مغارة قاديشا.. حيث تنطق القرون في صمت الجبال
الميادين نت في مغارة قاديشا في بشري شمال لبنان.. اكتشفوا معنا سحر المكان المولود من ملايين السنين، حيث تهمس الطبيعة بأسرارها.
-
مغارة قاديشا.. حيث تنطق القرون في صمت الجبال
في أحضان شمال لبنان، وفي منطقة بشري تحديداً، تمتد لوحة من صنع الخالق، خُطّت بالصخر والماء والزمان: مغارة قاديشا، التي تستريح تحت جذوع غابة الأرز، وتطل على وادي القديسين (وادي قاديشا).
زيارة فريق الميادين نت إلى هناك، كانت أشبه برحلةٍ بين الحلم والواقع، إذ حملتنا إلى عالمٍ سريٍّ يختبئ في عمق الجبل، تتجلّى فيه عظمة الخالق ودهشة الإنسان أمام سحر الطبيعة.
مغارة قاديشا - بشري: لوحة خلّاقة تهمس بعظمة الخالق.#الميادين pic.twitter.com/QpzHU3BVnh
— الميادين لبنان (@mayadeenlebanon) November 12, 2025
رحلة العبور عبر الأزمنة
من بيروت إلى وجهتنا، انطلقت رحلتنا. 120 كيلومتراً عبرنا فيها دروباً يعانق فيها التاريخ الحاضر. هنا القرى تعبق بالأصالة، والبيوت التراثية ترحب بك على طريقة الأجداد، والجبال تحرس الدرب بعظمةٍ تشبه اللبنانيين بصمودهم وشموخهم.
رويداً رويداً نتسلق الجبال ولكن ليس سيراً على أقدامنا إنما بسياراتنا، إلى أن وصلنا إلى ارتفاع 1750 متراً عن سطح البحر، حيث بدا لنا أننا نستطيع مصافحة السماء، التي أضافت إلى نجومها وكواكبها جوهرة تتلألأ على كتف الوادي "مغارة قاديشا".
وقبل الوصول إلى مدخل المغارة، لا بدّ من السير على الأقدام مسافة تقارب 800 متر (10 دقائق تقريباً) على ممرٍ طبيعي محفورٍ في قلب الصخر، كأنه طريقٌ معلّق بين الأرض والسماء. هناك تبدأ الرحلة الفعلية، حيث يتحوّل المشي إلى اختبارٍ للحواس، تمتزج فيه الدهشة بخشوعٍ صامت، وتتعانق رهبة الجمال مع سكينة الروح، على إيقاع همس الريح المتسلّل من عمق الوادي، وسمفونية المياه الجارية.
البداية.. باب يفتح على عالمٍ آخر
ما إن وصلنا إلى مدخل المغارة حتى شعرنا أننا على أعتاب عالم آخر. الهواء البارد المنبعث من عمق الجبل يلفح وجوهنا كتحيةٍ من الزمن، والظلمة الخافتة تدعونا للتقدّم بحذرٍ ودهشة. عند الخطوة الأولى، يطلّ حوض مائي صغير، تتجمّع فيه مياه نبع قاديشا الصافية الصالحة للشرب، وكأنها مرآة تعكس نقاء المكان وسحره.
-
حوض مائي صغير في مغارة قاديشا
قيل لنا إن درجة الحرارة داخل المغارة ثابتة عند 10 درجات مئوية، ومياهها أبرد قليلاً (سبع درجات)، لا تتبدّل حتى لو لامست حرارة الخارج الأربعين. هذا الثبات يجعل منها بيئة نادرة، تذكّر بأن الطبيعة تعرف كيف تحافظ على توازنها حتى في وجه أعتى التحديات.
رحلة في أعماق الجبل.. بين الصواعد والهوابط
يمتد الجزء المكتشف من المغارة لنحو 1070 متراً، لكن المسار المؤهّل للزوار يبلغ نحو 200 متر يجمع بين الممرات والدهاليز والغرف.
على جانبي الممر، تنتصب أعمدة كلسية ضخمة، بعضها متدلٍّ من السقف كشموع انصهرت من الزمن، وبعضها يصعد من الأرض كأعمدة معبد طبيعي. ويُقال إن هذه التكوينات تنمو سنتمتراً واحداً كل 100 سنة، في بطءٍ مذهل يذكّرك بأن الجمال لا يولد على عجل.
-
أعمدة الصواعد والهوابط في مغارة قاديشا (تنمو سنتمتراً واحداً كل 100 سنة)
تتناثر قطرات الماء من السقف، فتلامس رأسك برفقٍ وكأنها ندى البركة، فيما تتلألأ المتحجرات التي تشكلت على مدى ملايين السنين تحت الإضاءة الهادئة التي انعكست أيضاً على الصخور الرطبة، لتتحول المغارة إلى لوحة ضوئية نابضة بالحياة. وبين ألوان الصخور يبرز الأحمر في بعضها، بفعل وجود الحديد، مضيفاً دفئاً غريباً إلى هذا العالم البارد.
جذور الاكتشاف
تعود قصة اكتشاف مغارة قاديشا إلى عام 1903، حين كان الراهب يوحنا بركات المزوق يعيش حياة نسكية في دير مار يوسف في بشري. أثناء تتبّعه مصدر تسربات نهر قاديشا، لاحظ تيار هواء قوي يخرج من فتحة في الجبل، فحاول الدخول إليها مراراً دون أن يتمكن. بعد وفاته، تابع شبان من البلدة استكشاف المغارة عام 1918، فتمكّنوا من التقدّم نحو 70 متراً داخلها.
لاحقاً، تأسست لجنة محلية وواصلت البحث حتى تمّ اكتشاف أروقتها الساحرة، لتُضاء لاحقاً بالمصابيح وتُفتتح رسمياً للزوار عام 1926 كأول مغارة سياحية في لبنان.
ومنذ ذلك الحين، تحوّلت إلى مقصدٍ لعشّاق الطبيعة، يزورها نحو 10 آلاف زائر سنوياً.
-
تكوّنات كلسية تجمعت على مدى ملايين السنين في مغارة قاديشا
سحر الوادي.. الجمال الذي لا يشيخ
ما يميّز مغارة قاديشا ليس فقط جمالها الداخلي، بل موقعها الذي يطلّ على وادي قاديشا، المعروف أيضاً بـ"الوادي المقدس"، حيث تتعانق الأديرة القديمة مع صخور الجبال الشاهقة. ومن أعماق المغارة، تسمع خرير المياه التي تتدفّق نحو الوادي ثم إلى نهر أبو علي في طرابلس وصولاً إلى البحر المتوسط، في مشهد موسيقي يأسر الحواس.
تُحيط بالمكان غابات الصنوبر والأرز، وتتناثر حوله المقاهي الريفية والمطاعم التي تقدّم المأكولات اللبنانية الأصيلة. كل زاوية هنا تشهد على العلاقة الترابطية بين الإنسان بالأرض.
وتمتاز مغارة قاديشا، بقربها من العديد من المعالم التاريخية والطبيعية البارزة مثل بحيرة شوان ومتحف الحيوانات المحنطة ومتحف جبران، وغيرها الكثير من الأماكن السياحية المميزة في شمال لبنان.
تجربة تتجاوز السياحة.. لقاء مع الذات
زيارة مغارة قاديشا ليست مجرّد رحلة سياحية، بل تجربة روحية تُلامس القلب. في صمتها البارد وسكونها العميق، يشعر الزائر بحضور الخالق في كل تفصيلٍ من تفاصيلها: في القطرة التي تنساب من السقف، في النور الذي يلمع على الصخر، وفي النسيم الذي يهمس كصلاة، حيث يبدأ الحوار بين النفس والكون.
-
إحدى برك المياه في مغارة قاديشا
مغارة قاديشا.. لوحة الله في عمق الجبل
من ملايين السنين رسمت الطبيعة هذه الأعجوبة ببطء وصبر وإتقان، لتكون اليوم شاهدة على الجمال الذي لا يفنى. مغارة قاديشا ليست مكاناً فحسب، بل قصيدة من صخر وماء ونور، تروي حكاية الأرض اللبنانية التي لا تكفّ عن الإبهار.
زيارتها ليست نهاية الرحلة، بل بدايتها لأنك حين تخرج منها، تُدرك أن جزءاً منك بقي هناك، في أعماق الجبل، حيث يُقيم سر من أسرار الرب.