كيف استخدم نتنياهو "الولاء المطلق" في وجه "حراس العتبة"؟

نحن أمام مشهد غير مسبوق في "إسرائيل": حكومة تستند إلى أغلبية برلمانية ضئيلة، لكنّها تسعى إلى تغيير البنية المؤسّساتية نفسها من الداخل، وعليه إنّ ما يشهده كيان الاحتلال اليوم من أزمات سياسية ومجتمعية لا يمكن فصله عن هذه التحوّلات في بنية الحكم.

  • كيف استخدم نتنياهو
    كيف استخدم نتنياهو "الولاء المطلق" في وجه "حراس العتبة"؟

منذ تولّي بنيامين نتنياهو رئاسة الحكومة الإسرائيلية في العقدين الأخيرين، برز توجّه متصاعد داخل حكوماته نحو تعيين المقرّبين والموالين في المفاصل الحسّاسة في "الدولة". يرى نتنياهو وشركاؤه في الائتلاف الحكومي، أن مؤسّسات "الدولة" تعجّ بما يسمّونه "الدولة العميقة" من الموظفين والمعارضين الذين يعرقلون سياساتهم، ولذلك يجب، في نظرهم، تطويع هؤلاء أو تجاوزهم.

عليه، تبنّى نتنياهو ووزراؤه استراتيجية لإخضاع تلك المنظومة عبر تعيين شخصيات موالية في المناصب العليا، وتقليص صلاحيات "حراس العتبة" الذين يُنظر إليهم بوصفهم عوائق أمام أجندتهم. لم تقتصر هذه الاستراتيجية على التعيينات فحسب، بل سعت أيضاً إلى إقرار قوانين تغيّر تركيبة اللجان التي تعيّن هؤلاء.

منذ تولّي نتنياهو السلطة بشكل متواصل منذ عام 2009، عمل على ضرب الأسس التي قامت عليها "إسرائيل"، أي مبدأ فصل السلطات، فأصبح كل شيء مرتبطًا به شخصيًا. حتى "قدس أقداس" الكيان، أي الجهاز القضائي، سعى إلى تفكيكه واستهداف أعلى جهة قضائية، المحكمة العليا والمستشارة القضائية للحكومة.

مثال على ذلك، ياريف ليفين، وزير القضاء الذي عمل، منذ تولّيه منصبه في حكومة نتنياهو الأخيرة، على إعادة تشكيل جهاز القضاء بصورة غير مسبوقة. في فترة قصيرة، تمكّن من تعيين 204 قضاة ومسجّل جديد، أي ما يقارب ربع قضاة "إسرائيل"، كثيرون منهم معروفون بتوجّهاتهم الدينية المحافظة وصلاتهم بساسة اليمين (موقع «شومريم»، 6/11/2025). هذه الموجة الواسعة من التعيينات غيّرت تركيبة المحاكم.

لم يكتفِ ليفين بذلك، بل سعى أيضاً إلى توسيع قدرة الحكومة على التحكّم بالتعيينات في مختلف هيئات "الدولة". فدفع نحو تشريع قوانين تسمح بإقالة كبار موظفي الخدمة المدنية فور تسلّم حكومة جديدة لمقاليد الحكم، مبرّرًا ذلك بضرورة "وضع حدّ للوضع العبثي الذي لا تُنفَّذ فيه سياسات الوزراء بسبب عدم تعاون المسؤولين المهنيين".

إلى جانب ذلك، قاد ليفين بالتنسيق مع نتنياهو هجوماً واسعاً على جهاز القضاء للحدّ من استقلاليته. طرح مع حلفائه في الكنيست حزمة تعديلات قضائية شملت تغيير تركيبة لجنة اختيار القضاة وإلغاء "حجّة المعقولية" التي يستخدمها القضاء لمراجعة قرارات الحكومة.

هذه الخطوة قابلتها احتجاجات شعبية واسعة عام 2023 فرملت جزءاً من التعديلات، إلا أنّ وزير القضاء نجح في آذار/مارس 2025، في إقرار قانون أعاد تشكيل لجنة اختيار القضاة بحيث أزال تمثيل نقابة المحامين وأضعف نفوذ قضاة المحكمة العليا.

بالتوازي، مضى ليفين في إضعاف موقع المستشارة القضائية للحكومة، غالي بهاراف–ميارا، في محاولة لإقالتها وتعيين شخصية أكثر ولاءً للحكومة. إلى الآن، لم ينجح في ذلك، إلا أنّ الائتلاف الحكومي يسعى إلى إضعاف موقعها، إذ قرّر رئيس لجنة الدستور في "الكنيست"، سمحا روتمان، عرض مشروع قانون لتفكيك مهماتها إلى قسمين: الأول لتقديم الاستشارات القانونية للحكومة، والثاني لتعيين مدعٍ خاص للإشراف على النيابة العامة.

في السياق نفسه، تولّى يسرائيل كاتس حقيبة وزارة الأمن في أواخر عام 2024 خلفاً ليوآف غالانت، ومنذ دخوله مقرّ الوزارة حرص على إرسال رسائل واضحة إلى المؤسّسة العسكرية بأنّ ولاءها يجب أن يكون للقيادة السياسية أولاً. ففي خطوة غير معهودة، أصدر توجيهات صارمة منع بموجبها ضبّاط "الجيش" من تقديم أيّ إفادات أو إحاطات إعلامية للصحافة من دون إذن مباشر منه شخصياً. هذه السيطرة على التواصل الإعلامي لـ"الجيش" تمثّل قطيعة مع تقليد طويل كان يتيح للمستويات العسكرية التعبير عن مواقف مهنية على العلن ضمن حدود معيّنة.

لم يتوقف الأمر عند الإعلام، بل تعدّاه إلى التحكّم في مسار الترقيات والتعيينات داخل "الجيش". فقد كشفت صحيفة "يديعوت أحرونوت" (13/8/2025) عن خلاف حاد بين كاتس ورئيس الأركان إيال زامير بشأن ترقيات ضبّاط كبار.

حينذاك، اتهم كاتس زامير بأنّه يحاول "تغيير إجراءات عمل متّبعة ربما بتحريض من مستشارين معارضين للحكومة"، وذلك بعد تسريب معلومات إلى الإعلام أنّ زامير يستشير شخصيات أمنية سابقة تنتقد الحكومة في قرارات التعيين، في إشارة إلى ضبّاط سابقين مثل إسرائيل زيف وغابي أشكنازي وآفي بنياهو.

إثر ذلك، امتنع كاتس لأسابيع عن لقاء زامير للبتّ في ترقية عدد من قادة الألوية الذين شاركوا في العدوان على غزة، ما أدّى إلى تعطيل ترقياتهم. واشتكى مسؤولون في "الجيش" من أنّ هذه المماطلة "تلحق ضرراً بالقادة الذين قدّموا كلّ شيء في أثناء الحرب… فالحدّ الأدنى تجاههم هو منحهم يقينًا بشأن مستقبلهم المهني".

مؤخّراً، وبعد استقالة المدّعية العامة العسكرية يفعات تومر–يوروشالمي، عقب تسريب فيديو سجن "سديه تيمان"، عيّن كاتس إيتي عوفر، المقرّب منه ومن التيار اليميني المتشدّد، في منصبها.

باختصار، رسم إسرائيل كاتس منذ تسلّمه وزارة الأمن خطّاً جديداً في علاقة "الجيش" بالسياسة، قوامه الولاء والاصطفاف والتأكيد على سيطرة المدنيين المنتخبين على "الجيش".

وكما جرى في "الجيش"، شهد جهاز الشرطة تسييساً واضحاً منذ تولّي إيتمار بن غفير وزارة الأمن القومي. أدرك بن غفير أن السيطرة على الشرطة تقتضي إحلال قيادات تتّفق مع رؤيته المتشدّدة، لذلك عمل منذ اليوم الأوّل على إعادة هيكلة قيادة الشرطة وتعيين موالين لليمين.

في منتصف 2024، أقال بن غفير القائد العام للشرطة، المفتّش كوبي شبتاي، الذي انتهت ولايته وسط توتّر معه، وعيّن بدلًا منه اللواء دانيال (داني) ليفي مفوّضاً عاماً للشرطة. يُعرَف عن ليفي أنّه مقرّب من بن غفير، الذي لم يتردّد في الاعتراف علنًا بهذا النهج؛ ففي مقابلة قال: "أنا بصراحة أبحث عن الضباط الذين ينفّذون سياستي… هذا ما انتُخبت من أجله" ("تايمز أوف إسرائيل"، 12/1/2025).

بن غفير لم يكتفِ بالتدقيق في الولاءات من بعيد، بل طرح أسئلة مباشرة على المرشّحين للترقية حول مدى ولائهم له. فقد كشفت صحيفة "هآرتس" (12/12/2024) أنّه سأل ضبّاطاً مرشّحين لمناصب قيادية: "هل سيكون ولاؤك لي؟".
أمّا بتسلئيل سموتريتش، أحد أبرز وجوه اليمين الديني القومي في حكومة نتنياهو، فقد مُنِح حقيبة المالية إلى جانب تكليفه بمنصب "وزير ثانٍ" في وزارة الأمن مسؤول عن الإدارة المدنية في الضفة الغربية. استخدم سموتريتش المنصبين لترسيخ نفوذ غير مسبوق عبر شبكة من الموالين في المؤسّستين المالية والاستيطانية.

في وزارة المالية، بدأ سموتريتش ولايته بخطوات تصادمية مع الطاقم التقليدي، إذ عيّن حليفه المقرّب شلومي هايسلر مديراً عاماً للوزارة رغم افتقاره لأيّ خبرة سابقة في مجال الاقتصاد أو الإدارة المالية. أثار هذا التعيين انتقادات فورية في الصحافة الاقتصادية، وعلّقت صحيفة "ذا ماركر" متسائلة: "هل ينضمّ سموتريتش إلى الموجة؟ المرشّح لمنصب مدير عام المالية يفتقر إلى التعليم أو الخبرة الاقتصادية" (3/1/2023).

أمّا في ملف الإدارة المدنية والاستيطان، فكان تأثير سموتريتش أكثر وضوحاً. فبموجب اتفاق الائتلاف، انتزع صلاحيات واسعة في الضفة الغربية مكّنته من فرض رؤيته بخصوص البناء الاستيطاني وهدم البناء الفلسطيني. وفي مطلع 2023 وقّع اتفاقًا مع وزير الأمن آنذاك يوآف غالانت يقضي بنقل سلطات التخطيط والبناء في الضفة إلى يد سموتريتش كوزير في وزارة الأمن. وضمن هذا الترتيب، أُنشئت "إدارة مدنية" تحت إشراف سموتريتش داخل وزارة الأمن، مهمّتها إدارة أنشطة البناء.

على صعيد الموازنة وتمويل المشاريع، استخدم سموتريتش نفوذه في وزارة المالية لضخّ مخصّصات هائلة للمستوطنات ولمشاريع التيار الديني الذي ينتمي إليه. فميزانية 2023 – 2024 تضمّنت مليارات الشواكل لدعم مجالس المستوطنات والبنى التحتية في الضفة، وكذلك تمويل مدارس دينية ومعاهد توراتية مرتبطة بالتيار الديني القومي.

تشير الأمثلة السابقة إلى ملامح نهج عام تتبعه حكومة نتنياهو، قوامه إحاطة مواقع القرار والأجهزة الحسّاسة بأشخاص موثوقين ومقرّبين. غير أنّ "والد" هذه السياسة الفعلي هو نتنياهو شخصياً. فبالرغم من تركيز الأضواء على وزرائه، يبقى نتنياهو "المايسترو" الذي ينسّق هذه التحرّكات ويستفيد منها لترسيخ حكمه الطويل. لقد أدرك، خصوصاً منذ توجيه لوائح اتّهام بالفساد ضدّه، أنّ بقاءه السياسي مرهون بتغيير "حراس العتبة" التقليديين – من قضاء وإعلام ومعارضة قوية – واستبدالهم بمن يضمنون له "الولاء المطلق" أو على الأقل عدم التمرّد. لذا، لم يكن غريبًا أن تشهد حكوماته الأخيرة سلسلة تعيينات وإقالات تستهدف مفاصل "الدولة العميقة" كما يسمّيها.

فعندما عاد نتنياهو إلى الحكم، في عام 2022، وجد أنّ رئيس الأركان السابق هرتسي هليفي، ورئيس الشاباك السابق رونين بار، والمستشارة القضائية للحكومة غالي بهاراف–ميارا قد عُيِّنوا في زمن حكومة يائير لابيد ونفتالي بينيت؛ لذلك عمل على إبعاد الثلاثة عن مواقعهم، وقد نجح مع هليفي وبار، ويحاول الآن مع ميارا.

إلى جانب الأمن، مدّ نتنياهو يده إلى مؤسّسات مدنية وثقافية ورمزية لتعيين مقرّبين منه. فقد حاول أن يعيّن حليفاً له، هو الجنرال المتقاعد إيفي إيتام المعروف بمواقفه المتطرّفة، رئيسًا لمؤسّسة "ياد فاشيم" لتخليد ذكرى المحرقة، ما أثار استياء داخلياً ودولياً كبيراً.

وأبرز مثال على المحسوبية في "إسرائيل" هو ترشيح نجل نتنياهو، يائير، لتولّي رئاسة قسم الشتات والإعلام في المنظمة الصهيونية العالمية، على أن يحصل على راتب وزير.

نحن أمام مشهد غير مسبوق في "إسرائيل": حكومة تستند إلى أغلبية برلمانية ضئيلة، لكنّها تسعى إلى تغيير البنية المؤسّساتية نفسها من الداخل. إنّ ما تشهده "إسرائيل" اليوم من أزمات سياسية ومجتمعية لا يمكن فصله عن هذه التحوّلات في بنية الحكم. فالمظاهرات الحاشدة التي عمّت شوارع "إسرائيل" عام 2023 احتجاجاً على مشروع "الإصلاح القضائي" كانت في الجوهر تعبيراً عن خوف شريحة واسعة من الإسرائيليين من تحوّل "دولتهم" إلى نظام يقوم على الولاءات بدلاً من المؤسّسات، ما يعني تحوّلها إلى دولة شرق أوسطية بامتياز.

اقرأ أيضاً: الخداع والتضليل.. "إسرائيل" سيدته وضحيته

اخترنا لك