"المعركة بين الحروب".. أن يستحيل الإنجاز فشلاً

من جديد تُظهر المقاومة قدرتها على قراءة العدو وتحليله جيداً، وأن تستخدم استراتيجيته ضده، فقد استخدمت المقاومة النشوة الإسرائيلية بالنجاحات الموهومة للاستراتيجية الهجومية في خوض عملية خداع استراتيجي على مدار سنوات.

  • من المعركة السرية إلى المعركة بين الحروب.
    من المعركة السرية إلى المعركة بين الحروب.

على مدار أعوام خلت، تفاخَرَ "جيش" الاحتلال بأنه نجح في تطوير الاستراتيجية اللازمة لإجهاض محاولات محور المقاومة إنشاء خطوط إمداد مفتوحة تشمل نقل العتاد والسلاح، بما يشمل "الكاسر للتوازن" لقوى وفصائل المقاومة، خاصةً للمقاومة الإسلامية في لبنان، إذ شكَّلَ إجهاضُ مشروع تطوير قدرات المقاومة التسليحية عنواناً أساسيّاً على أجندة هيئات الأركان المتعاقبة في "جيش" الاحتلال.

تطوّر مفهوم المعركة بين الحروب عبر السنوات، ليصل إلى مرحلة يُشكِّل عبرها جزءاً أساسيّاً من الاستراتيجية العسكرية لـ "جيش" الاحتلال، قُدِّم في خلالها هذا المفهوم بوصفه الشكل الأجدى الذي يضمن تحقيق أهداف استراتيجية لـ "جيش" الاحتلال، من دون الانجرار إلى جولات مواجهة وقتال.

مثّل استكشاف نتائج الاستراتيجية الإسرائيلية ونجاعتها في الحد الفعلي من قدرات المقاومة وتعطيل خطوط إمدادها وحجم الضرر الواقع على مشاريعها التطويرية محطَّ تساؤل كبير، ترافقَت معه تساؤلاتٌ حول جدوى سياسة الصبر الاستراتيجي للمقاومة في مواجهة سلوك الاحتلال العدواني.

من المعركة السرية إلى المعركة بين الحروب

لم تكن استراتيجية المعركة بين الحروب وليدة الحدث، بل كانت امتداداً تراكميّاً للسياسة العدوانية الإسرائيلية على شعوب المنطقة، واستكمالاً لنمط "المعارك السرية" في "الجيش" الإسرائيلي، الذي نشط منذ منتصف الخمسينيات في القرن الماضي، إذ إن فكرة "الاستخبارات العملياتية" التي تنقل العمل الاستخباراتي من مهمة جمع المعلومات إلى تنفيذ أنشطة عدوانية مباشرة، ومشاركتها في العمليات التخريبية والمكائد السياسية، هي فكرةٌ أصيلةٌ في منهج عمل الاستخبارات الإسرائيلية وأجهزة الأمن التي كانت ضليعة في العديد من المهمات الأمنية التي هدفت إلى زعزعة استقرار الدول العربية وتوجيه ضربات سرية وأمنية لقوى المقاومة ومقدّراتها.

تطوّر هذا المفهوم تدريجيّاً، بدءاً من انخراط شعبة الاستخبارات العسكرية في أنشطة متابعة "الإنذار" واستثمار القدرات العملياتية في مواجهته، ما خلق فرصاً وأساليب عمل تهدف إلى "التشويش والإحباط"، بدأت في الظهور علانية في أوائل القرن الحادي والعشرين، وتبلورت فكرة "المعركة السرية" التي عُرِّفَت على إنها إطار مفاهيمي يَخلق علاقة منطقية بين الأهداف الاستراتيجية والعمليات ومراعاة التغييرات التي تتطلّبتها الحالةُ الجديدةُ من التحديات الناشئة أمام الاحتلال، خصوصاً تنامي قدرات قوى المقاومة والتبلور الواضح لمحور المقاومة وامتداد تأثيره.

أخذ التطوير المستمرّ لاستراتيجية "المعركة السرية"، وتطوير مفاهيم "الكشف الاستراتيجي" و"الضربة الإلكترونية" و"الوسيط السري" و"مساحة الإنكار" و"العلمية العسكرية"، دوراً رئيسيّاً في تشكيل الملامح الأولية للمعركة بين الحروب، والتي شملت محاولات تصميم معارك وتطوير مجموعة متنوّعة من الأدوات والجهود العملياتية المُعدَّة لتوجيه ضربات تؤثّر على خطط المقاومة وقدراتها.

تموز 2006 بوصفه حدثاً مؤسِّساً

أوصلت حربُ تموز 2006 بين المقاومة الإسلامية في لبنان والاحتلال النقاشَ إلى مراحل أخرى حول جدوى "الحرب السرية"، خصوصاً بعد أن أظهَرت نجاعةً محدودةً ضدّ القدرات التسليحية لـ "حزب الله" اللبناني وبنيته التحتية. ويصف رئيس الأركان السابق لـ "جيش" الاحتلال، "غادي أيزنكوت"، العلاقة ما بين حرب تموز 2006 وبلورة مفهوم المعركة بين الحروب، في دراسة منشورة في معهد واشنطن للدراسات، بالقول إن "طبيعة التهديدات التي يتعرّض لها أمن إسرائيل تتغيّر تغيُّراً كبيراً، فقد أدى ضعف الدول العربية وجيوشها إلى نشوء واقع تطوّرت فيه التهديدات التقليدية وغير التقليدية ودون التقليدية (أيّ الفصائل والمنظّمات شبه العسكرية) في آن واحد". 

إن حرب لبنان 2006، وما حسمته بانتهاء الزمن الذي كان يستطيع "الجيش" الإسرائيلي حسم معاركه فيه، حفّز هيئة الأركان في "جيش" الاحتلال على بلورة مفهوم للحرب الوقائية المتكاملة المنخفضة الكثافة، تمثّل بـ "الحملة بين الحروب"، ما تبنّته الهيئة جزئيّاً في بداية العام 2011 في إطار "فريق الحرب السرية"، ودُمِجَت في الخطة متعدّدة السنوات لتطوير قدرات "الجيش" الإسرائيلي وتحديث آليات عمله.

ووفقاً لـ "أيزنكوت"، أدى تطوير مفهوم "المعركة بين الحروب" ونجاحه إلى تصريح عقيدة عسكرية جديدة لدى "جيش" الاحتلال، وهو مبدأ أضفى الطابع المؤسسيّ على المفهوم ضمن الأنشطة العملياتية الإسرائيلية، وحدّد كيفية دمجه في استراتيجية مختلف المؤسسات الأمنية وأهدافها وإدارتها في خلال تعاونها مع بعضها ومع نظيراتها في الخارج، وجمَعَ مفهومُ "المعركة بين الحروب" المكوّنات السرية والحرب المعرفية مع الجهود الأمنية والاقتصادية والسياسية الدولية، كلّ ذلك بهدف ممارسة السلطة اللازمة لمواجهة المخاطر الأمنية من دون تصعيد الموقف والوصول إلى الحرب.

دواعي المعركة بين الحروب

في العام 2013، ومع تشخيص أجهزة أمن الاحتلال لمدى تعاظم قوة "حزب الله" والحراك الفاعل لتوسيع حضور وفعّالية محور المقاومة، إضافةً إلى التطورات المتلاحقة في الساحة السورية، أطلق "جيش" الاحتلال حملة لمواجهة هذا التعاظم حملت اسم "يركبون الأمواج"، مرّت بمراحل متدحرجة في إطار استثمار تصاعد الأزمة السورية في إيجاد فرصة ملموسة لإطلاق عمليات للسيطرة بالنيران على طرق ومحاور نقل الأسلحة، خصوصاً تلك المُصنَّفة بأنها "مخلّة بالتوازن"، خاصةً أنظمة الدفاع الجوي والصواريخ الدقيقة. 

وقد أخذت هذه الأنشطة الطابع الهجومي السري، وترسّخت تحت مفهوم "المعركة بين الحروب"، وعَدّ الساحةِ السوريةِ الساحةَ الرئيسيةَ للعمليات من هذا النمط إلى جانب ساحات أخرى، وقد أخذت على عاتقها مواجهة التمركز المقاوم في المنطقة، وقد نُقلت مهامُّ قيادة المعركة بين الحروب لتصبح تحت قيادة رئيس الأركان في "جيش" الاحتلال مباشرة.

أوهام النجاح ومواضع الفخر

في خلال السنوات التي سبقت "طوفان الأقصى"، وجّه "جيش" الاحتلال محور جهده على الحدود الشمالية بهدف إحباط جهود "فيلق القدس" التابع لـ "لحرس الثوري الإيراني"، وتحييد جهوده الساعية إلى تحويل الحدود اللبنانية والسورية إلى قاعدة متينة للمقاومة ومنطلق لمهاجمة "دولة" الاحتلال. في سوريا، قدّر "جيش" الاحتلال أنه نجح في منع إيران من ترسيخ وجودها وتحصين القوى الحليفة وزيادة تسليحها وقدراتها، ونشر أسلحة متطوّرة، وأجهض تحويل مرتفعات الجولان إلى جبهة أخرى لضرب "إسرائيل". 

وفي لبنان، تفاخَر "جيش" الاحتلال بتحقيقه إنجازات لافتة، وأحاط ما سمّاه بـ "عملية درع الشمال" في كانون الأول/ديسمبر 2019 باحتفاء كبير، مقدِّماً الأمر بوصفه إبطالاً لخطة "حزب الله" لمهاجمة الجليل عبر أنفاق تحت الأرض، إضافةً إلى الادعاء بالنجاح في منع تطوير قدرات صنع الصواريخ الدقيقة التي من شأنها أن تشكّل تهديداً استراتيجيّاً خطيراً على "إسرائيل". 

وقد قدّم "جيش" الاحتلال نموذج "المعركة بين الحروب" على مرّ السنين بأنه تجسيد لتفوّق "دولة إسرائيل" العسكري في الشرق الأوسط. عادّاً أنّ هذه العقيدة قد عزَّزت "قوة الردع الإسرائيلية" تعزيزاً كبيراً، وقلّلت من التهديدات المحدقة بتلك "الدولة"، وحسّنت قدرات "جيش الدفاع الإسرائيلي". 

وفي السياق ذاته، سوّق "جيش" الاحتلال هذه العقيدة بوصفها الخيار الأنجع الذي يمكن تطويره ضمن منظومة مشتركة في الشرق الأوسط، خصوصاً بعد اتفاقيات التطبيع، تستطيع عبره قوى متعدّدة الجنسيات أن تتّبع النموذج نفسه في مواجهة تصاعد قوة محور المقاومة في جميع أنحاء الشرق الأوسط، إذ قد يشكِّل هذا النموذج أساساً لتحالف إقليميّ استراتيجيّ يتصدّى لمجموعة واسعة من الأنشطة الإيرانية.

صبر المقاومة الاستراتيجي 

على مدار سنوات طويلة، اتّخذت المقاومة استراتيجية الصبر الاستراتيجيّ في مواجهة الضربات المتكرّرة لحملة "المعركة بين الحروب" الإسرائيلية، ما فسّره الاحتلال بأنه دليل على قدرته على تعزيز "مفهوم الردع" ضدّ خصومه، وقدرته على توجيه ضربات متتالية ومتكرّرة من دون أن تكون لهذه الضربات مكلفة.

أثار صمت المقاومة لسنوات علامات استفهام متكررة وواسعة حول هدف وجدوى استيعاب الضربات الإسرائيلية والامتناع عن الردّ عليها، وبينما طوّر "حزب الله" بعد سنوات استراتيجية "المعركة بين الحروب المضادة" والهادفة إلى ردع الاحتلال عن استهداف الكوادر البشرية للحزب في سوريا أو أي مكان في العالم، وذلك على أثر مجموعة من عمليات الاغتيال التي طالت كوادر الحزب، دشّن الحزب معادلة الردع التي نصّت على أنه سيردّ على أيّ استهداف لأيّ كادر من كوادره في أيّ مكان في العالم من الأراضي اللبنانية، ما نجح في كبح جماح عدوان الاحتلال عن استهداف كوادر الحزب مباشرة.

بينما استمرّت الضربات الإسرائيلية لما عُدَّ أنه قوافل السلاح وخطوط الإمداد وصولاً إلى استهداف حتى مدرّجات المطارات السورية، على مدار السنوات، أدى استيعاب المقاومة تلك الضربات إلى خلق حالة من النشوة لدى قادة "جيش" الاحتلال وحكومته، الذي سوّق استراتيجيته على أنها الشكل الأكثر نوعية وتأثيراً، وأنها تجربة تستحقّ النقل والاستفادة في مدارس الاستخبارات العملياتية في العالم.

انتصار المقاومة النوعي 

شكّل تدشين جبهة الإسناد للمقاومة الإسلامية في لبنان، وتتالي انخراط جبهات الإسناد من قوى محور المقاومة، التي وجّهت نيرانها نحو الأراضي المحتلة، إلى تظهير ما لم يكن في حسبان قادة الاحتلال وأجهزة استخباراته، ولا حتى أجهزة الاستخبارات الحليفة للاحتلال، وفي مقدّمتها الولايات المتحدة.

لم يقدّر أيّ منهم حجم القدرة الكامنة لدى قوى محور المقاومة في المنطقة، واستعدادها للاشتباك المباشر مع الاحتلال من ساحات مختلفة، علماً بأن الجبهات الإسنادية تعمل تصاعديّاً، ولم تضع كلّ أوراقها على الطاولة. أدى انخراط الجيش اليمني وحركة أنصار الله، والمقاومة العراقية وحتى المقاومة البحرينية، في توجيه ضربات مباشرة للاحتلال وتعطيل مصالحه، إضافةً إلى التهديد المباشر للمصالح الأميركية في المنطقة، إلى خلط أوراق المعركة وإرباك كلّ الحسابات.

لم تكن الصدمة في قدرات الجبهات الإسنادية بمقدار الصدمة التي مثّلها ما أظهره حتى الآن "حزب الله" من قدرات تسليحية متعددة ومختلفة، فتدرّج الحزب في تصعيد نيرانه، وشمل التدرّج استخدام القدرات التسليحية وتفعيل البنى التحتية وانتقاء الأهداف من بنك الأهداف الإسرائيلية المُدرَج ضمن ملفات غرف قيادة العمليات للمقاومة الإسلامية في لبنان.

قدّم "حزب الله"، في إطار نشاطه العملياتي الإسنادي، مجموعةً من النماذج من قدراته التسليحية والاستخباراتية، فكان من ضمنها ما أعطى مؤشّراً على حجم الترسانة الموجودة للصواريخ الدقيقة، والقدرات النوعية لسلاح المُسيَّرات الهجومية والاستخباراتية، إضافةً إلى أنظمة متعدّدة من الصواريخ الموجَّهة المضادة للدروع التي تستطيع إصابة أهدافها بدقة عالية، وليس انتهاءً بأنظمة الدفاع الجوي، وكلها ــــ بالمناسبة ـــــ أصناف من السلاح والقدرات كان إجهاض وصولها على رأس مهام وأهداف الاستراتيجية الإسرائيلية محطّ الفخر المسمّى "المعركة بين الحروب".

خداع استراتيجيّ متعدّد المستويات والسنوات

من جديد تُظهر المقاومة قدرتها على قراءة العدو وتحليله جيداً، وأن تستخدم استراتيجيته ضده، فقد استخدمت المقاومة النشوة الإسرائيلية بالنجاحات الموهومة للاستراتيجية الهجومية في خوض عملية خداع استراتيجي على مدار سنوات، آمَن في خلالها "جيش" الاحتلال بنجاعة ضرباته في تعطيل الخطط التطويرية للمقاومة وبنجاحه في تعطيل خطوط إمدادها، فيما بات واضحاً أن سنوات صبر المقاومة الاستراتيجي استندت بدرجة أساسية إلى نجاح المقاومة في تجاوز هذه الضربات، ولربما في استحداث خطوط إمداد متعددة ومتغيّرة وسلسة، وتركت لـ "جيش" الاحتلال الانشغال في بنك أهداف وهميّ استَنزَف فيه قدراته الاستخباراتية والهجومية على مدار سنوات خلت من عمر المعركة بين الحروب.

بات من الواضح أنّ ثمة طبقة جديدة من فشل أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية الذريع، المتمثّل في هذه المرة بالعجز عن تقدير حجم القدرات التسليحية والبنية التحتية للمقاومة، وتحوُّل أوهام "الردع" إلى فشل كبير يُضاف إلى سجل الفشل الإسرائيلي المتوسّع، فبعد أن سعى الاحتلال إلى ردع المقاومة اللبنانية عن تنفيذ هجمات تستهدف الاحتلال وإحباط قدراته التسليحية، باتت الأراضي المحتلة عرضةً لهجمات من جبهات لم يُقدِّر "جيش" الاحتلال أنها في موضع التهديد أصلاً، ويقف أمامها عاجزاً مُفضِّلاً التكتّم عن خسائره هرباً من استحقاقات الردّ، فيما تُعزِّز قوى محور المقاومة تكاملها وتماسكها، وتدشّن مرحلة جديدة من مراحل الاشتباك والمواجَهة وحصار الأراضي المحتلة بطوق من نار.