من الأرشيف إلى الزقاق: ذاكرة مصور إسكندراني حية بين الناس

مشروع "أرشيف بدوي" وهو جزء من مهرجان "أيام التراث السكندري"، يمثل أكثر من مجرد مجموعة صور؛ فهو ذاكرة حية للإسكندرية، تُظهر الحياة اليومية، والأفراح، والمناسبات، والشوارع كما عاشها أهل المدينة عبر عقود طويلة.

في زقاقٍ صغير بحيّ كوم الدّكة في قلب الإسكندرية، تتراصّ صور بالأبيض والأسود على الجدران القديمة. يقف كبار السن يتأملونها في صمتٍ شجي، بينما يرفع بعض الشباب هواتفهم لتصويرها، وتضحك سيدة وهي تشير إلى صورة قائلة: "هذا والدي يوم زفافه!".

هكذا تحوّل الشارع إلى معرض مفتوح للذاكرة، عادت فيه الوجوه القديمة إلى الضوء بعد عقود من الغياب. تلك الصور، التي التُقطت بعدسة المصوّر الإسكندري، أحمد بدوي، قبل أكثر من 70 عاماً، لم تعد مجرد أرشيف فوتوغرافي، بل ذاكرة حيّة تُعيد سرد تاريخ المدينة من منظور أبنائها، وتستعيد تفاصيل حياتهم اليومية التي لم تُوثّق جميعها في وسائل الإعلام الرسمية.

أحمد بدوي: عين الإسكندرية وسط العدسات الأجنبية

  • أحمد بدوي
    أحمد بدوي

كان أحمد بدوي من أوائل المصورين المصريين الذين أسسوا استوديو تصوير في الإسكندرية، في زمن كانت فيه عدسات المدينة بأيدي الأجانب. لم يكن مجرد صاحب كاميرا، بل شاهداً على كل تفاصيل الحياة؛ يصوّر الأفراح والموالد، والحوادث الرسمية، واللقطات العابرة التي تصنع ملامح الزمن. 

يقول أحمد ناجي، أحد الثلاثة المشاركين في مشروع "أرشيف بدوي" الذي يشكل جزءاً من مهرجان "أيام التراث السكندري" إنه: "كان المصور في الماضي يصوّر أي شيء يمكن تصويره، من الصور الشخصية إلى السيارات المتضررة في الحوادث، وصولاً إلى الوثائق الرسمية التي يحتاجها الناس. فقد شمل عمله كل جوانب الحياة".

لم يقتصر بدوي على تسجيل المناسبات، بل وثّق التاريخ الاجتماعي والثقافي للمدينة، واحتفظ بعدسته بملامح جيل كامل عاش تحولات ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، حين كانت الإسكندرية تموج بالثقافات العربية والأوروبية. كما صوّر التباينات الطبقية، والأسواق الشعبية، والأماكن التي كانت تجمع الجيران، ولقطات تعكس تنوع المظاهر الثقافية في المدينة.

إحياء الأرشيف: من "النيجاتيف" إلى ذاكرة المدينة

بدأ مشروع "أرشيف بدوي" بفكرة بسيطة لكنها عميقة: جعل الصور متاحة للجميع لا محجوزة في الأدراج. يقول عبد العزيز، حفيد بدوي: "نحن 3 مصورين صحفيين، وكان شغفنا فهم الصور وقراءتها. أردنا أن يطلع عليها الجميع، ويستمتعوا بها، ويتعلموا منها".

كانت أول مواجهة للفريق مع آلاف "النيجاتيف" القديمة في الاستوديو تجربة وصفوها بالانبهار الكبير. كل صورة كانت تحمل وجوه أهالي الإسكندرية وذكريات حيّهم، وأحياناً أحداثاً لم يُعرف عنها سوى عبر عدسة بدوي، مثل تفاعل سكان المدينة مع خبر وفاة الرئيس الراحل جمال عبد الناصر.  

كما أشار أصحاب المشروع إلى أن بعض الصور كشفت تفاصيل لم تُرَ سابقاً في كتب التاريخ، مثل لحظات الحياة اليومية في المقاهي والمحال القديمة، أو تنقلات الأطفال في الأزقة الضيقة، ما جعل الصور وسيلة لفهم المدينة بطريقة مباشرة وحسية.

ولم يقتصر المشروع على حفظ الصور، بل اعتبرها فعل مقاومة ضد الزوال ونسيان الذاكرة الجمعية. فالتصوير نفسه، كما يقول أصحاب المشروع، كان وسيلة للتعبير الفني، وحفظ التاريخ الاجتماعي والسياسي والعمراني للمدينة، وبناء رابط بين الماضي والحاضر، وتمكين الأهالي من استعادة تاريخهم الشخصي والجماعي.

المعرض في الشارع: ذاكرة حيّة وتفاعل مباشر

حرص فريق المشروع على ألا تبقى الصور محتجزة داخل الأرشيف، بل أن تُعرض بين الناس في حيّهم نفسه، كما يوضح حازم جودة بقوله إن: "أهالي كوم الدّكة هم من سهّلوا علينا كل شيء. فور نزولنا وتعرفنا عليهم، وجدناهم يذكرون المصور أحمد بدوي وكل الذكريات القديمة، وشجعونا بشدة على الاستمرار، وبدأوا يقدمون لنا المساعدة بحماس كبير".

هكذا جاءت فكرة المعرض في الشارع كجزء من مهرجان "أيام التراث السكندري"، مع اختيار كوم الدّكة، منطقة نشأة بدوي، لتكون الرابط المباشر بين الصور وسكانها الأصليين. رغم الصعوبات والمخاوف من سلامة الصور أو احتمال رفض الأهالي، أثبتت التجربة نجاحها، إذ تفاعل السكان بحماسة، وتعرفوا على الصور القديمة، واستذكروا من خلالها جيرانهم وأقاربهم، وظهرت لحظات مؤثرة، حيث طلب بعضهم الاحتفاظ بنسخ من الصور أو تعليقها في منازلهم.  

وأشار الفريق أيضاً إلى أن تفاعل الشباب والأطفال كان مختلفاً؛ فقد أعادوا اكتشاف أزقة الحي ومعالمه القديمة، وبدأوا يسألون كبار السن عن التفاصيل، لتتحول الصور إلى جسر بين الأجيال.

واختيرت الصور بعناية وفق ارتباطها بالحيّ، ونشاطاته، وأماكن فسحة ومحاله القديمة، لتصبح تجربة المعرض انتقالاً بصرياً وزمنياً بين الحاضر والماضي، ومشاركة الناس في ذاكرة حيّهم بطريقة شخصية وتفاعلية، إذ رأى الفريق أن الصورة لا تكتمل إلا بتفاعل المشاهد معها.

استمرارية المشروع وخطط التوسع

يركز الفريق حالياً على استكمال أرشيف أحمد بدوي، الذي يغطي الفترة من عام 1939 حتى 2013. وقد بدأوا بالفعل في رقمنة أكثر من 5000 صورة للحفاظ عليها وتسهيل الوصول إليها، مع الاحتفاظ بملاحظات تفصيلية عن كل صورة، تشمل أسماء الأشخاص، الأماكن، والسياق التاريخي. 

كما يخططون لإنشاء موقع إلكتروني وبرنامج أرشفة يسمح للباحثين والمهتمين بتاريخ الإسكندرية بالاطلاع على الصور والبيانات المرتبطة بها بسهولة، مع إمكانية تنزيل نسخ رقمية للبحث الأكاديمي والمبادرات الثقافية.

ويطمح القائمون على المشروع إلى توسيع نطاق المبادرة عبر تنظيم معارض أخرى في أحياء مختلفة من المدينة، بما يعزز التفاعل المباشر بين الصور وسكانها، ويجعل الأرشيف ليس مجرد توثيق تاريخي، بل رواية إنسانية محلية وتفاعلية. 

وتكمن الميزة الأساسية للأرشيف في كونه نتاج أحد أبناء المجتمع نفسه، مصري إسكندري عاش وسط الناس وصوّرهم بلغتهم البصرية، وليس من منظور رسمي أو خارجي، ما يمنحه بعداً إنسانياً محلياً متفرداً.

ويمثل أرشيف أحمد بدوي أكثر من مجرد مجموعة صور؛ فهو ذاكرة حية للإسكندرية، تُظهر الحياة اليومية، والأفراح، والمناسبات، والشوارع كما عاشها أهل المدينة عبر عقود طويلة. الصور تكشف وجوهاً وذكريات لم تُعرض من قبل، وتقدّم رؤية بديلة للتاريخ بعيداً عن الصور الرسمية أو النمطية.  

من خلال المعارض في الشوارع والمبادرات المجتمعية، ينجح المشروع في ربط الماضي بالحاضر، ويحوّل الصور إلى أداة تفاعل مباشر بين المدينة وسكانها. وهكذا، يصبح الأرشيف ليس مجرد توثيق، بل ممارسة فنية وثقافية مقاومة للزوال، ومصدراً مفتوحاً للباحثين والمهتمين بتاريخ المدينة وثقافتها.

اخترنا لك