آفاق مواجهة "القبب الدفاعية" في تركيا واليونان
تلقفت أثينا الخطوات التركية الأخيرة فيما يرتبط بسلاح الجو، بخطوات عاجلة، تمثلت في البدء بدراسة إمكانية شراء مزيد من مقاتلات "رافال" الفرنسية، من النسخة الأحدث.
-
مسار تركي متعدد الاتجاهات لامتلاك مقاتلات متفوقة.
دخلت التوازنات الدفاعية بين أثينا وأنقرة، مرحلة جديدة خلال الأسابيع الأخيرة، بعد أن أعلنت كلا الدولتين، عن نيتهما نشر "قبب دفاعية" تشمل طبقات من الدفاعات الجوية مختلفة الأنظمة، لحماية أجوائهما الوطنية، وهو ما أضاف مزيداً من الزخم للسباقات التسليحية القائمة حالياً بين البلدين، خاصة على المستويات الجوية والبحرية.
من حيث الشكل، يأتي الإعلان عن هذه النيات، عقب صفقات نوعية على المستوى الجوي، وقّعها كلا البلدين خلال العامين الأخيرين، كانت أبرزها توقيع اليونان منتصف العام الماضي، صفقة شراء 20 مقاتلة أميركية الصنع من نوع "إف-35"، بقيمة إجمالية تبلغ 3.76 مليارات دولار، سيتم تسليمها بين عامي 2028 و2033.
هذه الصفقة حفّزت أنقرة على السعي بشكل متسارع، لسد الفجوة المتوقعة في التسليح الجوي بينها وبين اليونان، خاصة أن سلاح الجو اليوناني بات يمتلك حالياً 24 مقاتلة حديثة فرنسية من نوع "رافال"، فضلاً عن أن برنامج تحديث نحو 83 مقاتلة يونانية من نوع "F-16"، إلى المعيار (VIPER)، يسير على قدم وساق، ومن المفترض أن تكتمل عملية تسلّمها بحلول عام 2027.
ما سبق، وفّر حوافز كافية لشروع أنقرة في جهد استثنائي، لدفع المفاوضات الشاقة التي أطلقتها منذ عام 2021، مع تجمع الدول الأوروبية المصنعة لمقاتلات "يوروفايتر تايفون"، وتحديداً ألمانيا وبريطانيا وإسبانيا وإيطاليا، خاصة أنه بات من الواضح أن عمليات تحديث مقاتلات "إف-16" الأميركية في الترسانة التركية، ستأخذ وقتاً طويلاً، بالنظر إلى أن هذه العمليات ستجري في أغلبها بأيدٍ تركية، عبر برنامج "OZGUR"، الذي يتضمن تنفيذ ترقيات تستهدف إطالة العمر العملياتي للمقاتلات التركية من نوع "F-16"، بجانب دمج الأنظمة التسليحية تركية الصنع على متن هذه المقاتلات، ناهيك عن أن هذا البرنامج يركز على دمج الأنظمة التسليحية محلية الصنع، أكثر من تنفيذ عمليات تحديث جذرية وأساسية على أنظمة وبدن المقاتلات المستهدفة.
مسار تركي متعدد الاتجاهات لامتلاك مقاتلات متفوقة
من حيث المبدأ، واجه سلاح الجو التركي خلال السنوات الماضية، معضلة تتعلق بحاجته الماسة لإدخال عشرات المقاتلات الجديدة في الخدمة، تمهيداً لإخراج ما تبقى في ترسانته من المقاتلات المتقادمة من نوع "F-4" و"F-16"، وكذا تحديث المقاتلات الأساسية في ترسانته من نوع "F-16"، حيث يمتلك حالياً 234 مقاتلة من نوع "F-16C/D"، يستهدف تحديث نصفها على الأقل إلى المعيار (VIPER). في البداية كان السبيل الأمثل لتحقيق ذلك، هو دخول أنقرة ضمن برنامج "Joint Strike Fighter" إنتاج مقاتلة الجيل الخامس الأميركية "F-35"، وطلبها شراء نحو مئة مقاتلة من هذا النوع، إلا أن هذا المسار أُجهض بعد استبعاد تركيا من برنامج تصنيع هذه المقاتلة عام 2019، على خلفية استحواذها على منظومات الدفاع الجوي الروسية بعيدة المدى "S-400".
وقد تزايدت الصعوبات التي واجهت سلاح الجو التركي في مسار تحديث ترسانته من الطائرات، نتيجة للعقوبات العسكرية التي فرضتها نحو عشر دول – منها الولايات المتحدة الأميركية – على الجيش التركي، على خلفية عملياته العسكرية ضد الكرد في شمال شرق سوريا، سواء عبر حرمانه امتلاك مقاتلة الجيل الخامس "F-35"، أم الحظر الذي فُرض على منح تراخيص تصدير عسكرية أميركية لأي أسلحة أو تقنيات عسكرية إلى أنقرة، وهو الذي شمل أيضاً تراخيص إعادة تصدير الأسلحة الأميركية الصنع من تركيا إلى دولة ثالثة، وبالتالي تأثرت الجهود التركية للتحديث العسكري بشكل عام، وبشكل خاص ما يتعلق بالمكونات الأميركية في عدة أنواع من الطائرات الحربية ذات المنشأ الأوروبي العاملة في سلاح الجو التركي، مثل طائرات الإنذار المبكر "E-7T"، وطائرات التزود بالوقود "KC-135"، والمكونات الخاصة بمقاتلات "F-16" الأميركية، وكذا بعض أجزاء محركات الطائرات التركية المسيرة، التي تصنعها دول مشاركة في العقوبات العسكرية على الجيش التركي، خاصة كندا.
مسار التفاوض التركي مع الدول الأربع المنتجة لمقاتلات "تايفون"، كان إطاره الرئيسي الممانعة الألمانية الشديدة لحصول تركيا على هذا النوع من المقاتلات، حيث ظل الموقف الألماني في هذا الصدد على حاله، رغم نجاح أنقرة في الحصول على الموافقة المبدئية من بريطانيا وإيطاليا وإسبانيا على التوالي، وكان الدافع الألماني الأساسي في هذا الرفض، هو الموقف التركي في ملفات ترتبط بحقوق الإنسان، وكذا العمليات العسكرية التركية في دول مثل العراق وسوريا، لكن تمكنت تركيا في النهاية من حلحلة الموقف الألماني، وأعلن بشكل رسمي منتصف تشرين الثاني/نوفمبر 2024، عن موافقة ألمانيا على بيع 40 مقاتلة من هذا النوع لتركيا.
هذا أفضى في النهاية إلى وصول تركيا إلى"نهاية سعيدة" في هذا الملف، بعد توقيعها أواخر تشرين الأول/أكتوبر الماضي، صفقة شراء 20 مقاتلة جديدة من هذا النوع، لتكون هذه الصفقة أكبر صفقة تصدير مقاتلات للمملكة المتحدة منذ عقود. تشمل هذه الصفقة، التي تُقدر قيمتها بـ 8 مليارات جنيه إسترليني - أي نحو 10.7 مليارات دولار - الاستحواذ على ذخائر متطورة، مثل صاروخ الاشتباك الجوي بعيد المدى "ميتيور"، وذخائر الهجوم الأرضي الدقيقية "بريمستون"، وعلى الرغم من أهميتها، إلا أنه وبالنظر إلى حقيقة أن عمليات التسليم الخاصة بها ستبدأ عام 2030، وهو ما يعني عملياً عدم تغير الموقف العام لسلاح الجو التركي خلال هذه الفترة، هذا شكّل دافعاً لأنقرة كي تطلق عملية تفاوض مع كل من قطر وعمان، لشراء ما مجموعه 24 مقاتلة تايفون من طراز "ترانش 3 إيه".
هذه الخطوة من جانب تركيا، شكلت حلاً نوعياً لمشكلة تقادم مخزونها من مقاتلات "إف-16"، وهي المشكلة التي تفاقمت خلال السنوات الأخيرة، العقوبات الأميركية التي فُرضت على أنقرة، بسبب شرائها منظومة الدفاع الجوي روسية الصنع " إس-400"، وقد تزايدت أهمية هذا الحل، بعد أن حققت تركيا سابقاً، اختراقاً مهماً بعد سلسلة من التأجيلات والمفاوضات، تمثل في نجاحها بإقناع الولايات المتحدة الأميركية أواخر العام الماضي، بالموافقة على طلب شراء المزيد من مقاتلات "F-16"، مقابل ما يقدر بنحو 23 مليار دولار، وهو طلب سيستحوذ بموجبه سلاح الجو التركي، على 40 مقاتلة من هذا النوع، بواقع 32 مقاتلة من الفئة "70F-16C BLOCK" وثماني مقاتلات من الفئة"F-16D BLOCK 70"، إلى جانب شراء حزم تحديث خاصة بتسع وسبعين مقاتلة عاملة حالياً في الأسطول التركي من نوع "F-16 Block 40/50" إلى الفئة "F-16V Viper"، تتضمن 48 محركاً جديداً من نوع " F110-GE-129D"، و149 نظام رادار، وحزم حرب إلكترونية، بجانب العديد من الأنظمة الفرعية والمعدات وقطع الغيار والتركيبات.
مقاتلات "تايفون" في الميزان التركي
بالعودة إلى ملف مقاتلات "تايفون"، يمكن القول إن هذا النوع من المقاتلات يعتبر واحداً من بين ثلاثة خيارات رئيسية للطائرات المقاتلة في أوروبا، إلى جانب مقاتلتي "رافال" الفرنسية و"جريبن" السويدية، وهي تُشكّل العمود الفقري للأجنحة الجوية في العديد من الدول، وستقود شركة "بي إيه إي سيستمز" البريطانية، عمليات التصنيع الرئيسية لهياكل المقاتلات التي سيجري إنتاجها لمصلحة تركيا، وهي من أحدث طراز "ترانش-4"، وهي تعتبر دفعةً فوريةً قوية لقواتها الجوية، تُضاهي معايير حلف الناتو، مُوفرةً تفوقًا جويًا موثوقًا وقدرةً على توجيه ضربات عن بُعد في جميع أنحاء جوارها المُضطرب، ناهيك عن تعزيز الأسلحة المتطورة، مثل "ميتيور" و"بريمستون"، القوة النارية للردع الجوي التركي.
أما من الناحية الاستراتيجية، تفُعد هذه الصفقة أكبر بكثير من مجرد صفقة تسليحية، حيث ترسّخ روابط دفاعية تركية بريطانية أعمق، وتحافظ على خط إنتاج أوروبي رئيسي، قد يمثل مساراً محتملاً لتطوير الطائرة التركية محلية الصنع من الجيل الخامس "KAAN"، ومع ذلك، فإن نشر مقاتلات "تايفون" يتطلب تخطيطاً دقيقًا للغاية، ودعمًا مكثفًا للحرب الإلكترونية، وتخصيص المزيد من الموارد المالية، نظراً لأنها أكثر تطلبًا وتكلفة في التشغيل. الأهم في هذا الإطار، أن صفقة مقاتلات "تايفون"، تعتبر عملياً أول عملية شراء لمقاتلات غير أميركية من جانب تركيا، من نحو 75 عاماً، ما يمكن اعتباره نقلة نوعية في المشهد الدفاعي الأوروبي.
وكما كان متوقعاً، تلقفت أثينا الخطوات التركية الأخيرة فيما يرتبط بسلاح الجو، بخطوات عاجلة، تمثلت في البدء بدراسة إمكانية شراء مزيد من مقاتلات "رافال" الفرنسية، من النسخة الأحدث "أف-5"، حيث تنظر إلى صفقة مقاتلات "تايفون" التركية، من زاوية أنها تمثل تحدياً مباشراً لتفوقها الجوي، وبالتالي تسعى عبر شراء مزيد من مقاتلات "رافال"، إلى الحفاظ على تفوقها النوعي، ولا سيما مع دمج هذه المقاتلات مستقبلاً مع مقاتلات الجيل الخامس الأميركية الصنع "إف-35"، واستكمال عملية تحديث 84 مقاتلة من نوع "أف-16" بحلول عام 2027.
قباب الدفاع الجوي… منافسة موازية في شرق المتوسط
طرحت جمهورية قبرص، زاوية جديدة من زاويا التنافس الدفاعي في منطقة شرق المتوسط، بعد أن اتخذت عام 2021، خطوةً مهمةً نحو إنشاء درع دفاع جوي حديث، وذلك بشراء نظام الدفاع الجوي الإسرائيلي متوسط المدى "باراك أم إكس"، وهي خطوة أثارت ردود فعل غاضبة من جانب أنقرة، خاصة بعد أن تسلمت قبرص حتى الآن شحنتين من شحنات هذه الصفقة، ومبادرة اليونان بالبدء بدراسة إمكانية شراء هذه المنظومة نفسها، لكن ضمن خطة أكبر لتكوين قبة دفاعية، تحت اسم "درع أخيل" تستهدف استبدال الأنظمة الروسية والأميركية القديمة في ترسانة الدفاع الجوي الخاصة بها، بأنظمة حديثة، بتكلفة قد تصل إلى 3.5 مليارات دولار أميركي، بهدف إنشاء شبكة دفاع جوي متكاملة ومتعددة الطبقات، تعتمد على التكنولوجيا الإسرائيلية.
من جانبها، لطالما افتقرت تركيا إلى نظام دفاع جوي بعيد المدى خاص بها. وقد اعتمدت في الماضي - عندما واجهت تهديدات صاروخية بالستية من سوريا والعراق - على أعضاء حلف الناتو، إلى أن اتخذت قرار شراء منظومات الدفاع الجوي الروسية "إس-400"، أواخر العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، ما أدى إلى استبعادها من برنامج مقاتلات "إف-35"، ودفعها هذا الوضع - ضمن عوامل اقليمية اخرى - إلى التفكير في تكوين شبكة للدفاع الجوي متعدد الطبقات، تعتمد حصراً على الأنظمة محلية الصنع.
وقد تُوّج هذا الأمر، ببدء شركة "أسيلسان" التركية للصناعات الدفاعية، بتفعيل عقد بقيمة 1.3 مليار دولار مع الحكومة التركية، لتوسيع إنتاج النظم المرتبطة بمشروع "القبة الفولاذية" المتكامل للدفاع الجوي والصاروخي، والذي من المقرر أن تبدأ عمليات التسليم المرتبطة به العام المقبل، مع الوصول إلى حالة التشغيل الكامل بحلول عام 2029.
يعتمد هذا النظام على دمج شبكة من الرادارات والحساسات الكهروبصرية ووحدات الإطلاق وأنظمة القيادة، ضمن منصة مركزية لإدارة المعركة، اعتماداً على منظومات محلية الصنع، مثل "حصار" و"كوركوت" و"سنجور" و"سبير"، وغيرها، وهو ما ينقل الحالة الدفاعية في منطقة شرق المتوسط، إلى مستوى جديد، لا تقتصر التفاعلات المرتبطة به على العمليات الجوية، بل تشمل أيضاً منصات الدفاع الجوي، وربما تمتد لاحقاً إلى التسليح البحري.