"فورين أفيرز": كيف ينجو نتنياهو؟

نتنياهو يعتمد سياسة فرق تسد في غزة وفي الداخل.

  • "فورين أفيرز": نتنياهو يعتمد سياسة "فرّق تسد" في غزة وفي الداخل.

مجلة "فورين أفيرز" الأميركية تنشر مقالاً يقدّم تحليلاً شاملاً لمستقبل بنيامين نتنياهو السياسي بعد حرب غزة، مركّزاً على محاولته استثمار الحرب لترسيخ سلطته، رغم الفضائح والانقسامات الداخلية في "إسرائيل". النص يُظهر أن نتنياهو لم يخرج من حرب غزة كمنتصر عسكري بقدر ما خرج كناجٍ سياسي.

أدناه نص المقال منقولاً إلى العربية:

في 13 الشهر الماضي، كان الإسرائيليون يترقَّبون إعلان دخول وقف إطلاق النار في غزَّة حيّز التنفيذ، وتسليم حركة "حماس" آخر 20 أسيراً إسرائيلياً، برعاية الرئيس الأميركي دونالد ترامب، العقل المُدبّر لاتفاق "السلام" حيث أعلن في خطاب في الكنيست: "هذه ليست نهاية حرب فحسب، بل نهاية عصر من الرعب والموت، وبداية عصر من الإيمان والأمل".

من بين الحاضرين، بطبيعة الحال، مضيف ترامب بنيامين نتنياهو، الذي حرص ترامب على شكره، وقال: "أريد أن أعرب عن امتناني لرجل يتمتَّع بجرأة ووطنية استثنائيتين"، وطلب ​​من رئيس الوزراء النهوض، وفعل نتنياهو ذلك وابتسم.

عندما نفّذت حركة "حماس" هجوم 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، لم يتوقَّع سوى عدد قليل من المحللين أن يظلَّ نتنياهو في السلطة بعد عامين، ناهيك بأن يغدق عليه رئيس أميركي الثناء. فلقد استقالت غولدا مائير آخر رئيسة وزراء بعد فترة وجيزة، حِين تعرَّضت "إسرائيل" لهجوم مفاجئ، على عكس نتنياهو الذي نفى أي مسؤولية ورفض الانسحاب، وألقى اللوم في الفشل في توقُّع الهجوم وصدّه على "الجيش" وأجهزة المخابرات، ومنع إجراء تحقيق.

وللحفاظ على حكومته، أطال أمد الصراع اللاحق، على الرغم من تزايد التعب المحلي والضغط الدولي. وبينما كان ترامب، الذي أجبر نتنياهو على وقف الحرب، ينشدُ مديحه من منصَّة الكنيست، كان رئيس الوزراء مشغولاً بالتخطيط لمعركته القادمة، وهي الانتخابات الإسرائيلية المقبلة، حيث من المقرَّر أن يتوجَّهَ الإسرائيليون إلى صناديق الاقتراع بعد نحو عام.

وبينما قد تنتهي المنافسة في وقت مُبكِّر من حزيران/يونيو المقبل، تعهَّد نتنياهو بالترشُّحِ والفوز مجدداً. وللقيام بذلك، يحاول تصوير الحرب على أَنَّها نصر كبير، ووصم منتقديه بأنَّهم أعداء الداخل. والأهم من ذلك كله، أنَّه استأنف جهوده لتحويل البلاد إلى دولة استبدادية من خلال تجريد القضاء من استقلاله وتحويل النظام السياسي و"الجيش" وأجهزة المخابرات والموظفين المدنيين بشكل عام إلى أتباع له، إضافةً إلى محاولته السيطرة على وسائل الإعلام من خلال تنظيمها بشكل جديد.

وستكون الانتخابات الإسرائيلية المقبلة بمنزلة استفتاء داخلي على حكم نتنياهو، كما كانت جميع الانتخابات الإسرائيلية منذ عودته إلى السلطة في عام 2009. وقد يبدو هذا نذير شؤم له. ففي النهاية، لم يكن نتنياهو في منصبه فقط عندما تعرَّضت "إسرائيل" للهجوم قبل عامين، لكنَّه فشل أيضاً في تحقيق "النصر الكامل" على "حماس" وهو ما تعهَّد به، في حين ما تزال تطارده سلسلة من الفضائح الجنائية.

ولكن، على الرغم من كل ذلك، ومن تراجعه في استطلاعات الرأي، يُمكن لنتنياهو الفوز مجدداً، فهو يتمتَّع بقاعدة كبيرة من المؤيدين المخلصين. وعلى النقيض من ذلك، لا يمكن لخصومه الاتفاق على الكثير بخلاف كراهيتهم له. حتى لو لم يتمكَّن نتنياهو من الفوز بشكل قاطع، فقد يكون قادراً على منع المعارضة من تشكيل أغلبية فاعلة. وستكون النتيجة حكومة انتقالية يستطيع الهيمنة عليها، كما فعل في الماضي.

من الذي يحكم؟

إنّ وصف نتنياهو بأنَّه مثير للاستقطاب هو أقلُّ من الحقيقة. وبالنسبة إلى مؤيديه، هو المنقذ ومقاتلهم في الخطوط الأمامية في حرب ثقافية تُقسّم المجتمع اليهودي في "إسرائيل". وقد عمل نتنياهو على استبدال النخبة القديمة العلمانية والليبرالية ذات التوجه الغربي بنخبة جديدة محافظة ومتدينة لا تخجل من التعبير عن آرائها القومية وسنّ قوانين تمييز ضدَّ غير اليهود.

وعلى النقيض من ذلك بالنسبة إلى معارضيه، فهو غوغائي فاسدٌ للغاية لن يتردَّد في فعل أي شيء للوصول إلى السلطة والاحتفاظ بها، حتَّى من خلال الاستغلال الساخر للمظالم الطبقية. ومن هذا المنظور، فإنَّ أهدافه الحقيقية، حتى في أثناء الحرب، لا علاقة لها بالأمن القومي، بقدر ما هي تأجيج عبادة شخصيته، والقضاء على التهم الجنائية الموجَّهة إليه، والحفاظ على منصبه، ودافعه الرئيسي ليس إنقاذ "إسرائيل" بل إنقاذ نفسه.

حكم نتنياهو سبق هذا الانقسام الحالي، وقد حدَّد المعارك السياسية في "إسرائيل" لعقود. لكن في السنوات الأخيرة، ازداد حدَّةً ومعها المخاطر. في تشرين الثاني/ نوفمبر 2022، حصل ائتلاف نتنياهو على أغلبية كبيرة وفقاً للمعايير الإسرائيلية بـ 64 مقعداً من أصل 120، ما سمح له المضي في سياساته الأكثر إثارة للجدل، واستغلَّ كل ثانية للقيام بذلك، بالاعتماد على أحزاب اليمين المتطرّف، حيث أعلنت الحكومة الجديدة أنَّ "للشعب اليهودي حقّاً حصرياً لا جدال فيه في جميع مناطق أرض إسرائيل"، من ضمنها الضفَّة الغربية المحتلة. وهذا يعني حرمان الفلسطينيين من أي حقوق، والذين لم يكن بإمكانهم سوى مشاهدة "إسرائيل" وهي تطلق حملة غير مسبوقة من الاستيلاء على الأراضي الفلسطينية وتوسيع المستوطنات.

ومع ذلك، لم يكن لدى معظم اليهود الإسرائيليين أي اهتمام يذكر بالفلسطينيين، ناهيك بعملية السلام. بل كانوا أكثر قلقاً بشأن الأزمة التي تتكشَّف في أوساطهم. في كانون الثاني/يناير 2023، أقرَّت حكومة نتنياهو قوانين من شأنها أن تنتهك استقلال المحكمة العليا الإسرائيلية وصلاحيات المدَّعي العام، وهما الوصيّان على الحريات المدنية في دولة لا دستور رسمياً لها.

وكان نتنياهو قد سوَّق هذه القوانين ظاهرياً على أنَّها "إصلاح ضروري لتعزيز الحكم"، إلا أنَّها في الواقع صُمَّمت لبناء ثيوقراطية استبدادية يقودها. فالنظام القانوني، في نهاية الأمر، لم يكن يُحاكم نتنياهو بتهمة الفساد فحسب، بل إنَّه لعقود من الزمن، حمى حقوق الأقلية العربية في "إسرائيل"، وكفل الحريات الدينية، وحقوق المثليين، وحرية الصحافة، وهي كلها لعنات يبغضها سياسيو "إسرائيل" اليمينيون والأرثوذكس، الذين سعوا إلى مزيد من السلطة والموارد لمستوطني الضفَّة الغربية والمؤسسات الحاخامية.

لقد بذلت المحكمة العليا الكثير لمساعدة المستوطنين، لكن على امتداد الخط الأخضر الذي يفصل "إسرائيل" ما قبل عام 1967 عن الأراضي الفلسطينية، بنى القضاء إلى حد كبير درعاً قانونياً حول إخضاع الفلسطينيين والتوسُّع الاستيطاني، وتدخَّل هنا وهناك في توجُّه المستوطنين بتذكيرهم باستمرار بالقانون الإنساني الدولي والتزاماته. ولقد كانت الإصلاحات القضائية المزعومة أبرز جهود نتنياهو لكسب الحرب الثقافية، وقد قوبلت بأقوى حركة احتجاجية في تاريخ "إسرائيل"، حيث خرج مئات الآلاف إلى الشوارع، وأعلن آلاف جنود الاحتياط رفضهم الخدمة حتى سحب التشريع.

لكنَّ نتنياهو واصل مسيرته حتى 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023، الأمر الذي أجبره على تعليق مشاريع القوانين وتشكيل حكومة حرب موسعة. وحينها لم يُظهر نتنياهو نفسه كمنقذ وطني، وبينما كان "الجيش" الإسرائيلي يقاتل على جبهات متعددة، و"إسرائيل" تتعرَّض لانتقادات لاذعة من الخارج، شُغل نتنياهو بالبحث عن كبش فداء، واستهدف بشكل خاص مؤسَّسة الأمن القومي الإسرائيلية، التي لطالما كانت القوة الأكثر نفوذاً في الحياة العامة ومعقلاً لمقاومة نتنياهو.

وفي إشارة إلى الفشل، أقال نتنياهو قادة الأمن والمخابرات الذين تحدَّوه، من ضمنهم رونين بار، رئيس جهاز "الشاباك"، بعد أن أدلى بشهادة مفادها أنَّ نتنياهو طلب منه استهداف المتظاهرين المناهضين للحكومة كما لو كانوا إرهابيين. وقد استبدله بديفيد زيني وهو جنرال سابق نشأ في أقصى اليمين الديني في مستوطنات الضفَّة الغربية.

عدوّ عدوّي

أدَّى توجُّه نتنياهو الاستبدادي إلى تآكل شعبيته، ومنذ إقرار القوانين القضائية، أظهرت استطلاعات الرأي العام المستقلة باستمرار فشل ائتلافه، بقيادة "حزب الليكود" في تحقيق الأغلبية. وتشير استطلاعات القناة 12 إلى أنَّه في أيار/ مايو 2023، كان ائتلاف نتنياهو يحظى بدعم كاف ويضمن 52 مقعداً من أصل 120 في الكنيست. وفي كانون الأوَّل/ ديسمبر 2023 بعد أشهر قليلة من الهجمات، انخفض هذا العدد إلى 44 مقعداً. لكنَّه ارتفع مجدداً إلى 52 مقعداً بعد اغتيال "إسرائيل" لزعيم "حزب الله" حسن نصر الله، وما يزال عند هذا المستوى حتى اليوم.

لكنَّ عدم شعبية ائتلاف نتنياهو الواضحة قد لا تُترجم إلى هزيمة انتخابية، بالنظر إلى الطبيعة الفوضوية للنظام السياسي الإسرائيلي، حيث يتعلق الفوز بمنع تشكيل ائتلافات بديلة بقدر ما هو يتعلق بحماية التحالفات أيضاً. كذلك يدخل نتنياهو إلى حملة انتخابات 2026 بمزايا عديدة، منها شُغله لمنصب رئيس الوزراء الذي يمنحه السيطرة على شؤون الدولة، كالحرب والميزانيّات والضرائب، ما يعني أَنَّه يستطيع شنَّ جولة أخرى من الأعمال العدائية ضدَّ "حماس" أو "حزب الله" أو "إيران" وتأجيل الانتخابات، أو رشوة الناخبين بتخفيضات ضريبية وامتيازات مالية.

وقد أثبت الاقتصاد الإسرائيلي صموده، رغم تكاليف الحرب الباهظة وتزايد خطر المقاطعة الدولية، وتفوَّق أداء الشيكل على مستويات ما قبل الحرب، وحطمت بورصة "تل أبيب" الأرقام القياسية. كما يستفيد نتنياهو من قاعدة مُتَّحدة خلف قيادته بتشارك رؤية واحدة عن سيادة يهودية على الفلسطينيين، و"إسرائيل" الكبرى التي تشمل الضفَّة الغربية، وربَّما غزَّة، وربَّما أجزاء من سوريا، زائد معارضتهم الصريحة لقيام دولة فلسطينية، وهم يكرهون أي مؤسسة تضع ضوابط على سلطة الحكومة.

في المقابل، معارضة نتنياهو مُنقسمة، والأحزاب المختلفة خارج حكومته غير مُعجبة بشخصية نتنياهو وسياساته ولا في الاستيلاء على السلطة صحيح، لكنَّها بخلاف ذلك، لا تتفق على الكثير، وبعضها يدعم أجندة نتنياهو القومية، بينما يمقتها آخرون. وترفض معظم هذه القوى العمل مع الحزبين العربيين في "إسرائيل"، رغم أنَّه من المتوقَّع فوزهما بعشرة مقاعد، والتي من دونها لن تتمكَّنَ المعارضة من تحقيق أغلبية 61 مقعداً. وقد تنازلت المعارضة اليهودية في "إسرائيل" استباقيّاً لنتنياهو في ما يتعلق بشأن الحرب الأخيرة التي يشنُّها.

تجرَّأ يائير غولان الجنرال السابق الذي وحَّد بقايا اليسار الصهيوني الإسرائيلي تحت مظلَّة "الحزب الديمقراطي"، على انتقاد سلوك "إسرائيل" في غزَّة، ووصفها بالدولة التي "تقتلُ الأطفال كهواية". لكن حتى هو لم يعارض الحرب، أو يظهر تعاطفاً مع الفلسطينيين المتضرّرين، مع أنه يدعم حل الدولتين، ولكن في المستقبل البعيد فقط.

نتنياهو يتغلَّب على الجدل السياسي

قد يتمكَّن رئيس الوزراء من حشد الدعم بالإشارة إلى الحرب. فأسلوبه العدواني في القتال، لاقى تأييداً واسعاً بين الأغلبية اليهودية، واعتبر الرأي العام السائد أنَّ دمار غزَّة ومقتل أكثر من 68 ألف فلسطيني، وتدمير مدن ومناطق بأكملها، والتحضير لعمليات طرد جماعي للفلسطينيين، ردود فعل مُبرَّرة على فظائع "حماس". أمّا الانتقادات العالمية لاستخدام "إسرائيل" العشوائي للقوَّة، واتّهامات الإبادة الجماعية، وتصوير نتنياهو كقاتل جماعي على نطاق واسع، فقد قُدِّمت للإسرائيليين على أنَّها مجرد تعبيرات عن "مُعاداة السامية".

كذلك، حظيت الهجمات الإسرائيلية خارج غزَّة بشعبية أكبر. واعتبر معظم الإسرائيليين أنَّ هزيمة "حزب الله" اللبناني من ضمنها اغتيال نصر الله، وقصف منشآت إيرانية في حزيران/ يونيو الماضي، زائد إرسال ترامب طائرات حربية أميركية للمساعدة، تُعد انتصارات تاريخية على أخطر أعدائهم. وهنا أيضاً، أيَّدت المعارضة "إسرائيل" بكل إخلاص، وكان الجدل الوحيد يدور حول من يستحقُّ الإشادة رئيس الوزراء الذي أمر بالغارات أم الطيّارون ورجال المخابرات الذين نفَّذوها.

كانت قضية الأسرى في غزَّةَ هي القضية الوحيدة التي انقسم الرأي العام الإسرائيلي حولها خلال الحرب. وخلال السنة الثانية من الصراع، أيَّد معظم الإسرائيليين وقف إطلاق النار الذي من شأنه إعادتهم إلى ديارهم، وواجه نتنياهو احتجاجات حاشدة قادتها عائلات الأسرى. لكنَّ نتنياهو، بقيادة زعيمي ائتلافه اليميني المتطرف، إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش، اختار تصعيد القتال، واتَّهم حلفاء عائلات الأسرى التي قادت المظاهرات بالعمالة للعدوّ. ولم يعد آخر الأسرى إلا عندما فرض ترامب وقف إطلاق النار واتفاقية تبادل الأسرى بين "إسرائيل" والفلسطينيين على نتنياهو.

مع ذلك، كانت هذه نتيجة جيدةً لنتنياهو بقبوله الاتّفاق، فقد حقَّق المطلبين الأساسيين للمحتجين، إنهاء الحرب واستعادة الأسرى. كذلك بإلقاء اللوم على ترامب في التسوية، تجنُّب غضب شركائه المتشدّدين، وهو يجتاز الخلافات السياسية بمهارة من خلال لعب الأوراق الكبيرة والصغيرة في آن واحد، ولا بأس بمبالغته في تقدير سلطته، فهو لا يُمانع أيضاً أن يظهر على أنَّه أداة بيد جهات أكثر نفوذاً، ولا يهمُّه إن بدا قوياً أم ضعيفاً، طالما أنَّهُ قادر على الحفاظ على منصبه.

ائتلاف الراغبين

أقوى منافس لنتنياهو هو رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق نفتالي بينيت، الذي قطع حُكم نتنياهو المتواصل لمدَّة 15 عاماً، من حزيران/ يونيو 2021 ولنحو سنة كاملة. وبينيت طموح هادف لم تلطخه اتّهامات فساد شخصي، وهو رجل أعمال ناجح في مجال التكنولوجيا وضابط سابق في القوات الخاصَّة يرتدي القلنسوة اليهودية، يمزج بين تيّارين مهيمنين من الثقافة الإسرائيلية المعاصرة، القومية الدينية والمادية العلمانية، ويدرك من كثب أنَّ مفتاح السلطة في نظام "إسرائيل" التعدُّدي هو تغيير المواقف وإغراء المنشقّين.

وقد أتقن نتنياهو هذا التكتيك، حيث اشترى دعم منافسيه بمنحهم ألقابا وزارية. في الواقع، خدم بينيت في حكومة نتنياهو من عام 2013 إلى عام 2020، وأصبح وزيراً للدفاع، وتفوَّق على نتنياهو في عام 2021، وخرج عن صمته وشكَّل ائتلافاً غير مسبوق مع الزعيم الوسطي يائير لابيد، وحزبين يساريين أخريين، وحزب عربي محافظ، في انتهازية أوصلته إلى السلطة. لكنَّ حكومَةَ "التغيير" هذه انهارت بعد عام، مُمهّدةً الطريق لعودة نتنياهو الانتقامية، مع أنَّ تأليفها أظهر براعة بينيت في رأب الصدوع المجتمعية وجمع اليمين واليسار، اليهود والعرب، المتدينين والعلمانيين، حيث قد يكون شعاره في الانتخابات المقبلة، "نتنياهو يُفرّق، وأنا أُوحّد".

تُظهر استطلاعات الرأي الآن أنَّ بينيت لديه فرصة جيدة للفوز، لكنَّ مساره غير واضح. بداية، لم يعلن بينيت الذي استقال من الكنيست بعد ترؤُّسه مجلس الوزراء لمدَّة عام، لم يعلن عن ترشُّحه إلا مؤخَّراً. وهو لم يُشكّل بعد فريقه السياسي، ناهيك بجمع قادة المعارضة الإسرائيلية المتصارعين، الذين "لم يتَّفقوا بعد على أخذ صورة جماعية". ولن يتجاوز بينيت هذه الحدود هذه المرَّة، وهو مثل معظم قادة المعارضة الحاليين في الكنيست، تعهَّد بعدم ضمّ أي حزب عربي إلى ائتلافه.

كما يستبعد فعلياً أن يستطيع بينيت تشكيل ائتلاف مع الفئة السكانية الأخرى الأكثر استقطاباً والأسرع نموّاً في "إسرائيل"، وهم اليهود الأرثوذكس المتطرفون. ومع ذلك، على عكس الأحزاب العربية، قد يكون استبعاد هؤلاء خطوةً سياسية ذكيَّةً. كما تقدم هذه الفئة السكّانية التي يراهن عليها بينيت قضية خلافية يمكن أن تؤدّي إلى تفكُّك ائتلاف نتنياهو مثل التجنيد الإجباري، حيث تمتَّع لعقود من الزمن طُلّاب الحاخامية الأرثوذكس بإعفاء شامل من التجنيد، والذي يحرص قادتهم على حمايته.

ولكن، في عام 2023، قضت المحكمة العليا الإسرائيلية بعدم قانونيته، وأمرت الحكومة بوضع تشريع يضمن المساواة بين الشباب في سنّ التجنيد. في البداية، لم يكن الجيش حريصاً على تجنيد عشرات الفتيان المراهقين الذين يفتقرون إلى التعليم الأساسي في الرياضيات واللغة الإنكليزية، والذين طالبوا بنظام غذائي خاص ودروس توراة صارمة والبعد عن النساء المُجنَّدات. لكن 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، الذي أسفر عن آلاف الضحايا وخدمة طويلة للمجندين والاحتياط، بدلَ المفاهيم، وأثار غضب بقية المجتمع الإسرائيلي لاضطرار شبابهم للخدمة العسكرية، بينما لم يفعلها الأرثوذكس المتشددون. وكان الغضب أشدَّ وَطأةً بين القوميين المتدينين، الذين يخدمون مع الحفاظ على أنماط الحياة الأرثوذكسية، وغالباً في الصفوف الأمامية، وأحياناً طوال معظم حياتهم المهنيَّة.

لقد ثبت حتى الآن استحالة التوصُّل إلى حلّ وسط يرضي الطرفين، الحاخامات الأرثوذكس المتشددين، والقانون، ما يُسبَّب صداعاً لنتنياهو، الذي يقوم ائتلافه على تحالف مع كل من الأحزاب الأرثوذكسية المتطرّفة منها والقومية. كذلك انسحبت هذه الأحزاب من حكومة نتنياهو في تموز/ يوليو الماضي لدفع رئيس الوزراء إلى إيجاد حلّ بديل لقرار المحكمة. لكن الأرثوذكس المتشددين ما زالوا يفضّلون نتنياهو بوضوح على بينيت وشركائه العلمانيين، ولذلك لم يُسقطوا حكومته. من المرجّح أن يتخلى الناخبون القوميون المتدينون عن دعمهم، وقد أغراهم بينيت بوعده بـ"تحالف الخدمة". ومع ذلك، يُفضّل الكثير منهم أيضاً القومية الصريحة لرئيس الوزراء الحالي على التعاون مع منافسه ومع يسار الوسط، الأقلُّ حماساً لمستوطنات الضفَّة الغربية.

إلى الأمام بالسرعة القصوى

بينما يُجهّز بينيت حملته الانتخابية مع انتهاء الحرب، أو على الأقلّ توقُّفها مؤقَّتاً، استأنف نتنياهو جهوده لجعل "إسرائيل" دولة استبداديةً. وقد استأنفت الحكومة انقلاباً قضائياً، مُحقّقة أكبر انتصار علني لها حتى الآن بإسقاط كبير المسؤولين القانونيين في "الجيش"، الجنرال يفعات تومر يروشالمي وهذه ليست نموذجاً للفضيلة إذ غضَّت الطرف مراراً وتكراراً عندما تم اتهام "الجيش" الإسرائيلي بارتكاب جرائم حرب. ولكن عندما حاكمت فريقاً من جنود الاحتياط لتعذيبهم معتقلاً من غزَّة، أثارت غضب مُؤيّدي الحكومة، وفي النهاية قُبض عليها واعتقلت لتسريبها مقطع فيديو فيه إساءة وبالتستُّر والكذب بشأن نشر الفيديو.

وقد استخدم فريق نتنياهو قصَّتها لتصوير القضاء على أنَّه مجموعة من الخونة الذين يجب تطهيرهم. وأعلن نتنياهو أيضاً دعمه لإعدام الإرهابيين، وهو مطلب أساسي لليمين المتطرّف في "إسرائيل"، وأعاد إحياء محاولاته لإقالة النائبة العامة الإسرائيلية، غالي بهاراف ميارا، بصفتها المُدَّعية العامة العليا في البلاد، وهي تتمتَّع بصلاحيات واسعة خارج نطاق السيطرة السياسية، ما سمح لها بمواصلة مقاضاة رئيس الوزراء. وفي غضون ذلك، تعزَّز الحكومة استبدادها الديني من خلال التشريعات، حيث قدمت مشروع قانون يمنحها مزيداً من السيطرة على وسائل الإعلام، ومشروع قانون من شأنه توسيع صلاحيات المحاكم الحاخامية.

قد يُحدّد مصير هذه الجهود مصير الفضائح التي تورَّط فيها نتنياهو ودائرته الداخلية. وبالإضافة إلى محاكمته الجارية بثلاث تُهم فساد، كما يخضع خبراء الدعاية الذين شكَّلوا رسائل نتنياهو السياسية، للتحقيق الجنائي لتلقّيهم رواتب من رئيس الوزراء وقطر (راعية حماس) قبل وأثناء الحرب الأخيرة. وقد أدَّى اتّفاق رئيس الوزراء على قيام قطر بتمويل "حماس" في السنوات التي سبقت الحرب الحالية إلى تأجيج هذا الجدل. وينظر على نطاق واسع إلى تعيين زيني رئيساً لجهاز الأمن العام "الشاباك" على أنَّه مناورة لإغلاق القضية، بالإضافة إلى كونه وسيلةً أخرى لمحاولة التخلص من بهاراف ميارا. وقد تم تسييس الشرطة الإسرائيلية بالفعل بشكل عميق من قبل وزيرها بن غفير.

لقد خفَّفت وحشيةُ الشرطة وإرهاق الحرب من حدَّة الاحتجاجات. ومع ذلك، في ضوء هذه المسيرة من الجدل، قد يكون من الصعب فهم سبب رغبة الإسرائيليين في إعادة نتنياهو إلى السلطة، حتى لو انتهت القضايا الجنائية، خاصَّةً هجوم "حماس". لكنَّ أنصار رئيس الوزراء يرون التحقيقات معه على أَنَّها مؤامرة من الدولة العميقة لمنع "إسرائيل" من التحوُّل إلى الدولة الدينية اليهودية التي يريدونها. وبهذه الطريقة، فهم لا يختلفون كثيراً عن أكثر ناخبي ترامب حماسة، حيث يستخدم الزعيمان كتب لعب متشابهةً.

وفي بلد يكون الدعم الأميركي بالغ الأهمّية، يحظى نتنياهو بتأييد ترامب. حتى إنَّ الرئيس الأميركي ندَّد بالمحاكمات ضد نتنياهو، ووصفها بأنَّها حملة شعواء، تماماً كما ندَّد بمحاكمته هو في بلاده. وخلال تصريحاته في الكنيست، دعا الرئيس الأميركي رئيس "إسرائيل" إلى العفو عن رئيس الوزراء. وهكذا، كان لدى نتنياهو الأسباب كلها للابتسام في أثناء خطاب ترامب، حتى وهو يستعدُّ لأحدث وأصعب معركة في مسيرته المهنية. قد يكون الفوز بإعادة الانتخاب أصعب من محاربة "حماس"، لكنَّها معركة مألوفة له، وهو الناجي الإسرائيلي البارع، وقد يمكنه هذا أن يخرج فائزاً.

نقله إلى العربية: حسين قطايا.