أخلاقيات نادرة لدى سيد العشق؟
اتّسم بالتواضع، وعندما ترفّع في المناصب الحزبية، وصولاً إلى الأمانة العامة، ازداد تواضعه، وتعامل مع عائلته وأسرته الصغيرة كأنه لم يتغير في وضعه شيء.
-
سيد العشق.
لم يسبق أن التقيت السيد الشهيد حسن نصر الله يوماً في حياتي، لكنني عشت في زمنه، وعرفت بعضاً عنه، سواء عن طريق عارفيه، أو نتيجة متابعتي لهذا القائد الاستثنائي. لم أُدخل مشاعري واحترامي وتقديري حياله، سأكتفي بعرض يُظهر بعضاً من شخصيته وعائلته وسلوكه، بموضوعية وأمانة.
تميُّز السيد عن أقرانه
السيد نصر الله، قبل أن يتبوأ الأمانة العامة لـ"حزب الله" عام 1992، كان يشغل منصب رئيس المجلس التنفيذي، والذي خلفه فيه السيد الشهيد هاشم صفي الدين. وكان يتباين عن جميع أقرانه في مجلس الشورى في حارة حريك. ومن صفاته المتميزة، تناوله الطعام مع العاملين في "الأمانة العامة"، ولاسيما مع الطبّاخ، المعروف بـ"أبي علي"، بحيث كان يمازحه في المطبخ كأنه يشاركه في العمل في تحضير الطعام، بينما كانت القيادات الأخرى تتناول وجباتها من الطعام في مكاتبها.
هذا فضلاً عن الابتسامة التي لا تفارق محيّاه، وروح النكتة التي انطبعت بها شخصيته، والتي كانت غالباً ما تخفف سطوة "كاريزميته" على ملتقيه أو محديثه.
وثمة تقليد كان يُتَّبَع في الأمانة العامة، عندما كان يحضر أي قيادي للصلاة في المصلى، فيتفرق المصلون، ويفسحون له المكان ليؤم الصلاة، باستثناء السيد، الذي كان غالباً ما ينتظم في صفوف المصلين كأي فرد منهم.
نشأة السيد
عاش السيد طفولته وأول شبابه في بيتين متواضعين، الأول في الكرنتينا، حي شرشبوك، شرقي مدينة بيروت، حتى بلوغه سن الخامسة عشرة من عمره، والثاني في بلدته البازورية، شرقي مدينة صور.
دخل حينها وشقيقه جهاد مؤسسة السيد موسى الصدر في برج الشمالي، وتعرّف إليهما مصطفى شمران (أحد مؤسسي حركة أمل، وتولّى وزارة الدفاع الإيرانية بعيد نجاح الثورة)، الذي ألحق جهاد بالصفوف العسكرية لحركة أمل، بينما أوفد السيد إلى النجف الاشرف لدراسة العلوم الدينية، عام 1978، ثم عاد السيد للتو مع أستاذه الشهيد السيد عباس الموسوي، في أول الثمانينيات للعمل في المقاومة.
تعاطيه مع عائلته
اتّسم بالتواضع، وعندما ترفّع في المناصب الحزبية، وصولاً إلى الأمانة العامة، ازداد تواضعه، وتعامل مع عائلته وأسرته الصغيرة كأنه لم يتغير في وضعه شيء، وإنما أصبح لزاماً عليه أن يلتفت إلى أي شاردة أو واردة تتعلق بعائلته، ويعمل على مواءمتها مع سلوكه المتواضع. وعلى سبيل المثال، لا الحصر:
1- عقد نجله البكر، السيد الشهيد هادي، خطوبته على فتاة من بلدة حناويه الجنوبية قبل فترة وجيزة من استشهاده عام 1997، وكان يحضر لزيارتها في سيارة أجرة، تقله من بيروت إلى حناويه، أو تقله إلى مستديرة البص – صور، ومنها يستقل سيارة أخرى إلى حيث تقيم خطيبته.
وبطبيعة الحال، ومن دون أن يعرف سائق السيارة من يرافقه، وأبناء بلدة عروسه لا يشعرون بقدومه او بمغادرته، كأنه شخص أقل من عادي، بحيث إن العريس، عادةً، يحب الظهور والتمظهر امام ذوي عروسه وأقربائها، ويكون مزهواً بشبابه، بخلاف السيد هادي، المجبول بالخجل والطيبة والتواضع. أوَليس هو من كان واحداً ممن حملوا دمهم على أكفهم في تسعينيات القرن الماضي عبر تنفيذ العمليات العسكرية النوعية على المواقع الإسرائيلية في إبان الاحتلال قبل التحرير عام 2000.
2- كان السيد حريصاً على أن تكون بيوت أبنائه أكثر من عادية، وغير لافتة، ويتدخل في الأثاث والديكورات وغيرها، ويرفض تلبيس الحجر. وظُلمت كثيراً عائلته من هذه الناحية، وغيرها من النواحي طبعاً. ذات مرة، قرر السيد جواد، النجل الثاني للسيد، تلبيس منزله في البازورية بالحجر الصخري، على غرار كثير من منازل البلدة، فرفض والده وطلب إليه أن يبدّل الحجر بالطلاء فحسب.
3- عقد السيد محمد مهدي، النجل الأصغر للسيد الشهيد، قرانه على فتاة من بلدة شيحين الجنوبية، واحتفل بزواجه في الضاحية الجنوبية، محلة الرويس، في صالة "المودة". وحدثني أحد أقرباء العروس عن حفل زواجه المتواضع جداً، والذي كان من أبسط ما يكون، "أقل عرس في ضيعنا الجنوبية النائية أثرى منه، سواء من حيث الزفة أو الطعام والحضور". وأضاف أنه "لم تحضره أي شخصية حزبية أو سياسية، باستثناء صديق العائلة، وزير الصحة الأسبق جميل جبق". وبطبيعة الحال، لم يكن السيد حاضراً، على جاري عادته، فالضرورة الأمنية لطالما منعته من أن يتمتع بأي مناسبة عائلية، علماً بأن السيد محمد مهدي بات له ثلاث فتيات، لم يرهما السيد أكثر من عدد أصابع اليد الواحدة. وهذا الأمر ينسحب على كل احفاده .
4- في الانتخابات النيابية الأخيرة، عام 2022، اتفق كل أعضاء الشورى على ترشيح ابن عم الأمين العام، السيد الدكتور يوسف نصر الله، للانتخابات. وهو بالمناسبة شخص كفؤ - أستاذ جامعي، ورئيس مركز باحث للدراسات الفلسطينية والاستراتيجية - وكان دائماً يقول لأعضاء الشورى وغيرهم من قيادات الصف الأول: "لا تتسرّعوا في اختياري للترشح للانتخابات، فلننتظر رأي السيد". وحين التقاه، حُسم الامر بأقل من دقيقتين بعدم الترشح، عندما خاطب أبو هادي ابن عمه بكلمات معدودة: "نحن لم نطلب الأمانة العامة يوماً فكيف بالنيابة. وهذا الأمر يعود لك".
وفوراً، نزل الأستاذ الجامعي عند رأي الأمين العام، عبر رده بأن "النيابة لا تساوي عندي شيئاً. مكانتك وكرامتك فوق كل اعتبار"، مع الإشارة إلى أنه كانت ثمة قاعدة متداولة داخل الحزب، مفادها ألا يترشح أحد من عائلتي نصر الله وصفي الدين للنيابة، حتى لا يُحسب على كل من السيدين الشهيدين حسن نصر الله وهاشم صفي الدين.
5- كانت تربط السيد علاقة خاصة بعمه (شقيق والده) عبد الله نصر الله، بائع الخضار، واستمر في هذه المهنة المتواضعة حتى استشهد وولداه وحفيداه، من جرّاء غارة إسرائيلية استهدفت منزله الملاصق لمنزل والد السيد في البازورية، في الحرب الأخيرة. بالمناسبة، لم ينعكس منصب السيد الرفيع على أقربائه إلا مزيداً من المسؤولية فحسب. ومنهم من خسر فرصاً كثيرة بسبب هذه القربى، كما حال الدكتور يوسف، كما أسلفنا.
هذا هو سيد العشق، الذي افتقده كل حر ومناضل ضد الظلم في هذا العالم؛ السيد الذي عاش الزهد في كل جوانبه، وربما كان الأشبه بجده الإمام علي بن أبي طالب، "صوت العدالة الإنسانية"، بحسب وصف المفكر اللبناني جورج جرداق للإمام.