فرح عمر.. كيف انقلبت الصورة؟

ما دامت هذه الروح الجهادية متجددة مع كل شهيد يرتقي، فعلى المحتل أن يفقد الأمل في كسر المقاومين في لبنان، جنوداً وشعباً، وأن يشرع بعدّ السنين لزواله.

  • الصحفية فرح عمر.
    الصحفية الشهيدة فرح عمر.

قد تتجرأ بعض الكلمات على عظمة المصاب الذي ضرب الجسم الإعلامي عموماً، وشبكة الميادين خصوصاً، انطلاقاً من مبدأ تحويل التهديد إلى فرص، والاستثمار في ضعفنا لجعله نقطة قوة نواجه فيها الاحتلال، الذي أصبح ثأرنا معه "شخصياً"، بعد استشهاد الزميلين فرح عمر وربيع معماري ورفيقهما حسين عقيل.

اعتادت آلة القتل الصهيونية استهداف المدنيين والأبرياء، والاعتياد تعبير لطيف لنيّاتها، إذ إنه غريزة إجرامية متوحشة مزروعة في نفوس الإسرائيليين، تفتح شهيتهم على إبادة أي كائن، وتجعلهم ينظرون إلى أي شيء أمامهم كهدف في مرماهم وخطر تجب تنحيته. هكذا لا يميز الاحتلال بين الأطفال الخدّج وكبار السن، النساء والمعوقين، الجرحى والمسعفين، والطواقم الصحفية.. جميعهم مسجلون في بنك أهداف يستغله "جيش" الاحتلال كلما فشل في تنفيذ مخططاته.

هستيريا إسرائيلية

أكثر من 60 صحافياً اغتالهم كيان الاحتلال منذ بدء ملحمة "طوفان الأقصى"، وما العدد الكبير هذا إلا دليل على إخفاقه في تحقيق أي نتائج لعدوانه على قطاع غزة، ولا يمثّل سوى حقيقة واحدة لا جدل فيها، هي الفشل الذريع في مجابهة جنود المقاومة، فبأي موقف يخرج؟ ماذا يحمل معه؟ وكيف يحفظ ماء وجهه؟ من هنا يفجّر جنونه في استهداف الصحافيين، الذين يقفون في الصفوف الأمامية إلى جانب المقاومين، ظناً بأنه قد حقق ضربة موجعة في عملية "السيوف الحديدية" المزعومة.

تطرح تساؤلات عديدة حول الجرأة لدى "جيش" الاحتلال التي تخوله قتل الصحافيين، إذ إنهم محميون بمواثيق دولية - من المفترض - وقوانين محلية وتأمينات من مؤسساتهم، لماذا لا يهاب الملاحقات القضائية؟ كيف يفرط في تشويه صورته أمام الرأي العام العالمي ويرفع رصيد حركة "حماس" في المعركة؟ 

الواقع أنها أمور لا تهم، فهو عدو فتّاك خُلق من العنجهية المتجذرة في الصهاينة، الذين ينظرون إلى الآخرين ليس بفوقية فحسب، إنما بالتمنّن لإبقائهم على قيد الحياة، طموحهم السيطرة على العالم وتصفية سكان الأرض، فكيف يسألون عن القانون ويفكرون في صورتهم، ما دامت المحاكم الدولية والمنظمات الأممية والإعلام العالمي تقف في صفوفهم، بيد أن ما يهتم به الاحتلال فقط هو المقاومة، وهنا نقصد مجمل مكوناتها من عسكريين وإعلاميين ومناصرين والبيئة الحاضنة لها.

انقلاب الصورة

يضع الاحتلال المتضعضع مخططات طويلة ويضرب بحساباته طولاً وعرضاً، للوصول إلى طريقة تهز معنويات المقاومة، لن نقول هزيمتها لأنه مصطلح بعيد المنال، ويعبّر باستهدافه الصحافيين، على غرار فرح وربيع، عن الهستيريا التي يعيشها، زاعماً أنه كسر شوكة المقاومين في لبنان، كذلك، يظن أنه ألحق خسارة كبيرة لعلّه يردع الطواقم الصحافية الأخرى عن فضح جرائمه عند الحدود اللبنانية -الفلسطينية.

لقد أخطأ المحتل الغاصب في حساباته في استهداف زميلينا، وذهب بعيداً في خياله باعتباره ضربة موجعة أو نصراً واهماً، لأن الصورة معاكسة، إنه ارتقاء من منزلة إلى منزلة أرفع على طريق القدس، إذ لا ارتقاء من دون تضحية، وما كان ينقص الإعلام اللبناني في تغطية "طوفان الأقصى" هو تقديم الشهداء لانبعاث دمهم في جسمه، يؤلمه فيقسو ويشتد بأسه. إن هذه الشهادة زادت اللبنانيين فخراً وألّبت الجميع على النقمة والاقتصاص من الاحتلال، الأمر الذي يشكّل تحذيراً له من تبعات جرأته الزائفة.

الصورة الحقيقية للاستشهاد تكمن في التعطش للجهاد بالسلاح والكلمة والصورة والصوت، إذ إن الاحتلال أكد لنا أن مهنة الصحافة لا تقلّ شأناً عن القتال العسكري، فوصفه الزملاء الشهداء بعبارة "مخربين" دليل على عظمتهم، بل وضعهم في منزلة المقاومين، وأنه يرى سترتهم الصحافية بارودة موجهة نحوه. هنا نسأل.. إلى أي مدى أوجعوه لدرجة إرسال مسيّرة خاصة لتنفيذ عملية الاستهداف!

لم يغتل الاحتلال الإسرائيلي الزميلين الصحافيين، بل اغتال الحق، لأنه ينزعج من الحق، ما يدلل على أن الميادين أصابته في المقتل بنقلها كلمة الحق وتغطيتها الحقيقة، ومن هنا عنوَنَت بـ "التبريكات والتهنئة" بدلاً من "المواساة والتعزية"، في استشهاد طاقمها الصحفي.

في المحصلة، صُعق كيان الاحتلال بمشاهد الثبات والفخر بعد واقعة الاستهداف، إن على مستوى إدارة القناة أو أهالي الشهداء والأصدقاء وعموم اللبنانيين والإعلاميين، كما لم يتوقع ردة الفعل الاستثنائية ومعالم عدم الانكسار، تماماً مثلما ظلت الكاميرا ثابتة وواقفة في تحدٍ لقوة القصف وعنادٍ لإكمال الرسالة، على ما يقول أنطون سعادة: "الحياة وقفة عز فقط". في المقابل، تجلّت صدمة الاحتلال في الحاجة إلى إشباع غريزة القتل فاستمر بالقصف الهمجي على المناطق الجنوبية بهدف حصد مزيد من الشهداء.

ألف من فرح..

خريف 2018 داخل حرم الجامعة اللبنانية ـ كلية الإعلام، قلت لفرح "بيلبقلك تكوني رئيسة تحرير"، ابتَسمَت فقط، لأن تواضعها لم يسعفها في الإجابة. إن الحديث عن فرح الطالبة والصديقة والصحافية يبقى تقصيراً، ويكفي النظر إلى صورها التي تخبر كل شيء. 

لماذا ضجت مواقع التواصل الاجتماعي بعبارة "بطلة"، وقد أصرّ زملاؤها في مقاعد الدراسة على تردادها، فهي التي غابت عن الجامعة عاماً واحداً لانكبابها على المهنة، ومن ثم عادت لإكمال دراسة الماجستير، وعملها الصعب والطويل في أهم فضائية عربية لم يثنها عن حضور الصفوف أو التقصير بالواجبات الدراسية.

كانت هادئة الحضور خفيفة الظل تتكلّم المفيد، غابت عن الامتحانات النهائية بداعي السفر لتغطية الانتخابات التركية، ومن إسطنبول ظلت الامتحانات هاجسها وكانت تسأل زملاءها يومياً عن الأسئلة ومستوى صعوبتها، وبالطبع اجتازت الامتحانات في الدورة الثانية. سألتني إن كانت تستطيع اللحاق بالسنة الجامعية الجديدة، إذ لم تقدّم مقترح رسالة الماجستير؛ نظراً إلى انشغالها في تغطية المعركة جنوب لبنان، وما أعظمه من انشغال! وكم خجلت من نفسي أني قدّمت المقترح في اليوم الأخير من المهلة المحددة. أجبتها: "قدمي في شباط"، لم أعلم أن لا شباط ولا رسالة ولا فرح بعد الآن! 

أيضاً من الحدود الجنوبية، حرصت على الاستفسار عن مواعيد التسجيل والمقترحات المقبولة والأشخاص الذين اجتازوا لجنة المناقشة، فمن الطبيعي أن أي شخص يقف على خطوط النار وهو عرضة للخطر في أي لحظة، أن ينسى الدراسة ولا يبالي بتفاصيل كهذه، لكنها "البطلة"، التي تستطيع المواءمة بين واجباتها وتحمل المسؤوليات، وما رسائلها ومحادثاتها الأخيرة إلا دليل على طاقتها الإيجابية وتمسكها بالحياة لآخر دقيقة، وبارتقائها أنجزت الرسالة ونالت الشهادة الأسمى في الدنيا والآخرة.

عند استقبال جثمان ابنتهما الشهيدة، قال والدا فرح عمر: "أتمنى أن يكون هناك ألف فرح"، هذه العبارة تشكّل وحدها الرد الكافي على حماقة الاحتلال، فالأبوة لم تكتفِ بتقديم شهيدة واحدة بل تريد المزيد، وفي تصريح الوالدين مدرسة توقظنا على حقيقة أنه ليس وقت البكاء، بل توقيت المضي بالسير على طريق القدس.

ما دامت هذه الروح الجهادية متجددة مع كل شهيد يرتقي، فعلى المحتل أن يفقد الأمل في كسر المقاومين في لبنان، جنوداً وشعباً، وأن يشرع بعدّ السنين لزواله. عند فواجع الموت ينتهي الكلام وتصمت النفوس، لكن في استشهاد فرح وربيع يبتدئ الكلام وتستمر التغطية!