاً، كأنها سمعت. ابتسم للحظةٍ، ثم أغمض عينيه، تاركاً صمته يطفو في الفراغ.
بعد أسابيع، عاد الجنود إلى المخيم. هذه المرة، لم يطرقوا الباب. جاءوا يحملون اسمه في قائمة، وقالوا لأمه ببرود: "ابنك... مات أثناء التحقيق". لم يشرحوا شيئاً. لم يقدموا جسداً ولا أثراً. مجرد ورقةٍ مختومةٍ بلون الغياب.
جلست الأم على الأرض، وضعت الكأس البلاستيكي أمامها، وربطت فيه الخيط القديم، كما كان يفعل. ثم همست في الكأس: "سامر... إن كنت تسمعني، أنا هنا". لم يجبها أحد، لكن الخيط اهتز قليلاً، ربما من نسمةٍ عبرت النافذة، وربما من روحه التي لم تجد طريقاً للرحيل.
ومنذ تلك الليلة، صار أهل الحي يرون على سطح البيت خيطاً مشدوداً بين كأسين يتأرجحان في الريح. لا أحد يجرؤ على لمسه. يقولون إن الصوت ما زال يمرّ فيه، وإنك إن اقتربت ليلاً، تسمع أنيناً يشبه نداء أمٍّ لابنها، أو حواراً بين الأرض والسماء.
الناس في غزة تعلّموا أن يحزنوا بصمتٍ، لأن الصوت قد يُعتبر خطراً. لكن هذا الخيط بقي شاهداً على أن التواصل لا يحتاج إلى إذنٍ من أحد، وأن الأرواح، مهما اعتُقلت، تجد دائماً طريقاً للاهتزاز.
في الصباحات التالية، كانت الأم تصعد إلى السطح، تنظر إلى الأفق، وتقول في سرّها: "ربما الصوت لا يموت، ربما الخيط يمتد إلى ما بعد الجدار".
ثم تُنصت. أحياناً، تظن أنها تسمع صوتاً بعيداً يقول: "أماه، لا تبكي، أنا ما زلت أتنفس بين الكأسين".
تغلق عينيها وتبتسم، لأنها تعرف أن بعض الأصوات لا يحتاج إلى جسدٍ ليعيش.
وهكذا ظلّ الخيط ممدوداً، يربط بين الغياب والحضور، بين السماء التي تأخذ، والأرض التي تنتظر. لعبةٌ صغيرةٌ تحولت إلى فلسفةٍ كبرى: أن الإنسان، مهما حوصر، يبقى يبحث عن صوته، عن خيطٍ بسيطٍ يشدّه إلى الحياة.
وفي تلك البلاد الممزقة بين غزة والضفة والأراضي المحتلة، كان أحمد واحداً من آلافٍ لم يعودوا يحلمون. لأن الحلم هناك، مثل الخيط، يمكن أن يُقطع في لحظة، وتبقى الكأس فارغة، تنتظر صوتاً لن يعود.