"فورين بوليسي": النعام الكندي بات ضحية اليمين الأميركي
كيف تحوّل الصراع على إعدام الطيور إلى نقطة اشتعال مناهضة للحكومة؟
-
"فورين بوليسي": النعام الكندي بات ضحية اليمين الأميركي
مجلة "فورين بوليسي" الأميركية تنشر مقالاً يتناول قضية صدام غير مسبوق بين مزرعة نعام صغيرة في كندا والسلطات الفيدرالية، تحوّلت إلى معركة سياسية وثقافية عالمية بعد أن جذبت اهتمام المحافظين في أميركا وكندا، وشخصيات مؤثّرة مناهضة للتطعيم.
القضية وفق المقال، تكشف عمق أزمة الثقة في المؤسسات، وانتشار الخطاب المناهض للعلم، وكيف يمكن أن تصبح الحيوانات رمزاً في حرب ثقافية بين اليمين والحكومة.
أدناه نص المقال منقولاً إلى العربية:
النعامة غير قادرة على الطيران، لكنها بارعة في بدء المعارك، بما في ذلك مناوشات الحروب الثقافية الدولية. ففي مزرعة كندية، أصبحت مئات النعام ضحايا غير متوقّعة للمحافظين حول العالم بعد تحوّلها إلى هدف لعملية إعدام أمرت بها الحكومة الفيدرالية.
وخلال عام 2025، حظيت النعام بدعم وسائل التواصل الاجتماعي اليمينية، التي بدأت في الترويج لقصتها كمثال على تجاوزات الحكومة، التي حفّزتها حالة عدم الثقة المرتبطة بمكافحة التطعيم. ودفعت هذه القصة المستمرة مئات الزوّار الأميركيين إلى التوافد إلى بلدة ريفية في كولومبيا البريطانية للدفاع عن طيورهم المحبّبة.
وقد اعتقلت الشرطة الكندية عدداً من الأشخاص على خلفيّة قضية النعام منذ بدء الأزمة. وفي 6 تشرين الثاني/ نوفمبر، وبعد أشهر من المماطلة، رفضت المحكمة العليا الكندية في النهاية الاستئناف الأخير الذي تقدّمت به مزرعة النعام، وسمحت ببدء عملية الإعدام. وتمّ حشد النعام وإعدامها بالرصاص وسط صيحات المتظاهرين الغاضبين.
كيف بدأت أعنف مواجهة مع الطيور منذ حرب الإيمو في أستراليا؟
تُعدّ إنفلونزا الطيور مشكلة عالمية مُتفاقمة. وفي حال تفشّي المرض، يُوصي المسؤولون الدوليون في مجال الصحة بإعدام الحيوانات المُجاورة لتلك المُصابة، وليس الحيوانات المصابة فحسب. لذا، عندما أصيبت النعام في مزرعة "يونيفرسال أوستريش فارم" (Universal Ostrich Farm) في إيدجوود، بكولومبيا البريطانية، بالمرض أواخر العام الماضي، أمرت الوكالة الكندية لفحص الأغذية (CFIA) المزرعة بإعدام جميع نعامها البالغ عددها 400 نعامة حفاظاً على السلامة العامّة. في الماضي، أدّى الطلب على ريش النعام إلى خلق سوق عالمية شديدة التنافس بشكل مفاجئ، إلا أنّ عدد مزارع النعام تراجع في السنوات الأخيرة، على الأقلّ في الولايات المتحدة.
وردّ مالكا مزرعة "يونيفرسال أوستريش فارم"، ديف بيلينسكي وكارين إسبرسن، وابنتها كاتي باستني، على الفور عبر وسائل التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام المحلية، مؤكّدين أنّ نحو 10% فقط من الطيور نفقت بسبب المرض، وأنّ البقيّة بحالة جيدة. إلا أنّ وثائق المحكمة تُشير إلى أنّ عدد الطيور النافقة بلغ 69 طائراً، وتعزو السبب إلى سلالة من إنفلونزا الطيور غير موجودة في كندا. وتلا ذلك عامٌ من التجاذب بين السلطات الحكومية والمقاومة المحلية، حيث وُضعت المزرعة في الحجر الصحي، وتولّى المسؤولون الكنديون الإشراف على الحيوانات. وتمّ إيقاف عملية الإعدام الأولى المقرّرة في 1 شباط/فبراير 2025، في انتظار المراجعة القضائية للقضية. وقد عزّزت هذه المراجعة، الصادرة في أيار/مايو، قرار الوكالة الكندية لفحص الأغذية، مشيرةً إلى أنّ "السماح لسرب طيور محلي معروف بتعرّضه لفيروس إنفلونزا الطيور شديد العدوى بالبقاء على قيد الحياة يسمح بوجود مصدر محتمل للفيروس"، ما "قد يزيد أيضاً من المخاطر على صحة الإنسان".
وقد استأنف المزارعون الحكم على الفور، الأمر الذي أدّى إلى تأجيل عملية الإعدام لبضعة أشهر أخرى؛ وتمّ رفض الاستئناف في آب/أغسطس، ثم تمّ تحويله إلى المحكمة العليا الكندية، التي أصدرت في نهاية المطاف أمراً بوقف تنفيذ عملية الإعدام في أيلول/سبتمبر، في انتظار جلسة استماع كاملة للقضية؛ ولكنها قرّرت في النهاية رفض الاستئناف حتى من دون عقد جلسة استماع.
وخلال هذه العملية المطوّلة، ازداد الدعم الشعبي للمزارعين، ليس فحسب في جميع أنحاء كندا، بل أيضاً عبر وسائل التواصل الاجتماعي المحافظة. ودعت عدة شخصيات أميركية محافظة، منها الجرّاح الشهير محمد أوز، ووزير الصحة والخدمات الإنسانية الأميركي روبرت إف. كينيدي الابن (الذي أثار بالفعل قلق خبراء الصحة العامة بشأن استجابته المحتملة لجائحة إنفلونزا الطيور)، السلطات الكندية إلى دراسة الطيور بدلاً من ذلك، بحجة أنّ بقاء السرب جعل الطيور مواضيع اختبار جيدة للأجسام المضادّة المحتملة لإنفلونزا الطيور.
في غضون ذلك، كان المتظاهرون من جميع أنحاء أميركا الشمالية يصلون إلى المزرعة النائية يومياً، ما أدّى إلى تعطيل الحياة المحلية ومُضايقة السكان المجاورين. وقد أُلقي القبض على أحد المتظاهرين في أوائل تشرين الأول/أكتوبر لاعتدائه جسدياً على إحدى جارات مزرعة النعام بسكب البنزين عليها وضربها. وفي وقت لاحق من هذا الشهر، اعتُقل مؤثّر على مواقع التواصل الاجتماعي خالف قيود الحجر الصحي في المزرعة، ومُنع لاحقاً من دخولها.
إضافة إلى ذلك، أُلقي القبض على كلّ من إسبرسن وباستني في أيلول/سبتمبر بعد رفضهما مغادرة المزرعة وإعاقتهما جهود الوكالة الكندية لفحص الأغذية للاستيلاء عليها؛ وادّعت باستني أنها وأمها كانتا تطعمان الطيور فحسب. وسبق أن أصدرت الوكالة الكندية لفحص الأغذية مخالفات بحقّ المزرعة لتقصيرها في إبلاغ السلطات بالمرض كما ينبغي، ولعدم تطبيقها قيود الحجر الصحي بشكل صحيح. وتمّ تغريم المزرعة بمبلغ 20 ألف دولار كندي (أي نحو 14,300 دولار أميركي) بسبب هذه المخالفات.
ومنذ البداية، واصلت باستني - المتحدّثة غير الرسمية باسم المزرعة - دفاعها عن سرب الطيور لديها، وهي ترتدي قبعة تحمل شعار "لنجعل كندا حرّة مرة أخرى" وتظهر على وسائل الإعلام المستقلة المحلية مثل منصة "ريبيل نيوز" (Rebel News) الكندية، التي أنشأت موقعاً فرعياً كاملاً بعنوان "أنقذوا النعام!".
تتنوّع اعتراضات المزارعين على استحواذ الوكالة الكندية لفحص الأغذية، بدءاً من تصنيف القطاع للمزرعة نفسها على أنها مزرعة مخصصة للـ"دواجن" في حين أنّ النعام لا يُباع للحمه بل لريشه وزيته وجلوده. وتبدو المخاوف من أنّ النعام قد يصيب سلسلة إمدادات الغذاء بالعدوى غير مبرّرة إلى حدّ كبير، لأنّ النعام لا يتفاعل مع قطاع الأغذية، وقد خضع للحجر الصحي لأكثر من عام.
علاوة على ذلك، يحمل القلق الاقتصادي ثقلاً هائلاً، لأنّ عملية الإعدام ستعرّض مستقبل المزرعة للخطر، الأمر الذي يستدعي، وفق أحد القضاة، "إغلاق عمل عمره 25 عاماً وخسارة جهود مقدّم الطلب التي استمرت عقوداً من الزمن في تربية قطيع فريد من النعام".
ولم يخفَ على أحد أنّ المزرعة التي تخوض هذه المعركة ضدّ الحكومة هي مزرعة صغيرة ومستقلة، في عصر صعّب فيه تغيّر المناخ واحتكار الصناعة وتفشّي الأمراض الزراعة بشكل متزايد وجعلها مكلفة للغاية. وسواء أكان ذلك مقصوداً أم لا، فإنّ إصرار الحكومة على إعدام النعام قد يُرسل رسالةً إلى صغار المزارعين المستقلين الآخرين مفادها أنّ سبل عيشهم ليست مهمة في حال تفشّي مرضٍ مُحتمل. (وقد أُفيد بأنّ مزرعة "يونيفرسال أوستريش فارم" مدينة أصلاً بمبلغ 250 ألف دولار كندي).
كذلك يبرز عدد من المخاوف العملية. فإعدام 400 حيوان ضخم جداً، قادر على الجري بسرعة فائقة، بطريقة إنسانية، يُعدّ أمراً صعباً كما يبدو. وكما أكدت باستني مراراً عبر مقاطع فيديو منتظمة على مواقع التواصل الاجتماعي وبثّ مباشر من المزرعة، فإنّ هؤلاء الملاكمين، الذين يبلغ وزنهم 250 رطلاً، رائعون، وقد انضمّوا إلى قائمة الحيوانات الأخرى التي أثارت ضجةً عندما أدانتها الحكومة.
إلا أنّ ما حوّل هذه القضية إلى حدث عالمي شامل هو عدم ثقة المحافظين في الحكومة، المرتبطين بمعارضة التطعيم ــ وهو انعكاس لمزيج من السخط والشكّ أدّى إلى اندلاع احتجاجات قافلة الشاحنات الكندية في عام 2022. ويبدو أنّ العبارة الأساسية التي يردّدها المؤيّدون بسيطة: لماذا لا يتمّ اختبار النعام لمعرفة ما إذا كان لا يزال يحمل الفيروس؟
لكنّ أيّ اختبارات إضافية تُجريها الحكومة قد يرفضها مؤيّدو المزرعة، الذين دقّقوا في إشراف الوكالة الكندية لفحص الأغذية على المزرعة منذ الاستحواذ عليها. وقد أجبرت هذه الانتقادات الوكالة على الدفاع عن نفسها في بيانات رسمية بشأن كلّ شيء، بدءاً من ملابس العمل التي يرتديها موظّفوها، ووصولاً إلى نفوق نعامة واحدة بسبب "حالة مرضية سابقة". ويطالب المؤيّدون بإجراء اختبارات مستقلة، ويدعو بعضهم الحكومة الكندية إلى السماح لكينيدي، وزير الصحة الأميركي المعروف بمعارضته للعلم، بتولّي المشروع.
وحتى لو اعتبرنا نتائج هذه الاختبارات موثوقة، فمن غير الواضح ما إذا كانت ستشكّل أهمية، لأنه حتى الطيور السليمة قد تظلّ حاملة للفيروس من دون ظهور أيّ أعراض عليها؛ ما يعني أنّ وجود إنفلونزا الطيور قد يمرّ من دون أن يتمّ اكتشافه. إلا أنّ كلّ ذلك لم يمنع المؤيّدين وغيرهم من نشر نظريات لا أساس لها من الصحة حول أنشطة الحكومة الزراعية، بدءاً من اتهامات طحن اللحوم في وقت متأخّر من الليل إلى الاعتقاد، كما قال أحد المخيّمين في الموقع، بأنّ الحكومة الكندية سلّمت سلطتها إلى "منظمة الصحة العالمية وبيل غيتس".
وفكرة أنّ سلطة الحكومة الكندية قد حلّت محلّها قوة عالمية أكبر هي فكرة مثيرة للاهتمام، ولا سيما أنّ الكثير من داعمي المزرعة ليسوا كنديين. لكنها تُعيدنا إلى الجدل الدائر حول جائحة "كوفيد-19" حول ما إذا كان ينبغي الوثوق بالأفراد لاتخاذ قراراتهم الصحية بأنفسهم، حتى عندما تتعارض هذه القرارات مع السلامة العامّة. إلى حدّ ما، يبقى هذا السؤال دائماً جديراً بالطرح، خاصةً مع وجود الكثير من المخاطر. وكلما طالت مدة بقاء النعام على قيد الحياة مع الظهور بصحة جيدة، كلما بدا هذا السؤال أكثر صحة لدى الكثيرين.
ومن الناحية الجوهرية، يدور هذا الصراع حول من يتمّ اعتماد رأيه ويُقدّر، وكيف تُكتسب السلطة وتُمنح. ويتجاوز هذا السؤال نقاشات الرعاية الصحية ليمسّ تقريباً كلّ جانب من جوانب المجتمع الحديث - بدءاً من قائمة المعيّنين الحكوميين غير المؤهّلين التي وضعها الرئيس الأميركي دونالد ترامب، وصولاً إلى تساؤل حول سبب افتقار الكثير من مُقدّمي برامج البودكست والمحللين المشهورين إلى الخبرة الفعلية في المواضيع التي يُلقون خطباً فيها. ففي الولايات المتحدة، التي تُخوض حرباً ثقافية على التعليم، وتشهد انخفاضاً حاداً في معدلات الإلمام بالقراءة والكتابة بين البالغين، غدا المتعلّمون ذاتياً، أمثال كينيدي، شخصياتٍ مُهيمنة.
وهنا تكمن أهمية الحدود. فقد تراجعت ثقة الشعب الأميركي برموز السلطة من جميع الأطياف، ولا سيما في مجال الرعاية الصحية، بشكل عامّ خلال الجائحة، واستمرت في الانخفاض منذ ذلك الحين. في المقابل، على الرغم من تراجع ثقة الشعب الكندي في الشخصيات السياسية الإقليمية والوطنية، ظلّت ثقة الكنديين المشاركين في استطلاعات الرأي بمقدّمي الرعاية الصحية المحليين ومسؤولي الرعاية الصحية الوطنية وحتى منظّمة الصحة العالمية تتراوح بين المتوسطة والمرتفعة، واستمرت على هذا النحو. وعليه، فإنّ أزمة النعام لا تعمل على تعزيز اعتقاد الكثير من الأميركيين المحافظين في تجاوزات الحكومة فحسب، بل إنها تصيب الكنديين أيضاً بفيروس مختلف تماماً، وهو سلالة غير أصلية من التشكيك المناهض للعلم.
وهناك أيضاً مفارقة أخرى أكثر حزناً، وهي أنه في حين احتشد عدد كبير من المحافظين في الولايات المتحدة خلف النعام الذي وقع ضحية، فإنّ السياسات الأوسع التي يدعمها الكثير منهم قضت بشكل نهائي على وكالة حماية البيئة، وقلبت مسار مكافحة تغيّر المناخ، التي كانت ضعيفة بالأصل، رأساً على عقب، وتجاهلت حماية أنواع متعدّدة من الحيوانات المهدّدة بالانقراض. ولا أحد يحشد الدعم لها.
وفي الوقت الراهن، يبدو أنّ مصير النعام قد حُسم. فقد اكتملت عملية الإعدام، ويبدو أنّ المتظاهرين لا يملكون سوى الحداد والمضي قدماً وتخليد ذكرى الضحايا.
نقلته إلى العربية: زينب منعم.