المقاطعة والجهاد الاقتصادي سلاح الشعوب الحرة

هل الشعوب التي تعجز أيادي حائكيها عن استعمال الخيط والإبرة ستكتب أيادي سياسييها شيئاً آخر غير معاهدات الاستسلام والسكوت والخنوع وتبرير الهزيمة؟

  • المقاطعة ليست فقط عدم شراء زجاجة
    المقاطعة ليست فقط عدم شراء زجاجة "كوكاكولا"، بل إنتاج مصنع وطني قادر على المنافسة.

كي تنتصر الشعوب عليها أن تعرف عدوها جيداً، وتعرف إمكاناته وأسلحته ما ظهر منها وما بطن. ومن الطبيعي أن الحروب العسكرية يقوم بها ويشترك فيها جيشان يقاتل بعضهما بعضاً. أما الشعوب من كلا الطرفين، فيتحملون تبعات الهزيمة أو حلاوة النصر.

لكن وفي ظل ما يجري في غزة اليوم تشعر الشعوب العربية بعجز كبير عن القيام بخطوات حقيقية بإمكانها التأثير في مجريات الأحداث. والحقيقة أن ذلك ممكن، بل على العكس، إن ما تستطيع الشعوب فعله لا يمكن حتى للجيوش القيام به في بعص الأحيان.

علينا أن نلتفت إلى حقيقة أن مصانع السلاح لا يمكن أن تستمر في الإنتاج ما لم تكن ترفدها في عصرنا الحالي مصانع أخرى تنتج السلع وتصدرها للشعوب وتعود بأرباح باهظة يمكن من خلالها تشغيل الآلة العسكرية المقاتلة. 

إن الميزانيات الضخمة التي ترصدها الحكومات الرأسمالية، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية، الداعم الأكبر لإسرائيل، مصدرها الأول هو الضرائب التي تدفعها الشركات الخاصة لهذه الأنظمة.

وبالتالي، فإن شعوبنا العربية بشكل غير مباشر، من خلال استهلاك المنتجات التي تصنعها الآلة الرأسمالية، تمول الحروب ضد أنفسها. علينا أن نكون واضحين: لا يوجد دولة في العالم لديها ميزانية عسكرية مفتوحة يمكنها أن تصنع فيها كيف تشاء، بل إن التكنولوجيا العسكرية نفسها متوافرة للعديد من الدول، لكن العائق الأساسي أمام تصنيعها هو الميزانية المالية.

وهنا، علينا أن نرى الأمور على حقيقتها. إن الأكياس التي نحملها وبداخلها بضاعة مستوردة من الدول الرأسمالية هي أكياس تقطر دماً. لا توجد صورة أوضح. وبالتالي، فإن المقاطعة أضعف الإيمان، وهي ليست شيئاً تافهاً أو آنياً لحظوياً، بل هي خطوة أولى يجب أن تتخذها شعوبنا لكي تخفف من تبعيتها أمام المارد العسكري والرأسمالي الذي يفتك بدولنا وشعوب منطقتنا. 

والمقاطعة لها أشكال اقتصادية وسياسية وأدبية وعلمية وثقافية، وتدخل في كل نواحي حياتنا اليومية، فقد أصبح معيباً أن تكون دولنا غنية بشكل ملحوظ بالمفكرين والعلماء والأدباء والأطباء والمهندسين وغيرهم، ولا نزال نستورد كل شيء يمكن أن يبدعه هؤلاء من الخارج، فالدولة الغنية والدولة الفقيرة بمعناهما الحقيقي ينطويان على قدرة هذه الدول على صناعة مجدها بنفسها وعدم استيراده، فالحرية والمجد صناعات وطنية لا يمكن استيرادها، وإن جاءت من الخارج، فإنها تأتي بقيود وأغلال وتبعية. 

المقاطعة إذاً ليست فقط عدم شراء زجاجة "كوكاكولا"، بل إنتاج مصنع وطني قادر على المنافسة، والمقاطعة تعني أيضاً إعادة إحياء المائدة الوطنية، بحيث يأكل الشعب مما يزرع من دون الحاجة إلى استيراد مواد غذائية خارجية لصناعة طبق هو في الأصل يتناسب مع شعوب أخرى نتيجة ثقافتهم وأنماط الزراعة الخاصة بهم، وهذا شرح يطول لا يمكن اختصاره هنا. 

لماذا ندفع مثلاً مئات الآلاف من الدولارات، والملايين أحياناً، لشراء ماركة طعام من الخارج لتسويقها في السوق المحلي؟ ما الكيمياء والفيزياء غير المفهومة في خبزتين داخلهما قطعة لحم كي نضطر إلى دفع كل هذه الأموال؟

هل الإبداع الوطني كسول بهذا الشكل لإنتاج البديل، بحيث ينافس المستورد بشكل يجعل شراء الماركة نفسها أمراً لا نفع فيه؟ والحياكة على سبيل المثال مهنة تعود بالتاريخ إلى أكثر من 40 ألف سنة، فكيف يمكن أن يكون السوق الوطني متأخراً إلى هذا الحد، بحيث لا يملك مصانع ثياب محلية وأزياء ومصممين محليين يواكبون حركة العصر؟ هل الشعوب التي تعجز أيادي حائكيها عن استعمال الخيط والإبرة ستكتب أيادي سياسييها شيئاً آخر غير معاهدات الاستسلام والسكوت والخنوع وتبرير الهزيمة؟

ترتكز "إسرائيل" على اقتصاد قوي بمعدلات نمو عالية بناتج محلي فاق 520 مليار دولار لعام 2022، بحسب تقديرات صندوق النقد الدولي، وهذا يعني أن اقتصاداً كهذا باستطاعته أن يؤمن إنفاقاً عالياً جداً للميزانية العسكرية، إضافة إلى المساعدات السنوية من الولايات المتحدة الأميركية. 

ولو فكرنا في أننا نمتلك تقريباً الجغرافيا ذاتها مع فلسطين المحتلة، والمناخ وطبيعة الأرض والتربة والمياه والمعادن والثروات الطبيعية نفسها، ولو فكرنا أيضاً في أن الإنسان العربي لا ينقصه عقل أو إرادة أو فكر، فلا بد إذاً أن يتقاتل اقتصادان عربي وعبري، كما يتقاتل جيشان على تخوم المعركة. وبالتالي فإن هزيمة العدو الكبرى يجب أن تذهب أبعد من مجرد الاتكال على حركات المقاومة التي تصنع المعجزات، بل يجب رفد هذه المقاومات بمقاومات وطنية شعبية اقتصادية مُقاطعة ومستقلة قادرة على تقديم الدعم وترسيخ قوة كبيرة باستطاعتها المساعدة على الصمود. 

لكن المقاطعة ليس المقصود فيها تلك الاقتصادية التي تستهدف السلع فحسب، بل تتعداه إلى أبعد من ذلك، فالشعوب المستقلة تنتج أدبها وقصيدتها وأغنيتها وموسيقاها وقصتها ولوحتها، فيكون محتوى الفن والأدب والإبداع والمسرح والتلفزيون والإذاعة والراديو كله صناعة وطنية وتراثاً وطنياً وحركة تبادل بين مختلف مكونات الشعب.

أما الاعتماد على كل هذه الفنون المستوردة من الخارج، فسيضيّع الهوية الوطنية والشعبية، ويخلق جيلاً غريباً عن تاريخه وحضارته وبيئته؛ جيلاً لا يمكن أن يرى في عدوه عدواً حقيقياً، وهو يتكلم اللغة ذاتها، ويلبس الثوب ذاته، ويستمع إلى الموسيقى ذاتها، ويحضر الحفل ذاته، ويقرأ الكتاب ذاته، ويرقص الرقصة ذاتها على المسرح. 

إن الجهد الشعبي لتشكيل مصانع صغيرة ومتوسطة الحجم وزراعات وطنية ومحتوى هادف في منصات التواصل ومؤسسات خدماتية وتعليمية ومعلوماتية وتقنية هو الحجر الأساس في البناء الاقتصادي المتحرر الذي يعتمد على نفسه وطاقاته الخاصة، وكذلك انتشار الأغنية الوطنية والأدب الوطني وقصص الأبطال المحليين وأسمائهم وأسماء المدن والأزقة، كما فعل دويستوفسكي حين نسج رواياته من شوارع سان بطرسبرغ، وكما فعل جبران خليل جبران. كل ذلك يخلق حساً استهلاكيا وطنياً وهوية قومية قوية. 

أما في مجال التحالفات الاقتصادية مع دور الشرق، ففي الوقت الذي يُمنع لبنان مثلاً من التوجه شرقاً، تقيم إسرائيل علاقات اقتصادية وتكنولوجية وتجارية قوية جداً مع روسيا والصين، إذ بلغ تبادلها التجاري مع الصين 22 مليار دولار للعام 2023، ناهيك بالاستثمارات الصينية في الشركات التكنولوجية وغيرها، كما أن التعاون الروسي الإسرائيلي متين وممتد في مجالات متعددة، كالأبحاث الفضائية والمواصلات والتكنولوجيات المعلوماتية والاتصال والتكنولوجيات الزراعية والصناعية وقطاع الأعمال الخاصة بالألماس ومعاجة الألماس والمعادن.

أما إيران، فقد تجاوز حجم تبادلها التجاري مع دول الخليج العربي 20 مليار دولار، في الوقت الذي يكاد يكون محرماً في لبنان الاستفادة من أي من الاستثمارات لهذه الدول أو فتح علاقات تبادل تجارية موسعة معها.

كما أن فكرة سوق عربية مشتركة، وإن كانت بحاجة لعمل سياسي على مستوى الدول، تستطيع أن تبدأ بعمل شعبي من خلال انفتاح القطاعات التجارية العربية على مثيلاتها في الدول العربية الأخرى من خلال الشركات الخاصة والجهود الفردية، بحيث تشكل الحجر الأساس لتبادل اقتصادي عربي عربي.

يبقى أن نقول إن المرحلة الجديدة التي يتحضر لها الشرق الأوسط بعد حرب غزة سيكون في صلبها مبدأ المقاطعة التي بدأت بالفعل تنتشر في كثير من الدول العربية والأجنبية، وإن كانت حتى الساعة تأخذ منحى رمزياً، لكنّ كرة الثلج هذه ستكبر مع الوقت، ومشاهد الحرب والدمار في غزة وأصوات الأطفال والنساء ستبقى تتردد طويلاً في ضمائر الشعوب العربية الحرة التي يعول عليها لرسم مستقبل جديد مستقل وحر للمنطقة العربية؛ مستقبل يكون فيه الوعي الشعبي والتأثير الشعبي أكبر بكثير من مجرد شعارات وهتافات وتظاهرات بعد صلاة الجمعة، بل من خلال المقاطعة، سيكون التأثير الشعبي مدوياً، وسيكون سلاحاً فعالاً جنباً إلى جنب مع سلاح المقاومات.