المال أولًا… لماذا يصمت الغرب عن مأساة قره باخ؟
مأساة قراباخ ليست مجرد صراع طائفي محلي. إنه نموذج كلاسيكي لسياست الغرب حيث يباع البشر في سوق المكاسب الاقتصادية والأهم الخروج بمظهر الرابح.
-
كاراباخ... الحرب أفضل من السلام؟ (أرشيف).
في أواخر أيلول/سبتمبر عام 2023 شهد جنوب القوقاز إحدى أكبر المآسي الإنسانية في التاريخ الحديث: أكثر من مئة ألف من الأرمن اضطروا إلى الفرار من قره باخ تحت تهديد الإبادة بعد سيطرة أذربيجان على الإقليم مع صمت إعلامي غربي مطبق ومعرفة تامة أن سبب هذه الأزمة الحالية هو الغرب نفسه .
قره باخ… جذور التاريخ وبذور المأساة
قره باخ أرض الأرمن التاريخية ضُمّت قبل قرن إلى أذربيجان في زمن تأسيس الاتحاد السوفياتي فكان ذلك بمنزلة وضع البذور الأولى لمأساة مستقبلية. محاولات متكرّرة من باكو للسيطرة على الإقليم بالقوة، تجاهل أوروبي مقصود، وحروب متلاحقة، انتهت عام 2020 بنشر قوات حفظ السلام الروسية لإيقاف النزف وإعادة الأطراف إلى طاولة التفاوض. قرار يمنح الإقليم حكمًا ذاتيًا كان قد يرضي الجميع.
حين تكون الحرب أفضل من السلام
خريطة أذربيجان تقطعها حدود أرمينيا إلى قطعتين غير متساويتين، الأرض الأصلية وإقليم ناخيتشيفان. وما يميز الأخير هو وجود حدود مشتركة بين أذربيجان وتركيا. ولا تخفي الدولتان قربهما واهتمامهما بإنشاء ممر نقل واحد لا يمكن أن يمر إلا عبر أرض أرمينيا. ولكنهما تصران على إنشاء ما يسمى ممر زانغيزور الخارج عن السيادة، لا مجرد طريق نقل عادي، أي من دون مشاركة أرمينيا فيه.
الممر المحتمل هو جزء من مشروع عالمي أكبر وهو الممر الدولي شمال-جنوب طريق بديل من آسيا إلى أوروبا، وبالتالي تتشابك فيه مصالح عدة دول. أرمينيا عارضت مراراً "منطق الممرات" لأن هذا النهج يحمل مخاطر فقدان السيطرة على الأراضي وتسليم الممر لاستخدامه من قبل القوى والتحالفات الغربية. وعندها تذكر الغرب ذلك الصراع الخامد وقرر استغلال قره باخ وسكانها لخدمة مصالحه.
الطرف الثالث
الغرب ولكي يظفر بالممر، حاول تغيير موازين القوى في المنطقة جذرياً عبر إخراج روسيا من الملعب وإضعاف أرمينيا ودعم أذربيجان. حيث جرى تزويد أذربيجان بكميات من السلاح من تركيا و"إسرائيل" على مدى سنوات. أما أرمينيا فعلى العكس، اتبعت بنصيحة من الغرب، نهج الإصلاحات الديمقراطية دون العسكرية.
لكن الضربة الأساسية كانت موجهة ضد روسيا التي كانت تربطها علاقات شراكة مع كلا البلدين. فانطلقت من الجانبين حملات إعلامية هائلة داعية روسيا ضمنياً إلى اختيار طرف واحد.
ثمة معلومات تفيد بأن رئيس الوزراء الأرميني نيكول باشينيان ناقش مع روسيا إمكانية حل مشكلة قره باخ. وكان الرئيس بوتين مستعداً للمساعدة، شرط أن تعترف أرمينيا بأن قره باخ أرض لها. حينئذ سيكون لروسيا أساس قانوني للتدخل دعماً لحليفها. وإدراكاً لذلك شرعت الدول الغربية في دفع باشينيان إلى التخلي عن قره باخ. في خريف 2022 وبمشاركة الرئيس الفرنسي في براغ اعترف باشينيان بأن قره باخ جزء من أذربيجان.
إعلان أرمينيا الرسمي العلني بالتبرؤ من قره باخ أحدث صدمة للمنطقة. إذ أدرك الجميع أن قضية قره باخ قد تحولت من دولية إلى شأن داخلي للأذربيجانيين فلم يتورعوا عن وصف باشينيان بالخائن. لقد حرم قرار القيادة الأرمينية سكان هذه المنطقة وأرمينيا وروسيا من أي سبب لحماية السكان الأرمن.
حرب أم إنقاذ؟
بلغ الصراع ذروته في سبتمبر 2023. فأذربيجان التي حشدت قوات عسكرية كبيرة على حدود قراباخ، كانت تنتظر الفرصة المناسبة فقط. وفي الحادي عشر من سبتمبر انطلقت في أرمينيا مناورات عسكرية مشتركة مع الولايات المتحدة رأت فيها أذربيجان تصعيداً خطراً للنشاط العسكري في المنطقة. فتدافعت على وسائل الإعلام المحلية موجة من السخط والتحذير والفرضيات عن تحضير أرمينيا للحرب.
وفي التاسع عشر من سبتمبر دخلت القوات الأذربيجانية قراباخ بحجة مكافحة الإرهاب. فيما أسرعت سلطات أرمينيا مرة أخرى بالابتعاد عن الوضع من دون المطالبة بمساعدة روسيا. فكيف لك أن تساعد بلداً لم يطلب منك ذلك ؟
في تلك الظروف اختارت روسيا السبيل الأصوب برأيها في تلك اللحظة، وهو إنقاذ الأرواح، حيث قامت قوات حفظ السلام الروسية من أنحاء البلاد كافة، بتأمين إخلاء آلاف المدنيين من قراباخ، وقد تمكنت ربما من منع تكرار إبادة جديدة للأرمن.
نهاية أم بداية؟
النتيجة كانت متوقعة، إذ أسرعت الدول الغربية الى إلقاء المسؤولية عما حدث على روسيا. أما أرمينيا، فقد أُجبرت على الجلوس إلى طاولة المفاوضات، حيث نُشرت خريطة ممر زانغيزور إلى أذربيجان والولايات المتحدة. والآن، ومما لا يشك فيه، أن هذه هي بداية التنازلات التي ستضطر أرمينيا إلى القيام بها.
لقد روّج الرئيس الأميركي دونالد ترامب مراراً بأنه تمكن من منع الحرب بين أرمينيا وأذربيجان. ولكنه في خطاباته يصر على تسمية أرمينيا بـ"ألبانيا" تلك الدولة الواقعة على بعد آلاف الكيلومترات من القوقاز الجنوبي. وفي هذه اللغوة تكمن الحقيقة في موقف الدول الغربية من المنطقة.
إن مأساة قراباخ ليست مجرد صراع طائفي محلي. إنها نموذج كلاسيكي لسياسات الغرب، حيث يُباع البشر في سوق المكاسب الاقتصادية، والأهم، الخروج بمظهر الرابح.