حقائق المشهد العراقي بعد نصف عام على حكومة السوداني

إن الاهتمام بالملفات الخدمية الأساسية والمتعلقة بحياة المواطنين اليومية، من قبيل الملف الصحي، والملف الزراعي، وملف الرعاية الاجتماعية، شكّل علامة فارقة في عمل الحكومة العراقية الثامنة برئاسة السوداني

  • حقائق المشهد العراقي بعد نصف عام على حكومة السوداني 
    رئيس الحكومة العراقي محمد شياع السوداني

بعد نيل حكومته ثقة البرلمان في السابع والعشرين من شهر تشرين الأول/أكتوبر الماضي، وعد رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني بأن يكون هناك تقييم مهني وموضوعي ودقيق بعد ستة شهور لأعضاء فريقه الوزاري ولكبار المسؤولين وأصحاب الدرجات الخاصة في مختلف مفاصل الدولة، من وكلاء وزارات ومدراء عامين ومن هم في مستواهم. 

وفي هذه الأيام، وبعد انقضاء الشهور الستة الأولى، شغل الحديث عن التعديل الوزاري المفترض والتغييرات المحتملة حيزاً كبيراً من اهتمام الأوساط والمحافل السياسية المتعددة ووسائل الإعلام وبعض النخب المجتمعية. وارتبط ذلك الحديث، في مداه الواسع، بحراك في دوائر ضيقة ومحدودة في مكتب السوداني، امتد عدة شهور، أريدَ منه بلورة مخرجات تقييمية دقيقة لأداء الوزراء والمحافظين ووكلاء الوزارات ورؤساء الهيئات والمفاصل الحكومية العليا الأمنية والسياسية والاقتصادية. ويقال إن تلك الدوائر وضعت تقييماتها على طاولة رئيس الوزراء ليتسنى له اتخاذ القرارات الملائمة، علماً بأن هناك عدة مجسّات ومعايير وآليات لدى السوداني للتقييم.

واستبق السوداني الأحداث وردود الأفعال المتوقعة من جانب بعض من قد تعنيهم وتشملهم التعديلات المرتقبة، سواء بصورة مباشرة أو غير مباشرة، بالقول "إن الدستور يمنح رئيس الوزراء صلاحية إعفاء الوزير المقصر"، و"لن أتنازل عن صلاحياتي الدستورية في إجراء التغيير الوزاري"، و"سأذهب إلى البرلمان وأطلب إعفاء الوزير المقصر، ومن يُرِدْ أن يرفض فسيكون أمام الشعب"، و"تحدثت بوضوح إلى القوى السياسية، وأبلغتها أن تقييم الوزير مهني، ولن يكون وراءه أيّ استهداف".

لا شك في أن كلام السوداني، الذي أطلقه عبر حوار تلفزيوني مفصل، انطوى على رسائل سياسية واضحة وصريحة للغاية، ولعله أراد من خلاله أن يقطع الطريق على أي طرف سياسي "متضرر" يمكن أن يلجأ إلى طرح إثارات من أجل خلط الأوراق وتصوير الأمور على غير حقيقتها، كما كان يحدث في عهد الحكومات السابقة.

وبصرف النظر عن الحجم والطبيعة للتعديل الوزاري، الذي سيُقْدِم عليه رئيس الوزراء العراقي، فإنه بلا شك سيخلق مقداراً من اللغط والجدل، بين مؤيد وداعم، وغاضب ورافض، وهذا أمر طبيعي جداً بحكم حسابات المصالح والمنافع الحزبية والفئوية المتحصّلة من وراء الوجود في مواقع السلطة والنفوذ.

بيد أن خطوة إبدال بعض الوزراء وكبار المسؤولين بآخرين، لا تخرج عن السياق العام لأداء حكومة السوداني خلال الفترة الزمنية القصيرة من عمرها، وهو أداء يتحرك وفقاً لمجمل المعطيات والحقائق والمؤشرات عبر مسارات صحيحة وصائبة.

فإجراءات محاربة الفساد أفرزت نتائج إيجابية وطيبة، وإن كان الطريق ما زال طويلاً وشاقاً في هذا الجانب. ولعل رئيس هيئة النزاهة، القاضي حيدر حنون، لم يخطئ ولم يجانب الصواب حينما أكد "أن المعركة ضد الفساد أكثر تعقيداً من مكافحة الإرهاب، كون الأخيرة واضحة وكون الأعداء مشخصين، بينما تتسم معركتنا ضد الفساد بالغموض، ونحتاج إلى عمليات مضنية من التحري والتقصي والتحقيق من أجل دكّ أوكار الفاسدين. وإن العمل الرقابي يكتسب الأهمية من عدة جوانب، منها أنه يمثل أحد الحلول الناجعة، التي يمكن من خلالها إزالة المعوّقات والعقبات التي تعرقل عمليات الإعمار والاستثمار وولوج البلد مرحلة التنمية الاقتصادية". 

وتم استرداد كثير من الاموال والمطلوبين للقضاء، وتقديم العشرات من المسؤولين السابقين والحاليين إلى المحاكم بسبب نهب المال العام واستغلال المناصب لتحقيق منافع خاصة على حساب المصلحة العامة. فضلا عن ذلك، فإنه تم تفعيل العمل في عدد من المشاريع المتلكئة والمتوقفة منذ بضعة أعوام، وملاحقة المتسببين بتوقفها، سواءٌ كانوا أفراداً أو شركات.

كذلك، فإن الاهتمام بالملفات الخدمية الأساسية والمتعلقة بحياة المواطنين اليومية، من قبيل الملف الصحي، والملف الزراعي، وملف الرعاية الاجتماعية، شكّل علامة فارقة في عمل الحكومة العراقية الثامنة برئاسة السوداني. وكان للحضور والتحرك والوجود الميداني للأخير أثر كبير جداً في معالجة عدد من الإشكاليات وتسريع وتيرة العمل والأداء، وخلق حالة من الرضا والقبول الشعبي العام والتفاؤل بما يمكن أن يتحقق من إنجازات على الصعيد المستقبلي.

ويشير بعض الاستبيانات إلى أن أكثر من 70% من أبناء الشعب العراقي راضون عن أداء حكومة السوداني، ويعتقدون أنها عملت بصورة صحيحة خلال الأشهر الستة الأولى، ويرون ضرورة استمرارها وإكمالها المدة الدستورية لها. في الوقت ذاته، تعتقد نخب سياسية وأكاديمية أن أحد أبرز عوامل نجاح السوداني في مهمته الصعبة والمعقدة يتمثّل بعدم خضوعه لإرادات القوى السياسية التي تضع مصالحها وحساباتها الخاصة قبل المصالح الوطنية. وأكثر من ذلك، تشدد تلك النخب على أن النجاح في محاربة الفساد وإصلاح الخدمات يقترن بإخراج مفاصل الدولة – ولا سيما المعنية بهذه الجوانب - من سطوة الأحزاب والقوى السياسية المتنفذة. وربما جاءت إشارات السوداني في حديثه التلفزيوني الأخير متناغمة، إلى حد كبير، مع تلك الرؤى والتصورات والدعوات. 

وتتعزز الرؤية الشعبية الإيجابية حيال حكومة السوداني، مع رؤية سياسية إيجابية من جانب معظم -إن لم يكن جميع - قوى ائتلاف إدارة الدولة المتشكل من الإطار التنسيقي الشيعي وتحالف السيادة السني والأحزاب الكردية الرئيسة، إلى جانب قوى أخرى صغيرة، وإن كان هناك نوع من الامتعاض من جانب البعض تجاه جزء من قرارات السوداني وإجراءاته.

وإذا كانت قوى الإطار التنسيقي الشيعي تحرص على نجاح الحكومة الحالية وإنجاحها، انطلاقاً من أنها وُلِدَت من رحم الإطار، وأنها تبنّت مجمل رؤاه وتوجهاته في برنامجها الوزاري، فإن قوى المكون السني، سواء تلك المنضوية تحت مظلة تحالف السيادة (الحلبوسي - الخنجر)، أو التي بقيت خارجه من قوى سياسية وفعّاليات عشائرية ومجتمعية فعّالة ومؤثرة، ترى في وجود السوداني واستمراره في النهج الذي سار فيه أمراً إيجابياً يجب دعمه وإسناده.

ويخطئ من يتصور أن الخلافات، التي طفا جزء منها على السطح بين السوداني والحلبوسي مؤخراً، يمكن أن تؤثر سلباً في مجمل عمل الحكومة وأدائها، نتيجة أكثر من سبب، بينها أن تلك الخلافات تمحورت أساساً حول تمدد رئيس السلطة التشريعية على مساحات عمل السلطة التنفيذية، وخصوصاً ما يتعلق بالحكومة المحلية في محافظة الأنبار، التي تُعَدّ معقله الرئيس، حزبياً وعشائرياً. وبينها أن خصومات الحلبوسي مع طيف سياسي وحزبي وعشائري واسع داخل فضاء المكون السني يجعل منه ضعيفاً وفاقداً لزمام المبادرة في أي مواجهة، علماً بأن الأصوات الداعية إلى تنحّيه عن رئاسة البرلمان ارتفعت في الآونة الأخيرة، وكان بعضها صادراً عن أوساط قريبة منه نوعاً ما، بل إن البعض منها جاء من جهات خارجية داعمة له، مثل تركيا.

أمّا في الجانب الكردي، فإن كثيرين رأوا في إذعان حكومة إقليم كردستان لقرارات التحكيم الدولي، الصادرة عن المحكمة التجارية الدولية في العاصمة الفرنسية باريس، وقبلها قرارات المحكمة الاتحادية العراقية العليا بشأن عدم شرعية تصدير النفط من جانب الإقليم من دون موافقة الحكومة المركزية في بغداد وإشرافها، رأوا في ذلك انتصاراً للأخيرة وتعزيزا وتقوية لموقفها، الذي تبلور بوضوح أكبر من خلال الاتفاق الموقت الذي أُبرم بين بغداد وأربيل برعاية السوداني ورئيس حكومة الإقليم مسرور البارزاني وإشرافهما، مطلع شهر نيسان/أبريل، والذي تم بموجبه تحديد آليات وضوابط ملزمة في إطار تصدير النفط من الإقليم وطريقة صرف عوائده المالية، إلى أن يصار إلى إقرار قانون النفط والغاز من جانب البرلمان العراقي.

لا شك في أن عمق المشاكل وحجم الأزمات السياسية والاقتصادية، التي ألقت ظلالها الثقيلة على أبناء المحافظات الكردية في شمالي العراق منذ بضعة أعوام، واستمرار الصراعات الحزبية بين القوى السياسية النافذة هناك، أمورٌ جعلت المواطن الكردي يدرك أن الحل يكمن في إعطاء دور حقيقي للحكومة الاتحادية في بغداد من أجل انتشال الإقليم من واقعه المزري، اقتصادياً وحياتياً.

وليس على الصعيد الشعبي الكردي فحسب، بل إن الواقع السياسي المتأزم، واستمرار الخلافات والتقاطعات بين القطبين الكرديين الرئيسين، الحزب الديمقراطي الكردستاني (البارتي)، والاتحاد الوطني الكردستاني (أليكتي)، بشأن جملة من القضايا المفصلية، كتوزيع الموارد المالية، والانتخابات، والمشاركة الفعلية في صنع القرارات واتخاذها وإدارة مفاصل الحكومة، يفرضان على كل طرف من الاطراف، كي يتغلب على خصمه الداخلي، أن يسعى لتعزيز حضوره ووجوده وعلاقاته مع المركز، سواء في الجانب المتعلق بالحكومة حصراً، أو الأحزاب والقوى السياسية الفعّالة فيها والمؤثرة في توجيه سياساتها واتخاذ قراراتها.

في مقابل ذلك كله، ربما هناك تحديان يواجهان حكومة السوداني. الأول يتمثل بالوجود الأميركي، وكيفية التعاطي مع ذلك الملف "المسكوت" عنه موقتاً، والذي يمكن أن يفتح أبواب التأزيم على مصاريعها في أي وقت، إذا لم يُصَر إلى حسمه بطريقة واقعية ومُرضية ووفقاً للإرادات السياسية والشعبية، التي بلورتها جملة من الحقائق والمعطيات خلال الأعوام الثلاثة الماضية، وتحديداً منذ عملية اغتيال الشهيدين نائب رئيس هيئة الحشد الشعبي، أبي مهدي المهندس، وقائد فيلق القدس الإيراني، قاسم سليماني، قرب مطار بغداد الدولي، في الثالث من شهر كانون الثاني/يناير 2020.

أمّا التحدي الآخر فيتمثّل بالتيار الصدري، الذي يمكن أن يوصف بـ"المعارضة الصامتة" بعد أن انسحب نوابه الـ73 من البرلمان، وأعلن زعيمه السيد مقتدى الصدر اعتزاله العمل السياسي، وإفساحه الطريق أمام الإطار التنسيقي لتشكيل الحكومة وفق رؤيته، بالتحالف مع الشركاء السنة والأكراد. وحتى الآن، تشير المعطيات إلى أن السيد الصدر راضٍ بقدر ما عن أداء حكومة السوداني، وليس في نيته وضع العراقيل في طريقها، بيد أن تأييد الصدر الضمني لن يكون مفتوحاً، وهو قادر في أي وقت على تحريك الشارع عندما يرى ذلك ضرورياً وملحّاً.

وبعيداً عن جزئيات الأمور وتفاصيلها ودقائقها، يبدو أن منهج السوداني العملي قريب جداً من شعارات الصدر الإصلاحية، وهذه نقطة مهمة جداً. فضلاً عن ذلك، فإن بقاء عدد من المنتمين أو المحسوبين على التيار الصدري في مواقعهم الحكومية العليا، قد يكون في نظر البعض رسالة تطمين جيدة، وخصوصاً إذا كان أداء هؤلاء مُرضياً ومقبولاً ولا توجد ضدّهم شبهات فساد وسوء إدارة واستغلال. 

وفي كل الأحوال، لا ينبغي للسوداني المنهمك والمنشغل، إلى حد كبير، بملفات الفساد والخدمات وما يتفرع عنها من قضايا ـ وهي بلا شك أولويات ملحّة ـ أن يهمل أو يغضّ الطرف عن التحديات السياسية، لأن الأولويات والتحديات في نهاية المطاف متداخلة ومتشابكة، وفرص النجاح في أي منها تعزز فرص النجاح في الأخرى، والعكس صحيح.