الجنوب العالمي ضحية أزمة الديون: اغتراب عن العدالة والكرامة

تكشف اجتماعات واشنطن أن أزمة ديون الجنوب لم تعد مسألة مالية، بل تحوّلت إلى أزمة إنسانية تهدد الدولة الاجتماعية والتنمية، فيما تكتفي المؤسسات الدولية بوعود بلا أدوات حقيقية للإنقاذ.

  • الجنوب العالمي ضحية أزمة الديون: اغتراب عن العدالة والكرامة
    الجنوب العالمي ضحية أزمة الديون: اغتراب عن العدالة والكرامة

مع اجتماعات صندوق النقد والبنك الدولي في واشنطن، بدا المشهد المالي الدولي كأنه يُعيد إنتاج ذاته: وعود بالاستدامة، بيانات حول الشفافية المالية، لكن بلا انكسارٍ حقيقي في دوامة الديون التي تخنق دول الجنوب. 

ففي كثير من البلدان النامية تلتهم تكلفة خدمة الدين نحو 45% من إيرادات الحكومات، وترتفع إلى 70% في الدول منخفضة الدخل. وهذا يعني أن الحكومات تنفق ثلاثة أضعاف ما تُنفقه على التعليم، وأربعة أضعاف ما تُنفقه على الصحة. ونتيجة هذا المشهد، فإنّ أزمة إنسانية وتنموية عميقة تُهدّد مفهوم الدولة الاجتماعية ذاته، أو حتى نهوض تلك الدول بأعبائها الحيوية. 

أقرت مجموعة العشرين (G20) برئاسة جنوب أفريقيا، في بيانٍ خاصٍّ عن الديون، بأن خطر أزمة ديون منهجية يبدو محصوراً، لكنها اعترفت بأن العديد من الدول منخفضة ومتوسطة الدخل ما تزال تواجه تكاليف تمويل مرتفعة تحدّ من قدرتها على تحقيق النموّ. وأوصت المجموعة بمزيدٍ من العمل لتعزيز استدامة الدين وزيادة الشفافية، ومنح الدول المقترِضة صوتاً أكبر في النقاشات الدولية.

لكنّ البيان، برغم أهميته الرمزية، كان بلا أنياب. فالناشطون وصفوه بأنه غير كافٍ وغير طموح، وأنه فشل في تقديم أي مبادرة جديدة لمعالجة ما وصفوه بأنه أسوأ أزمة ديون يشهدها العالم في تاريخه الحديث.

الأبعاد الاجتماعية لأزمة الدين

إذا استهلكت خدمة الدين نصف الموازنة العامة، تصبح سياسات الصحة والتعليم أولى الضحايا. المدارس تُغلق أو تُهمَل، والمستشفيات تُدار بإمكاناتٍ ضئيلة، والمعلّمون والأطباء يهاجرون بحثاً عن أجرٍ كريم.

على سبيل المثال، في إثيوبيا، التي واجهت خطر مقاضاتها أمام المحاكم البريطانية بعد فشل إعادة هيكلة قرضٍ قيمته مليار دولار، يبدو المشهد مأساوياً، فالبلد يملك طاقاتٍ بشرية وزراعية هائلة، لكنه عاجز عن توجيه موارده نحو التنمية بسبب عبء الدين الخارجي.

إنها دائرةٌ مغلقة ومفرغة، فكلّما ارتفعت الفوائد، تقلصت الخدمات، وازدادت هشاشة الفئات الفقيرة، وتراجع رأس المال البشري الذي هو أساس التنمية المستدامة. هكذا تتحول الديون إلى ماكينة تنتج اللامساواة، بدلاً من أن تكون معمل نموٍ يُحرّك المجالات المتعثرة.

تكشف بيانات Development Finance International (DFI) أنّ الدين لم يعد مجرّد مسألة موازنات، بل إنه ينعكس في تفاصيل المعيشة اليومية. فالديون المستدامة على الورق ليست مستدامة في حياة الناس.

إنّ تحميل الأجيال الحالية عبء سداد ديونٍ لم تسهم في تحسين حياتهم يعني خلق جيلٍ جديدٍ من الإحباط الاجتماعي، وجعل الفقر بنيةً مجتمعية دائمة. الأمر هنا يتجاوز الحالة الاقتصادية، هو يصبح مولّداً للمشاعر المثبطة والعازلة لشرائح واسعة من المجتمع.

ويزداد الخطر حين تبدأ الحكومات في تقليص برامج الدعم، ورفع الضرائب غير المباشرة، وهي توصيات تعطيها المؤسسات الدولية كعلاج لما يشكى منه، فتتحول إلى مشكلة جديدة، ما يثقل كاهل الفئات الوسطى والدنيا، ويدفعها نحو الهشاشة.

وحين تعجز الدولة عن تقديم خدماتٍ عامة أساسية بسبب عبء الدين، تفقد جزءاً من شرعيتها الاجتماعية. تتحوّل الحكومات إلى مُديرة ديون بدلاً من أن تكون صانعة سياسات عامة. وحين تُدار الدولة بمنطق الجداول المالية لا بمنطق العدالة الاجتماعية، تصبح الديمقراطية نفسها رهينة للأرقام.

ثم إنّ عبادة الأرقام والرياضيات، ديانةٌ رائجة في المؤسسات المالية الدولية في هذا الزمن، ومزيد من الساسة والنخب يقعون فريسة إغراء اتساقهم بتوجهات تلك المؤسسات، كونها تمتلك ناصية الرواية الاقتصادية - الاجتماعية العامة على مستوى العالم، منذ أزيحت النخب الاجتماعية والسياسية الحقيقية من واجهة صناعة القرار والشأن العام في كثير من دول العالم.

هذا الوضع، أو لنقل المأزق، يقود إلى أزمة ديمقراطية، حيث يجد السياسيون أنفسهم عاجزين عن تحقيق وعودهم الاجتماعية، مهما كانت نواياهم، بسبب القيود المالية المفروضة عليهم من الخارج.

أجيالٌ ودول مهدّدة 

في الدول المثقلة بالديون، بات الشباب يرون في الهجرة خلاصاً فردياً من انسداد الأفق. فالمدرسة بلا تجهيزات، والجامعة بلا وظائف، والمشاريع الصغيرة بلا تمويل. إنها ظاهرة نزفٍ مزدوج، نزف مالي نحو الدائنين، ونزف بشري نحو الخارج. ومع كل موجة هجرة، تفقد الدول طاقاتها الكامنة في البحث والابتكار، وتتعمق تبعيتها التكنولوجية والعلمية.

صدر بيان مجموعة العشرين في 16 تشرين الأول/أكتوبر، وهو أول بيانٍ مستقل عن الديون منذ جائحة كورونا، وفيه حاولت المجموعة أن توازن بين الواقعية والتفاؤل. فأكّدت فيه مواصلة "تعزيز إطار الديون المشترك (G20 Common Framework) بطريقةٍ منسّقة ومنتظمة"، لكنها لم تضمّنه التزاماتٍ مالية واضحة، ولا آلية لإشراك المجتمع المدني أو ضماناتٍ لتخفيف أعباء خدمة الدين.

كما أشار البيان إلى أنّ التركيز يجب أن يكون على "نموّ الدول للخروج من الدين" بدلاً من الاكتفاء بانتظار إعفاءات الديون. لكنّ هذا الطرح بدا في نظر المراقبين مجرّد إعادة تدويرٍ لفكرةٍ قديمة تتجاهل أن النموّ ذاته مشروط بوجود بيئةٍ مالية مستقرة واستثماراتٍ اجتماعية فعّالة.

الأرقام التي تساق في هذا الصدد تُظهر فداحة المشكلة، ففي عام 2024، أنفقت الدول النامية 921 مليار دولار على مدفوعات الفوائد فقط، بزيادة 10% عن العام 2023. ومن المتوقع أن ترتفع أكثر هذا العام.

جنوب أفريقيا تحاول

حاولت جنوب أفريقيا، بصفتها رئيسة G20 لعام 2025، الدفع باتجاه منح الدول المقترِضة صوتاً أقوى في مناقشات الدين. وأوضح دنكن بيترسي، المدير العام للخزانة الوطنية الجنوب أفريقية، أن هناك تقدماً في بعض حالات إعادة الهيكلة ضمن "الإطار المشترك"، مثل تسريع تسوية قضايا تشاد، لكنه أقرّ بأن "المسار لا يزال بحاجة إلى تطويرٍ إضافي، خصوصاً في ما يتعلق بآليات تفضيل الدائنين".

أما في كواليس الاجتماعات، فقد شارك مسؤولون أميركيون وصينيون رفيعو المستوى في "الطاولة المستديرة للديون السيادية العالمية"، لتأكيد التزام أكبر اقتصادين في العالم بمواصلة العمل على معالجة أزمة الديون. غير أنّ المراقبين لاحظوا أن هذا الالتزام بقي في مستوى الخطاب السياسي أكثر منه التزاماً تنفيذياً.

نقد منظومة الإقراض الحالية: نحو الاستدامة الإنسانية

الإشكال الجوهري الآن هو أن مفهوم "استدامة الدين" (وهو مفهوم دارج عالمياً) الذي يعتمده صندوق النقد يُقاس بلغةٍ حسابية، لا بلغةٍ اجتماعية. فحين يُعتبر الدين "مستداماً" لأن نسبته إلى الناتج المحلي لا تتجاوز حدّاً معيّناً، يتجاهل ذلك أن ملايين البشر يعيشون بلا خدماتٍ أساسية.

ولذلك، يقترح ناشطو التنمية أن تُربط استدامة الدين بنسبةٍ معاكسة، بحيث لا تتجاوز مخصصات خدمة الدين 10% من الإيرادات الحكومية، كي يتاح للدول المجال لتوجيه الموارد نحو الصحة والتعليم والبيئة والمساواة.

من جهةٍ أخرى، فإن إخضاع معظم الديون التجارية للقانون الأجنبي (الإنكليزي) يجعل الدول عرضةً للملاحقات أمام المحاكم الأجنبية، كما حدث لإثيوبيا. لذا تُطالب المنظمات الحقوقية بتشريعاتٍ دولية تمنع الدائنين التجاريين من الحصول على شروطٍ أفضل من الحكومات، وتُحرّم مقاضاة الدول أثناء مفاوضات إعادة الهيكلة. لكنّ هذا المسار يُواجه مقاومةً من اللوبي المالي الذي يخشى من "تأثيرٍ سلبي على الاستثمارات الخاصة".

العجز المالي والضمور الاجتماعي

من زاويةٍ اجتماعية، لا يمكن فصل الأزمة الديونية عن الأزمات البنيوية الأخرى: فارتفاع الفوائد يقلّص الإنفاق الاجتماعي ويعمّق الفقر؛ وغياب الشفافية في إدارة الدين يفتح الباب أمام الفساد والزبائنية؛ وتراجع المساعدات التنموية من الدول الغنية (مثل تخفيض بريطانيا لمساعداتها إلى 0.3% من ناتجها القومي) يترك فراغاً في تمويل البرامج الاجتماعية.

إن المخرج من هذه المعضلة لا يكون بإعادة جدولة الديون فحسب، بل بإعادة تعريف معنى الدين نفسه في السياق الاجتماعي. فالدين ليس علاقة مالية بين دائنٍ ومدين فحسب، بل علاقة بين التنمية والكرامة الإنسانية (وربما هنا يجدر بنا التوسع إلى استعادة نضالات شعوب كثيرة في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، والتي أسست لكثير من المواثيق والإنجازات الاجتماعية..).

وعلى هذا الأساس، ينبغي أن تتبنّى المؤسسات الاقتصادية والمالية الدولية، ومنها مجموعة العشرين، وصندوق النقد، والبنك الدولي، ومجموعة باريس، مفهوم "الاستدامة الإنسانية"، الذي يُوازن بين استقرار الحسابات ومصالح البشر. وهو ما يقتضي:

1. وضع سقفٍ لخدمة الدين لا يتجاوز 10% من الإيرادات الحكومية في الدول ذات الدخل المنخفض.

2. إشراك المجتمعات المدنية والنقابات والجامعات في مفاوضات الديون لضمان الشفافية والمساءلة.

3. ربط برامج إعادة الهيكلة بخطط تنموية واضحة تضمن الاستثمار في رأس المال البشري.

4. إنشاء آلية تحكيمٍ دولية تمنع الدائنين التجاريين من استغلال الثغرات القانونية لمقاضاة الدول.

5. تجديد الالتزام بالمساعدات التنموية ورفعها إلى ما لا يقل عن 0.7% من الدخل القومي في الدول المتقدمة.

جنوبٌ بلا هواء

إن أزمة الديون في العالم الجنوبي ورطة مالية كبرى، نعم، لكنها أيضاً معركة على الحق في التنمية. فحين تُجبَر الحكومات على سداد فوائد تفوق ما تُنفقه على التعليم، يصبح الاختناق المالي اختناقاً مجتمعياً يهدّد النسيج الاجتماعي والسيادة الوطنية.

إنّ ما تحتاجه دول الجنوب ليس شفقة مالية، بل نظاماً اقتصادياً أكثر إنصافاً، يعترف بأن الإنسان، لا الدَّين، هو مركز التنمية. وما لم يحدث ذلك، سيبقى الجنوب العالمي يُسَدِّد ديوناً لم تجلب له إلا مزيداً من الاغتراب عن العدالة والكرامة.

اخترنا لك