نتنياهو ضد الجنرالات... مجدداً

الحرب الإسرائيلية على غزة تكشف عن صراع حاد بين رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو ورئيس الأركان إيال زامير، حيث يصرّ الأول على اجتياح شامل للقطاع رغم معارضة "الجيش". يعاني الجنود الإسرائيليون من إنهاك جسدي ونفسي، ما دفع زامير لتقليص العمليات وسحب بعض الوحدات. فكيف تعمّق الخلاف العسكري-السياسي الإسرائيلي؟

  • رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ورئيس أركان
    رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ورئيس أركان "الجيش" الإسرائيلي إيال زامير (أرشيفية)

ظهّر السابع من أكتوبر الكثير من مكامن الضعف في المجتمع الإسرائيلي. في ذروة أطول حروب إسرائيل وأكثرها تعقيداً في تاريخها الحديث، تكشّف إلى العلن خلافٌ عميق بين الجيش الإسرائيلي والمستوى السياسي. الصراع الحالي بين رئيس الأركان، إيال زامير، ورئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، هو تجلٍّ ظاهر لسلسلة طويلة من صراعات نتنياهو مع قادة الأجهزة الأمنية والعسكرية الإسرائيلية. تاريخياً، يُعرف نتنياهو بكرهه للضباط الذين لا يلبّون طلباته. فهو روّج للمجتمع الإسرائيلي طوال سنوات حكمه أنه "سيد الأمن"، وأنه يعلم أكثر من غيره كيف تُدار الحروب، مستفيداً من فترة السنوات الخمس التي خدم فيها في سرية هيئة الأركان "سيريت متكال".

مع بداية الحرب الإسرائيلية الأخيرة على قطاع غزة في السابع من أكتوبر 2023، اصطدم نتنياهو بواقع أن رئيس الأركان الموجود والذي يجب التعاطي معه، هو هرتزل (هيرتسي) هاليفي الذي عيّنه رئيس الوزراء السابق نفتالي بينت. بانت الخلافات بين الرجلين أثناء الحرب على قطاع غزة. بعد السنة الأولى من الحرب، فقد أرادت الحكومة الإسرائيلية ونتنياهو استئناف الحرب بعد الهدنة الثانية في آذار الماضي، لكن الجيش، ووزير الأمن حينذاك، يؤاف غالانت (الليكودي)، رفضا ذلك، وبرّرا ذلك بخوفهما على حياة الأسرى، وسوء الحالة التي وصل إليها الجنود بسبب المدة الطويلة للخدمة، والحاجة إلى عديد بشري إضافي للتعويض عن النقص الذي تسببت به الحرب.

نتنياهو، الذي يرى في استمرار الحرب استمراراً لحكومته، رفض وقف الحرب، ورفض تجنيد الطلاب اليهود (الحريديم) لأنهم يشكّلون قاعدته الانتخابية، فما كان منه إلا العمل على تغيير هاليفي، وإحراج غالانت لإجباره على الاستقالة. فهاجمت الطبقة السياسية الإسرائيلية الرجلين، وكان وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير ووزير المالية بتسلئيل سموتريتش ووزيرة المواصلات ميري ريغيف رأس الحربة وأدوات نتنياهو لإجبار الرجلين على الاستقالة.

بعد رحيلهما، وقع اختيار نتنياهو (أيّده بذلك سموتريتش) على زامير، الذي اعتُبر رجله في "الجيش"، فهو كان سكرتيره العسكري، والمدير العام لوزارة الأمن الذي عمل معه بشكل يومي، إذ كان مسؤولاً أثناء العدوان عن مهمة شراء الذخائر والأسلحة للجيش، كما كان إلى جانب نتنياهو أثناء خلافه مع غالانت. أما السبب الرئيسي لصعود أسهم زامير، فهو قبوله شن عملية عسكرية على قطاع غزة. بعد استلامه مهامه في شباط الماضي، أطلقت إسرائيل عملية "عربات جدعون"، معلنة أن هدفها هو تحرير الأسرى وإسقاط حكم "حماس" السياسي والعسكري في قطاع غزة.

مرة جديدة، لم ينجح "الجيش" الإسرائيلي في تحقيق أهدافه، ولم يتمكن من تحرير أسيرٍ واحد، بل إن استمرار العملية زاد من احتمالية مقتلهم، كما أن عدد القتلى من الجنود بلغ 40 قتيلاً، وعوضًا عن إضعاف المقاومة عسكرياً، أتاح وجود الجنود الإسرائيليين على الأرض المجال للمقاومة لتنفيذ عمليات نوعية في بيت حانون (تبعد كيلومترًا واحدًا عن الحدود مع فلسطين المحتلة ومدمّرة بشكل كامل)، وفي رفح (في حزيران الماضي)، التي يروّج العدو أنه طهّرها وأصبحت خالية من المقاومين.

"ما نراه من هنا، مختلف عما كنا نراه من هناك"

في العام 2004، عندما قرر رئيس الحكومة الأسبق أرئيل شارون (والد الاستيطان) إخلاء مستوطنات غزة وشمال الضفة، هاجمه اليمين المتشدّد متهماً إياه بالانقلاب على مبادئه، فقال شارون حينذاك عبارته الشهيرة: "ما نراه من هنا (في الحكم) مختلف عما كنا نراه من هناك (عندما كان معارضًا)". اليوم، أعاد التاريخ تكرار نفسه مع زامير. فهو عندما أصبح رئيسًا للأركان، أدرك حدود قوته وقدرته، فالجيش الإسرائيلي دخل في مرحلة استنزاف في قطاع غزة، لذلك عمل على إخراج الفرقة 98 من شماله، كما أعلن الجيش الإسرائيلي في (2-8-2025) عن تراجعه عن قرار إلزام جنود وحدات الكوماندوز (دفدوفان، ماغلان، والإيغوز) بتوقيع فترة خدمة إضافية في الخدمة الدائمة، وذلك بعد موجة من الاعتراضات والانتقادات من داخل صفوف الجنود، بحسب ما كشفته صحيفة "يديعوت أحرونوت"، منذ ثلاثة أسابيع.

وقد ألغى هذا القرار، قراراً سابقاً أصدره هاليفي، بسبب الخسائر البشرية المرتفعة، ما دفع الجيش للبحث عن حلول لتعويض النقص، فكانت إلزام جنود الكوماندوز بالتوقيع على سنة إضافية من الخدمة الدائمة (48 شهرًا عوضًا عن 36، وهي فترة الخدمة الإلزامية).

لكن، في أعقاب دراسة أجرتها لجنة تقييم داخلية ترأسها الجنرال المتقاعد أمير أبو العافية، تقرر أن الجنود الذين يخدمون حاليًا في وحدات النخبة، سيُنهون خدمتهم في الموعد الأصلي، وفقًا لمبدأ "عدم تغيير قواعد اللعبة أثناء اللعب".

وقال الجيش الإسرائيلي في بيان: "ندرك حجم الإنهاك الجسدي والنفسي لدى الجنود، وقد أظهرت المناقشات وجود ثغرات في النموذج السابق، مما تسبب بأضرار كبيرة في نظام الاحتياط وأدى إلى خلل داخل الفرق القتالية".

كما كشفت صحيفة “يديعوت أحرونوت” (6-8-2025) أن قسم إعادة التأهيل في وزارة الأمن يُعالج حالياً نحو 80 ألف عسكري مصاب، بينهم 26 ألفاً يعانون اضطرابات نفسية. ونقلت الصحيفة عن الوزارة أنها تُقدّم خدمات العلاج في الوقت الراهن لحوالي 80 ألف مصاب من عناصر الجيش، وأن 33% من المصابين يعانون من اضطرابات نفسية واضطراب ما بعد الصدمة. كما يُخصّص حوالي 4.2 مليارات شيكل (نحو 1.2 مليار دولار) لخدمات مقدمة لمرضى القسم.

هذا الواقع أدركه زامير جيداً عندما أصبح رئيساً للأركان، والصراع الحالي بين "العسكر" و"السياسة"، لا يعكس اختلافًا في التقديرات فحسب، بل يكشف انقسامًا أعمق بين تناقضين: الأول يرى في استمرار الحرب واحتلال غزة بقاءً لحكمه ويخدم أجندته الاستيطانية، والثاني يُدرك حجم التعب الذي أصاب الجنود، والضرر الذي أصاب آليات العدو، ما يمنعها من تنفيذ ذلك.

ما يدور حالياً من مشهد توتر بين المستوى العسكري والسياسي، سببه إصرار نتنياهو على احتلال كامل قطاع غزة، وهو ما يرفضه زامير بشدة، لأن ما يراه من منصبه يختلف عما رآه عندما كان مديراً عاماً للوزارة.

الخلاف إلى العلن

شهد الإعلام الإسرائيلي هذا الأسبوع حملة تسريبات متبادلة مصدرها مقرّبون من نتنياهو وآخرون من زامير. الساسة شددوا على أن الجيش يخضع لإمرتهم، بينما "العسكر" قالوا إن الحكومة تقع في خطأ استراتيجي ولا تملك رؤية واضحة بما يتعلق بغزة.

في اجتماعات الكابنيت الأخيرة، قدّم رئيس الأركان إيال زامير ثلاث بدائل لعمليات عسكرية محدودة، لا تشمل اجتياحًا بريًا شاملًا لقطاع غزة. هذه الخطط تركز على تطويق مناطق يُعتقد أن الأسرى موجودون فيها، وقصفها وتنفيذ عمليات موضعية بتكلفة بشرية وعسكرية يُعتقد بأنها ستكون منخفضة نسبياً. لكن نتنياهو، بدعم من وزراء مثل سموتريتش وبن غفير، يصرّ على خطة شاملة لاحتلال القطاع، تتطلب تعبئة نحو 6 فرق عسكرية وتنفيذ عمليات تطهير للمناطق تحتاج لسنتين على الأقل.

هذا الإصرار قابله تحفّظ واسع داخل الجيش، عبّر عنه زامير بوضوح بقوله إن مثل هذه العملية تؤدي إلى مقتل عدد كبير من الجنود، وتُعرض الأسرى الإسرائيليين في غزة للخطر المباشر، إضافة إلى تفكك محتمل لمنظومة القوات النظامية والاحتياط.

حرب غزة تنعكس على الجيش

قلق زامير من تصعيد الحرب، ورفضه لتوجه الساسة في إسرائيل لاحتلال غزة، ليس مرتبطاً بخوفه على جنوده والأسرى، فقد وصلت الخلافات إلى داخل هيئة أركانه. إذ كشفت كل من "يديعوت أحرونوت" و"هآرتس" (6-8-2025) عن خلاف بين قائد سلاح الجو تومر بار، وقائد المنطقة الجنوبية يانيف عاسور. وبحسب التسريبات، أثناء اجتماع القيادة العامة لهيئة الأركان يوم الخميس الماضي (31-7-2025)، اتهم بار زميله عاسور باستهداف مدنيين فلسطينيين غير ضالعين في القتال. وردّ عاسور قائلًا: "أنتم هناك في تل أبيب معزولون عن ميدان القتال".

ونقلت "هآرتس" عن ضابط إسرائيلي كبير قوله إن "عاسور شاهد الحرب من الكرياه (وزارة الأمن في تل أبيب) عندما كان رئيساً لشعبة القوى البشرية، واكتشف فجأة أن هذا ليس سهلًا كما اعتقد، وأنه ليس أي شيء تريد تنفيذه سيحدث".

وأضاف الضابط أن "عاسور لم يُدرك إرهاق الجنود في ميدان القتال، وأدرك هو ورئيس هيئة الأركان العامة أن هذا معقّد أكثر مما اعتقد قبل أن يتولى المنصب. وآمن عاسور أنه إذا هاجمنا أكثر وأبدنا أكثر وقتلنا أشخاصاً أكثر، حماس ستستسلم. وهذا لم يحدث، وتسبب بإحباط لديه". وبحسب الصحيفة، "في سلاح الجو قالوا مراراً إن استخدام القوة الجوية يتم بدون تفكير عملياتي، وبدون أن يكون الهدف منها الحفاظ على القوات في ميدان القتال، مثلما كان في المراحل الأولى للحرب".

من جهة أخرى، يواصل نتنياهو التلويح باحتلال القطاع، وهو ما عبّر عنه في مقابلة مع "فوكس نيوز" (7-8-2025)، وقبل اجتماع الكابينت الأمني والسياسي المصغّر، بقوله: "سنسيطر على قطاع غزة بالكامل ونسلمه لاحقاً لجهة لا علاقة لها بحماس ولا تهدد أمننا. لا نريد حكم غزة، بل سنحرر السكان من حكم حماس".

من جهتهم، دافع محللون عسكريون مقرّبون من قيادة الجيش عن رئيس الأركان، وقالوا إن رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو يريد زامير كبش فداء. وقال المحلل العسكري لصحيفة "يسرائيل هيوم"، يوآف ليمور (6-8-2025) إن نتنياهو يزجّ بزامير في الزاوية، ويريدون تحميله مسؤولية خطتهم إذا فشلت.

وعبّر ليمور عن وجهة نظر الجيش بالقول: "زامير يؤيد هزيمة حماس. وهو يؤيد تحرير المخطوفين أولاً. كما أنه يعتقد أن احتلالاً كاملًا لغزة من شأنه أن يكون مدمّرًا، ليس لحماس فقط، وإنما لإسرائيل أيضًا، على خلفية وضعها الدولي المتردي، والشرخ الداخلي المتفاقم، ومن شأنه أن يهدد سلامة الجيش الإسرائيلي".

نتنياهو Vs الجنرالات

في كتابه "نتنياهو Vs الجنرالات: الصراع لمستقبل إسرائيل"، يقدّم الباحث غاي زيف صورة مفصلة لتاريخ الخلافات المتكررة بين نتنياهو ورؤساء الأركان وقادة الأجهزة الأمنية السابقين منذ توليه رئاسة الحكومة. يوضح المؤلف أن نتنياهو ينظر إلى المؤسسة العسكرية باعتبارها مركز قوة موازٍ للسلطة السياسية، توجب تحجيمها، ويذكر الكتاب شواهد عدّة مثل خلافه مع وزير الأمن السابق إيهود باراك بشأن توجيه ضربة لإيران في العام 2008.

ويرى زيف أن نتنياهو يعتمد على تضخيم التهديدات الأمنية واستثمارها في تعزيز صورته كقائد "حامي إسرائيل"، وهو ما يدفعه أحياناً إلى اتخاذ قرارات تتعارض كليًا مع توصيات هيئة الأركان... وهذا ما يجري مع زامير الآن.

اقرأ أيضاً: إعلام إسرائيلي: "الكابينت" يناقش الخميس قرار احتلال غزة.. زامير يعارض لكنه التزم بالتنفيذ

في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 أعلنت كتائب القسام معركة "طوفان الأقصى"، فاقتحمت المستوطنات الإسرائيلية في غلاف غزة، وأسرت جنوداً ومستوطنين إسرائيليين. قامت "إسرائيل" بعدها بحملة انتقام وحشية ضد القطاع، في عدوانٍ قتل وأصاب عشرات الآلاف من الفلسطينيين.

اخترنا لك