"إسرائيل" الوهم وأكذوبة الشعب المختار

إن جزءاً من تحررنا كشعب عربي أن يكون لدينا روايتنا الخاصة المنفصلة عن البروباغندا الغربية يشأن التاريخ وأحداثه. لدينا، ككل شعوب العالم، ملاحمنا التاريخية ومآسينا، والمحرقة اليهودية ليست منها.

  • الحرب على غزة وأكذوبة الشعب المختار.
    الحرب على غزة وأكذوبة الشعب المختار.

ما الذي يحدث لو رفعت الدول الغربية، وعلى رأسها أميركا، الدعم المادي والمعنوي الظاهر والمستتر عن "إسرائيل". لن تبقى هذه "الدولة" قائمة أكثر من يومين وليلة. تبدو "إسرائيل" السياسية اليوم كمريض في الإنعاش يعيش على الأوكسجين الأميركي من المساعدات. لم تستطع بعد من خلالها سوى تسجيل لكمة قوية على وجه الإنسانية، وقتل الطفل العربي بتعاليم تلمودية مستوحاة من الكتب التاريخية المقدسة لليهود.

أعتقد أنه صار لزاماً علينا بعد الذي يحدث في غزة من مجازر أن نخلع من أيدينا القفازات ككتاب ومثقفين، ونقول الحقائق كما هي، غير واقعين في الفخ الأدبي المسموم للدعاية الغربية، وتجنب وصف العمل الإجرامي الإسرائيلي بالعمل الديني البحت الذي فاق في توحشه كل الروايات التاريخية التي قرأناها وكل الكتب والملاحم. يكفي أن تمارس علينا "إسرائيل" وحشيتها وهي توهمنا باكية بمحرقة لا كنا نحن العرب من مسببيها، ولا شاركنا فيها، وليس لدينا علم من قريب أو بعيد بأي شيء عنها، بينما نرى أطفالنا يحترقون أمام أعيننا، وتبيعنا الولايات المتحدة الأميركية الكلمات والتعابير، وسأرتجل مثلاً جديداً كـ"حامل الشعر إلى سوق عكاظ".

فنحن الأمة التي يشكل الشعر والأدب دعائم ثقافتها، يريد الشعراء الأميركيون أن يتفوقوا علينا بتعابيرهم الإنسانية، بينما يرسلون من القذائف أكثرها فتكاً وأشدها إحراقاً وأوسعها تفجيراً. يجول وزير الخارجية الأميركي متباكياً على "الوضع الإنساني" و"الضحايا"، ويشعر بالقلق بينما تأكل الطيور في شوارع غزة الجثث المتروكة. 

قد يقول قائل لماذا يطلب العرب التعاطف من أميركا ثم يلومون السياسة الأميركية؟ فأقول إن ليس ما يطلبه الشارع العربي "الواعي جداً" تعاطفاً من أميركا، بل وقف إمداد السلاح والمال والدعم العسكري واللوجستي والإعلامي والميداني لـ"إسرائيل".

دعوا أهل هذه المنطقة يدافعوا، كما كل أحرار العالم، عن أرضهم وكرامتهم. لبنان وفلسطين والعراق واليمن ومصر والخليج والأردن قطعة متصلة من شعوب موحَّدة، دينياً وفكرياً ولغوياً وعاداتٍ وتقاليد، لا يفسد ودها إلا السرطان الإسرائيلي المزروع في قلب الأمة.

ولأن الحرب بين غزة و"إسرائيل" لم تبدأ في 7 أكتوبر، بل من اللحظة التي أعلن فيها قيام "دولة" لليهود على التراب العربي، كان لا بد لنا من فهم الحجة الغربية في تعاطفها مع "إسرائيل"، وتماهيها إلى أقصى الحدود مع كل الأعمال الوحشية، التي من المفترض أنها تتنافى مع قيمها الإنسانية والديمقراطية.

لهذا، علينا أن نفهم أحداث العالم السياسي الحالي وتطوره نتيجة الحرب العالمية الثانية، والتي أفرزت انتصارات وتقسيمات كان اليهود أكثر من استفاد منها على الأرض بعد استغلالهم سقوط برلين وانتحار الفوهرر الألماني أدولف هتلر، لينسجوا تخيلات وقصصاً عن محارق عرقية وإثنية بحق اليهود، ويجعلوا أنفسهم محور المظلومية العالمية من الحرب، ويحرروا أرقاماً لم يتأكد أحد من صحتها بشأن موت ما يقارب 6 ملايين يهودي في المحارق في ألمانيا، في الوقت الذي يشكك بعض المؤرخين الألمان في أن عدد اليهود أنفسهم في ألمانيا في ذلك الوقت لم يتجاوز نصف مليون شخص، في حين حصدت الحرب العالمية الثانية أرواح أكثر من ستين مليون إنسان بين جندي ومدني حول العالم.

وعليه، يمكننا القول إن "الدولة اليهودية" لا أساس تاريخي حقيقي لها إلّا في الأوهام والأساطير، إلا إذا أراد لنا العالم أن نتحول إلى يهود، ونؤمن بالكتب الإسرائيلية، فهذا أمر آخر.

لا محرقة ولا "دولة". المحرقة الحقيقية في غزة، والدولة الحقيقية هي فلسطين. وإذا كان المنطق الغربي الحقيقي بشأن "دولة إسرائيل"، أنها قامت، كما كثير من الدول، بفرض القوة والأمر الواقع، وأن القوي يفرض دولته، فلتتركوا إذاً الصراعات تأخذ مجراها، ولتحافظ "إسرائيل" على وجودها إن استطاعت، لأن الوجود إرادة شعبية حقيقية، وليس قوة عسكرية فحسب.

وما الضغط الشعبي الاستيطاني سوى دليل على سقوط الشعب المزعوم عند أدنى حدود المعاناة عند الدفاع عن أرض يدّعي ملكيتها، وهذا ضعف "إسرائيل" الحقيقي ووهنها وبيت عنكبوتها، لأنها لا ترتكز على إرادة قتال حقيقية. وعندما تتلاقى الإرادات في الساحات فإن إرادة الفلسطيني تنتصر على آلة القتل والتهجير.

إن جزءاً من تحررنا كشعب عربي أن يكون لدينا روايتنا الخاصة المنفصلة عن البروباغندا الغربية يشأن التاريخ وأحداثه. لدينا، ككل شعوب العالم، ملاحمنا التاريخية ومآسينا، والمحرقة اليهودية ليست منها، وما هو منها هو مأساتنا في فلسطين وشعب فلسطين وتراب فلسطين.

وبغض النظر عن نتيجة الحرب والسياسة وحل الدولة الواحدة أو الدولتين، فإنه بعد اليوم لم تعد أقلام الحبر تستطيع أن تهزم أقلام الدم، بحيث كتبت نحو ثلاثين ألف روح بريئة في غزة بدمها وطفولتها وبراءتها أن الحقيقية واحدة والتراب واحد والحدود واحدة والدولة واحدة، وهي الدولة الفلسطينية، وأن لا شعب مختار لهذه الأرض إلا الشعوب التي ضحت بدمها وأطفالها، وأغلى ما لديها من أجل التمسك بأرضها، ودفعت الأثمان وتحملت المآسي من أجل البقاء والاستمرار.