مشروع "الدولة الدرزية"... وخطر الانعزال الجماعاتي

الحديث عن بناء الدولة القومية يعني الحديث عن بناء مؤسسات المواطنة، وفق أسس حقوقية، ما يجعل تأمين وحدة مجتمع المدن أمراً لازماً في سياق بناء هذه الدولة.

  • الحديث عن بناء الدولة القومية يعني الحديث عن بناء مؤسسات المواطنة.
    الحديث عن بناء الدولة القومية يعني الحديث عن بناء مؤسسات المواطنة.

ليس عبثاً دعوة رئيس وزراء العدو الصهيوني بنيامين نتنياهو إلى حماية دروز سوريا بعد حوادث "جرمانا"، وتهديده دمشق وقيادتها الجديدة. لقد أعادتنا هذه الدعوة إلى إقامة الدولة الدرزية إلى سنوات مضت كانت الدويلة المارونية هي التي تتصدر القائمة بهدف قيامها وانعزال الطائفة الكريمة عن محيطها الطبيعي.

ولكن نكسة حزيران في العام 1967، واحتلال العدو الصهيوني الجولان أديا إلى تأجيل قيام الدويلة المارونية في لبنان واستبدالها بالعمل لقيام الدويلة الدرزية بهدف أن تكون نموذجاً لقيام الدويلات الطائفية والعرقية في المنطقة وتحديداً في الهلال الخصيب.

ولعل من الأهمية هنا في هذه القراءة الإشارة إلى كتاب "قصة الدولتين المارونية والدرزية" الغني بالوثائق، والصادر في منتصف الثمانينيات (1985) في بيروت، وكان قد دوّنه الصحافي محمد خالد قطمة نقلاً عما كشفه كمال أسعد الكنج وكمال أبو لطيف (من مجدل شمس/ الجولان)، من معلومات خطيرة عن المشروع الإسرائيلي، وكيف خدعا المخابرات الصهيونية وجعلاها أضحوكة، كما ظهر في القصة.

وفكرة تعميم  الدويلات الطائفية والعرقية أساسية في الفكر الصهيوني، وتقوم على ملاحظة الحقيقة الثابتة في تمزيق الدول المحيطة بفلسطين إلى دويلات طائفية وعرقية متناحرة لضمان أمن " إسرائيل" وسلامتها.

قصة الدولتين، المارونية والدرزية، تعيدنا من جديد إلى فكرة الهوية والمواطنة والدولة الديمقراطية المدنية، قبل أن تصبح الهوية صراعاً مع الشظايا التي تجرح وجهنا وروحنا، ومنا من سيرمي كل الشظايا ويعيش بوجه عار أمام الواقع!

ومنا من سيكتفي بشظية واحدة تجرحه ويجرح بها؛ ومنا من سيصهر الشظايا في قالب مداهن محاك ويرمي وجهه الحقيقي؛ ومنا من سيترك الشظايا تشوّه وجهه حتى لا يتعرف على نفسه في لحظات النظر إلى حقيقة ذاته. 

هي فلسفة الهوية التي سنغرق على شاطئها وسيعوم من في وسطها، مخاض وولادة ونشوء وتكون وارتقاء ثم ضياع أو هداية؛ أو ضياع فهداية؛ أو هداية فضياع.. وإما الاستمرارية وإما الغياب.

وشهيد الهوية هو من نبش ذاته وصبر على ألم النبش واقتلع جذور العفن من شرايينه، وتبنى النبالة في وجه الانحطاط، وشجع غيره على الارتقاء ودافع عن أرضه وشعبه وقضى في سبيلهما.

هكذا كشفت أزمة المشهد السياسي في سوريا قبل وبعد سقوط نظام البعث ووصول "الإخوان المسلمين" وبكل ما يحملونه من مشاريع "أفغنة" إلى السلطة... تكشف عن أزمة إدارة المجتمع من قبل مؤسسات الدولة، التي كانت سابقاً وتستمر حالياً، في وضع العديد من العُقد أمام أي حوار حقيقي، حتى بدا أن غموض مصطلح "ثقافة الاختلاف" بين عناصر النسيج السوري يلعب دوراً معقداً في إنجاز أي توافق بين الجماعات، أو حتى في تشجيعها وتحفيزها على أن يكون لها حضور واقعي في الحراك الدولتي والمجتمعي.

إن كل تصدّع تصاب به الدولة عبر صراعاتها المتكررة، سيسهم في تفكيك المدن، الواحدة تلو الأخرى، وفي إحداث الكثير من الثغرات في نظامها المديني الحضري القائم في الأساس على التنوع، بعدما كان هذا التنوع غارقاً في بيئات ذات علاقات تقوم على سلطة العشيرة المحكومة بعلاقات شبه إقطاعية، طائفية أو إثنية.

إن الإجراءات والسياسات التي تتّبعها الجماعات مع غياب مؤسسات الدولة وضعفها ستمهد الطريق إلى تغييرات ديموغرافية واجتماعية وثقافية خطيرة، وستسحق معها قيم المدينة الحضرية، وقيم المدينة الثقافية، ما سيفرض شروطه على هوية المدن، وعلى الجماعات والأفراد.

في الختام، ألم يكن التطور الاجتماعي للحضارة برمته، توثيقاً مستمراً للمواجهة المتواصلة والمعقدة بين "رهان" السلطة المستميت على البقاء، وخيار الجماعات الثابت بديمومة الارتقاء الوعر نحو وعي سياسي أعلى؟ ولذلك، ليس جديداً أن تراهن السلطات السياسية الحالية على الزمن الفيزيائي لبقائها، فيما يتطور الحدث السياسي بعيداً منها خطوة خطوة ليبني جذوره الانعزالية المستقبلية في التاريخ الاجتماعي.

الحديث عن بناء الدولة القومية يعني الحديث عن بناء مؤسسات المواطنة، وفق أسس حقوقية، ما يجعل تأمين وحدة مجتمع المدن أمراً لازماً في سياق بناء هذه الدولة والوقوف بمسؤولية أمام رهان الدولة المدنية بوصفه القوة الحقيقية التي يمكن من خلالها مواجهة تحديات بناء الدولة والمشروع الإسرائيلي في منطقة الهلال الخصيب.

هذا الرهان الأخير لا يعني تجاوزاً لوجود الجماعات الإثنية والطائفية في المشهد السياسي، بل هو الأكثر حرصاً على حمايتها، والتقليل من آثار انعزالها، وإعطاء بنية الدولة المدنية/ العلمانية تحفيزاً لوجودها، ولهويتها السياسية والمهنية، وإقصاءً للتوصيف الطائفي ـ العرقي الذي سيظل مصدراً مرعباً  لإنتاج الأزمات في المنطقة.