زهران ممداني عمدة نيويورك.. الحرية المحسوبة وإدارة المزاج الأميركي
لا ينبغي أن نحمّل زهران ما لا يطيق، ولا أن نراه فارساً قادماً من وراء الأطلسي ليرفع راياتنا المنسية، الرجل انتُخب ليحكم نيويورك، مدينة المواصلات المعقّدة والضرائب والملفات الخدمية.
-
فلنفرح بزهران ممداني، ولكن بعين مفتوحة.
لم يكن فوز زهران ممداني بمنصب عمدة نيويورك حدثاً عابراً، كثيرون فرحوا به كمن يرى ضوءاً من بعيد ويظنّه فجراً، بينما هو في الحقيقة مصباح على طريق طويل تحرسه دولة تعرف كيف توزّع الأدوار وتضبط الإيقاع.
زهران، الشاب الذي حملته رياح الهجرة من أوغندا إلى نيويورك عام 2008، لم يصل إلى العمدة وحده، ولم يصنع هذا النصر بجهده الفردي فقط، في أميركا لا يصعد أحد من فراغ؛ هناك منظومة كاملة تعرف متى تفتح الباب ومتى تغلقه، تدخل من تشاء إلى الضوء، وتستثمره حين يلزم لتقول للعالم: انظروا كم نحن متسامحون، كم نحن متنوّعون! ثم تعيده إلى حجمه الطبيعي عندما تنتهي الحاجة.
أميركا كيان ونظام له ميزانه الخاصّ، من عاش هناك يدرك أنّ الحرية التي تلمع في واجهاتها ليست مطلقة، بل مدروسة بعناية لتنفيس الغضب وإدارة المزاج العامّ، الإعلام لا يعكس الرأي العامّ، بل يصنعه، ومن امتلك الميديا امتلك الوجدان الأميركي، وبهذا الوجدان يريدون إدارة العالم.
الولايات المتحدة تمنح هوامش واسعة للحرية لكنها تحرس مدينة المستكبرين بإحكام، تسمح لك أن تصرخ، أن تختلف، أن تنتقد، لتفرغ شحناتك في العلن، ثم تعود في المساء إلى النظام ذاته.
زهران ممداني يمثّل شاباً قادراً على الجمع بين المبادئ والقيم الإنسانية والمهارات السياسية الواقعية، المسلم الشيعي من (الخوجة)، نشأ على إرث فكري يمتد من نهج علي بن أبي طالب وثورة الإصلاح والكرامة الحسينية، لكنه يقدّم هذه القيم بلغة عصرية وإنسانية، يتحدّث عن الفقراء والمهاجرين والمظلومين بلغة يفهمها الغرب ويطمئن إليها الإعلام.
الخوجة جماعة من الشيعة الاثني عشرية يقدّر عددهم بنحو 120 ألف نسمة، لا وطن محدداً لهم، يعيشون في شرق أفريقيا مثل كينيا وتنزانيا، وفي أوروبا وأميركا وكندا والهند ومناطق أخرى.
هم ليسوا مجرّد جماعة دينية، بل مجتمع يجمع بين الدين والحياة والاقتصاد العملي، أصلهم كما يقول المرحوم السيد حسن الأمين يعود إلى الهندوس الذين اعتنقوا الإسلام على أي مذهب كان، واكتسبوا مبادئ تعزز تقوية الذات، والاعتماد على التجارة كطريق للثروة والقوة، وأهمية العمل الحكومي للتنمية والتأثير بعيداً عن فكرة الثراء أو حتى المعيشة من عائد الوظائف الحكومية.
المجتمع الخوجي بحسب رواية مقرّبين من هذا الوسط، يؤمن بالديمقراطية داخلياً، مع دستور وانتخابات تحكم العلاقات بين أفراده، ويؤكّد ضرورة التواصل بين المرجعيات الدينية الشيعية التقليدية والتجار والأثرياء، لضمان نقل التجربة الدينية والاجتماعية وتكرار المفيد منها.
معرفة هذه التجارب تمكّن الفرد والمجتمع من الاستفادة من الإرث التاريخي والقيم العملية في تعزيز الكفاءة الاقتصادية والاجتماعية، وهو السياق الذي ينتمي إليه زهران ممداني، وهذا ربما يفسّر دمج المبادئ الدينية مع الرؤية السياسية الحديثة في حركته ضمن العمل الأميركي العامّ.
تاريخياً، برز من الطائفة الخوجية شخصيات بارزة في السياسة والدين مثل سعيد أختر رضوي مؤسس بعثة بلال الإسلامية في تنزانيا، ويتردّد كثيراً أنّ محمد علي جناح مؤسس الدولة الباكستانية منهم، وقد نقول إنّ فوز ممداني يشير إلى أنّ السياسة الحديثة يمكن أن تُبنى أحياناً وحتى في أميركا على القيم والمبادئ أكثر من الأصول والانتماءات.
ما حصل في نيويورك يعكس تحوّلاً في المزاج الأميركي، نعم، ثمّة جيل جديد يميل إلى التعدّد والعدالة الاجتماعية، لكن الدولة العميقة تعرف كيف تحتوي هذه الأمواج قبل أن تتحوّل إلى طوفان، تعيد تدوير الغضب في قوالب الحرية، وتحوّله إلى جزء من اللعبة، فينطفئ الاندفاع شيئاً فشيئاً، وتبقى أميركا كما هي: تجيد الإصغاء لتربح الصمت والانصياع في نهاية المطاف.
لا ينبغي أن نحمّل زهران ما لا يطيق، ولا أن نراه فارساً قادماً من وراء الأطلسي ليرفع راياتنا المنسية، الرجل انتُخب ليحكم نيويورك، مدينة المواصلات المعقّدة والضرائب والملفات الخدمية، لا ليدافع عن فلسطين أو قضايا المشرق، سيمدّ الجسور مع الجميع كما فعل في حملته الانتخابية: اليهود والشواذ، والمسلمين والملوّنين، وسيبتسم للجميع كما تقتضي قوانين اللعبة.
ولكن كعرب ومسلمين، علينا أن نتعلّم من هذه التجربة، لا أن نغرق في وهجها، نرى في نجاح زهران مرآة لأنفسنا: ما الذي يمنعنا من بناء مؤسسات حقيقية، وخلق بيئة تستوعب الكفاءة قبل الولاء؟ فالحضارة التي نذمّها ليست عظيمة لأنها عادلة، بل لأنها تعرف كيف تنظّم فوضاها، وتحيل تناقضاتها إلى طاقة تغذّي استمرارها.
فلنفرح بزهران ممداني، ولكن بعين مفتوحة، فهو، في نهاية المطاف، نصر صغير في حضن إمبراطورية كبيرة، تعطيك ما تريد أن تسمعه، وتحتفظ لنفسها بما تريد أن تبقى عليه، وتمارس في الوقت ذاته أبشع الجنايات الإنسانية.