إعلان دولة فلسطينية منزوعة السلاح

الكيان الإسرائيلي مصمّم على تصفية أكبر عدد ممكن من قيادات وعناصر المقاومة الفلسطينية قبل نهاية الحرب، ولكنه يدرك جيداً أن طوفان الأقصى نجح في إجبار أقوى دولة في العالم أميركا على تغيير مسار تفكيرها.

  • بايدن والحرب على غزة.
    بايدن والحرب على غزة.

في الأيام الماضية، خرجت وثيقة أميركية عن الرئيس الأميركي شخصياً مفادها فرض عقوبات على أي مستوطن إسرائيلي يعتدي على المواطنين الفلسطينيين.

يمنع القرار الأميركي الإسرائيليين من إجبار الفلسطينيين على الهجرة من أراضيهم وبيوتهم في الضفة الغربية، ولكن الأسباب الحقيقية خلف هذه الوثيقة خرجت من فم الصحف الأميركية، أولها أرقام استطلاعات الرأي الأميركية التي تؤكد أن بايدن يخسر شعبيته بسبب دعمه اللامحدود للكيان رغم استمرار المجازر ضد المدنيين الفلسطينيين.  

أما السبب الثاني، فقد تمثّل بزيارة بايدن لولاية ميشيغين ضمن حملته الانتخابية. وللمفارقة، فإن أغلب سكان هذه الولاية هم من الأميركيين من أصول عربية. يعيش في أميركا نحو 4 مليون أميركي من أصل عربي؛ نصف مليون منهم يعيشون في ولاية ميشيغين وحدها. هذا السبب دفع بايدن إلى استعطاف هذه الفئة بهدف كسب أصواتهم في الانتخابات الرئاسية. وبالتالي، لا يمكن كسب هذه الأصوات وفي الوقت عينه الاستمرار في تقديم الدعم للكيان بحربه ضد المدنيين في غزة، فقرّر فرض قانون جديد يحمي فيه الشعب الفلسطيني من اعتداءات المستوطنين الإسرائيليين.

السبب الثالث والأخير هو شعور بايدن باقتراب طرد القوات الأميركية من العراق؛ فبعد حرب غزة استفاقت واشنطن على حقيقة سيطرة محور المقاومة على حركة التجارة العالمية في مضيق باب المندب عبر أنصار الله ومضيق هرمز عبر حرس الثورة الإيراني، والسيطرة على الحدود الشمالية الفلسطينية عبر حزب الله في لبنان وحماس في قطاع غزة.

المقاومة العراقية تقلب الطاولة على واشنطن

صُدمت الإدارة الأميركية بحقيقة أخرى عبّر عنها رئيس الوزراء العراقي محمد السوداني الذي طالبها بترحيل القوات الأميركية من الأراضي العراقية.

وهنا، اكتشفت واشنطن أن العراق الذي كان يمثل رقماً مهماً في المعادلة الأميركية بعد غزو 2003 أصبح اليوم يمثل رقماً أساسياً في معادلة محور المقاومة، فقد استطاع المحور في حرب غزة أن يسيطر على أهم المعابر التجارية التي تؤثر في حركة التجارة العالمية وتهدّد الكيان الإسرائيلي، وآخرها كان ضرب قاعدة البرج 22 في الأردن، وهو الهجوم الذي نُفذ عبر مسيّرة مفخخة استطاعت الوصول إلى القاعدة الأميركية، ولكن كيف وصلت رغم كلّ الإجراءات المحصّنة؟ 

لكي تصل المسيّرة، عليها أن تمرّ بطريق صعب وتعطّل منصات الصواريخ التي تحمي هذه القاعدة. وقد كانت أمام خيارين؛ إما ضرب منصات الصواريخ وتعطيلها، وهذا مستحيل، وإما أن تتبع خط سير مسيرة أميركية تابعة للقاعدة وإلحاقها بمسيرة أخرى تابعة للمقاومة، فحتى لو رصدت القاعدة المسيرة العراقية واكتشفت أنّها هدف معادٍ، فلن تستطيع ضربها لأنها ستعرض المسيرة الأميركية للانفجار، وهذا ما حصل فعلياً.

دور السعودية في الحرب الدائرة بين أميركا وإيران

تخسر واشنطن يومياً بطاقة من بطاقات اعتمادها في منطقة الشرق الأوسط، ما دفعها إلى اللجوء إلى ورقة ضغط السعودية. تكاد تكون السعودية هي الحليف الخليجي الوحيد والأقرب إلى إيران، وفي الوقت نفسه يجمعهما هدف واحد، هو إقامة دولة فلسطينية.

وهنا، اعتمدت واشنطن على السعودية في نقطتين: الأولى هي أداء السعودية دور صمام الأمان بين إيران و"إسرائيل" بمجرد انتهاء الحرب، فالكيان لا يكمل الحرب بمزاجه، بل لا يعرف كيفية الخروج من غزة، لأنه لم يجد حتى الآن البديل المناسب لحركة حماس. لذا، تسعى أميركا مع "إسرائيل" إلى البحث عن حكومة بديلة لحماس لكي تحكم قطاع غزة. وما يقف عائقاً أمامهم هو رفض حماس فكرة تسليم سلطة قطاع غزة لمحمود عباس.

من هنا، اشترطت حماس على "إسرائيل" في صفقة التبادل التي ستتمّ خلال أيام الإفراج عن 3 أسماء؛ الأول مروان البرغوثي القيادي في حركة فتح. وعلى الرغم من كبر سنه، فإن اسمه تصدر استطلاعات الرأي في الضفة الغربية كأفضل رئيس فلسطيني محتمل. أما الاسم الثاني، فهو أحمد سعدات الأمين العام للجبهة الشعبية، الذي رفضت "إسرائيل" الإفراج عنه في صفقه جلعاد شاليط بسبب شعبيته الكبيرة في الشارع الفلسطيني، وآخرهم عبد الله البرغوثي، أحد قياديي الجناح العسكري لحركة حماس في الضفة الغربية، والمحكوم عليه في السجون الإسرائيلية 67 مؤبداً، وكان أيضاً من القيادات التي رفضت "إسرائيل" أن تفرج عنهم في صفقه شاليط.

بمعنى آخر، تقول حماس لـ"إسرائيل" إنّ أحد هذه الأسماء هو المرشّح لتولي رئاسة دولة فلسطين الجديدة، في حين أنّ قادة الكيان يوافقون على أي عرض مقابل إنهاء الحرب وتحرير الأسرى، إلا أن الوحيد الذي يعارض هو نتنياهو الذي ما زال مصمّماً على استكمال الحرب واحتلال قطاع غزة بقوة السلاح.

صفقة كامب ديفيد جديدة

استضاف محمد بن سلمان منذ أسبوعين تقريباً اجتماعاً لقادة المخابرات المصرية والسعودية والأردنية والفلسطينية. ورغم أن الاجتماع كان سريّاً، فإن أول معلومة نشرت كانت بعد انتهاء الاجتماع بأيام. اجتمعت هذه الأطراف بهدف مناقشة مستقبل غزة في اليوم التالي من انتهاء الحرب؛ أي أنهم افترضوا أن الحرب انتهت، وقرّروا مناقشة تطورات ما بعد الحرب، حتى إن افتراضهم مبني على معلومة تقول إن نهاية الحرب متوقفة على توفير سلطة بديلة لسلطة عباس لتوافق أميركا عليها وتعلن قيام دولة فلسطين، وإن كان القرار ضد رغبة الحكومة اليمنية المتطرفة، ولكن لماذا قررت السعودية أن تؤدي دور الوسيط بين كلّ الأطراف المطروحة؟

أولاً، يمكننا استبعاد المرشح الأول قطر بطبيعة الحال بسبب وجود بعض من قادة حماس على أراضيها، وهذا في حد ذاته سبب كافٍ لترشيح السعودية كوسيط محايد. أما باقي الدول، كمصر والأردن والإمارات، فتعتبر طرفاً من أطراف النزاع، ولا تمتلك تأثير السعودية في إيران، ولا تأثير السعودية في السلطة الفلسطينية وفي الكيان الإسرائيلي نفسه، وخصوصاً في ورقة التطبيع. وبالتالي، تملك السعودية أوراق ضغط على كل أطراف النزاع.

وبالنسبة إلى واشنطن، إن تدخّل الرياض سيوفر بديلاً فلسطينياً لتولي السلطة، وهذا معناه نهاية الحرب، وتوقّف تحكّم محور المقاومة في صراعات المنطقة، ما يؤمّن حماية للمستوطنين ويحميهم من الهجمات المستقبلية. 

وقد أكّدت صحيفة نيويورك تايمز الأميركية أنه لو نجح بايدن في تحقيق هذا السيناريو، فسيكون بمنزلة صفقة كامب ديفيد جديدة؛ أي إعادة ترتيب أوراق الشرق الأوسط من جديد، لكن ما حدث سيكون كارثة تقع على رأس الكيان، لأنه سيجبره على القبول بإقامة دولة فلسطينية معترف بها دولياً. والمفاجأة أن وزير خارجية بريطانيا أبدى استعداده للاعتراف بدولة فلسطين بمجرد وقف إطلاق النار.

حرب غزة بين مسارين

لماذا يستمر نتنياهو في اغتيال قادة المقاومة وعناصرها رغم مفاوضات الهدنة وتبادل الأسرى ومفاوضات وقف إطلاق النار وإعلان دولة فلسطين؟ 

يمثل نتنياهو حكومة اليمين المتطرف الذي لا يعترف بوجود فلسطين، والذي يعتقد دينه أن أي اعتراف بدولة فلسطين معناه زوال "دولة إسرائيل". لذلك، نلاحظ أن حرب غزة تقع بين مسارين؛ مسار تمثله الأطراف المتنازعة الداعمة أو المواجهة للكيان التي تريد إنهاء الحرب وإعلان دولة فلسطين، ومسار ثانٍ يمثله نتنياهو وحده بهدف إطالة أمد الحرب إلى حين تولي ترامب الحكم في أميركا وتوفير دعم أكبر من دعم بايدن، لكن من الواضح أن الأخير اعتبر وقف الحرب هي معركته الأخيرة قبل انتخابات الرئاسة الأميركية.

يستمرّ نتنياهو في مسلسل الاغتيالات، وخصوصاً في عملية اقتحام مستشفى ابن سينا الذي كان فيه 3 عناصر من المقاومة الفلسطينية التابعة لحركة حماس والجهاد الإسلامي، عبر إرسال قوات خاصة مكوّنة من 12 مقاتلاً متنكرين بلباس ممرضات وأطباء، ولكن هذه المرة اعتمد نتنياهو على فرقة المستعربين الذين يتم اختيارهم بناء على مظهرهم وكفاءتهم القتالية، فيجب أن يكون مظهرهم شبيهاً بالعرب وكفاءتهم القتالية عالية، لأنهم سيعيشون وسط الفلسطينيين بهوية مزورة وأسماء مزورة بهدف الاندماج في مجتمعهم.

وبالتالي ستكون مهماتهم أسهل، وخصوصاً في وسط التظاهرات أو عبر تنفيذ عمليات اغتيال من الداخل الفلسطيني بدلاً من إرسال قوات من خارج المدن الفلسطينية. 

الكيان الإسرائيلي مصمّم على تصفية أكبر عدد ممكن من قيادات وعناصر المقاومة الفلسطينية قبل نهاية الحرب، ولكنه يدرك جيداً أن طوفان الأقصى نجح في إجبار أقوى دولة في العالم أميركا على تغيير مسار تفكيرها من تشجيع التوسع في بناء المستوطنات وتشجيع المستوطنين على سرقة المزيد من الأراضي الفلسطينية وتحويلها إلى مستوطنات جديدة إلى مسار الاعتراف بدولة فلسطين، وإن كانت منزوعة السلاح في البداية. هل تنجح السعودية في مهمة توفير بديل لمحمود عباس لتولي مهام السلطة في دولة فلسطين الجديدة؟