"بركس" تكتل شموليّ، وعولمة من نوع جديد

هل أصبح "بركس" أمام تجربة لعولمة من نوع جديد؟ وهل بدأ الانتقال من تكتل اقتصادي إلى تكتل شمولي؟

  •  تعهّدت مجموعة
     تعهّدت مجموعة "بركس" بأن تحافظ على السلام العالمي.

عقدت دول بريكس اجتماعها الخامس عشر في جنوب أفريقيا يوم الثلاثاء الماضي واستمرت حتى يوم الخميس 24/08/2023، لبحث عدة قضايا مصيرية تتعلق بآلية عمل المجموعة وتوسيع العضوية فيها، واستخدام العملات المحلية للدول الأعضاء وتعزيز بنك التنمية الجديد وغيره من المستجدات والطموحات التي قدّمها رؤساء الدول المجتمعون. وقد شاركت نحو 50 دولة أخرى في القمة من خلال برنامج "أصدقاء بركس".

تعهّدت مجموعة "بركس" بأن تحافظ على السلام العالمي وأن تدافع عن "الجنوب العالمي" النامي بأن تقدّم بديلاً عن النظام العالمي الحالي الذي يخضع لهيمنة الدول الغربية الغنية. وبذلك التزمت دوله بتعزيز التعددية والاحترام المتبادل والتعاون والإنصاف والعدالة، وتعزيز التنمية المشتركة، من خلال العمل كمنصة للتعاون بين بلدان الجنوب.

وقد استطاعت القمة بالفعل الانتقال نحو تحوّل سريع في إيقاعها، لتنتقل من الاهتمام بإيجاد تكتل اقتصادي إلى تكتل سياسي اقتصادي معاً له ثقل موازٍ للدول السبع. آخذة بعين الاعتبار ضرورة الاستعجال في تقوية المجموعة لأسباب عديدة تتعلق بالتوترات العالمية المتصاعدة التي سبّبتها الحرب في أوكرانيا، والأوضاع السياسية والعسكرية في مناطق أخرى من العالم، كما في أفريقيا والشرق الأوسط والتنافس الخطير المتبادل بين الصين والولايات المتحدة الأميركية.

وفي متابعة لكلمات قادة الدول الخمس خلال افتتاح القمة، تبيّن أن سقف المطالب قد ارتفع كثيراً، وبأن التكتل لم يعد اقتصادياً فقط، بل تجاوز ذلك لمختلف المجالات: فقد أجمع القادة في كلماتهم على إيجاد نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب يحترم القانون الدولي، وتحقيق التعاون في مجالات الفضاء، والتعليم، وتطوير المهارات، والتكنولوجيا، والذكاء الصناعي، وتحقيق التنمية المستدامة وإيجاد مجتمع عالمي أكثر إنسانية، وتوفير الفرص الاقتصادية المتكافئة. 

وكذلك الانتقال إلى استخدام العملات المحلية وإزالة التعامل بالدولار الأميركي، والاعتماد على الاقتصاد الرقمي، والمطالبة بالدمج، وتطوير النمو، وتعزيز الأعمال التجارية، ومساعدة الدول النامية، والاهتمام بالتغيّر المناخي، وتمكين المرأة. 

وصولاً إلى تعزيز التعاون العسكري لضمان السلامة والاستقرار، والتعاون في حل الصراعات الدولية وتحقيق العدالة واحترام القوانين الدولية لا قوانين الدول الأخرى، وتخفيف نفوذ الدول المتطورة، وتنسيق الشؤون الخارجية، وإقامة حوار جدي بالتعاون مع المجموعات الأخرى كما مع آسيان والدول المستقلة بشأن مستقبل العالم، وبناء طرق شحن جديدة تبدأ من بحر قزوين مروراً في المتوسط والخليج انتهاء بالمحيط الهندي.

فهل أصبح التجمّع أمام تجربة لعولمة من نوع جديد؟ وهل بدأ الانتقال من تكتل اقتصادي إلى تكتل شمولي؟ وقد أجابت القمة عن هذين السؤالين من خلال تقديم نفسها كبديل عن النظام العالمي الحالي الذي أساء إلى إدارة العالم، وإذا لم يكن بديلاً فهو على الأقل نظام جديد يقوم على التعددية. 

لقد بدأ بنك التنمية الجديد يطرح نفسه بديلاً عن البنك الدولي الذي يفرض شروطاً مجحفة على الدول المقترضة، والتي تؤدي في الغالب إلى زيادة التدهور فيها بدلاً من مساعدتها على إصلاح تعثّراتها. 

ولذلك ستكون المجموعة في وضع أقوى لمواجهة التدخّلات التي يقوم بها كلّ من صندوق النقد الدولي والبنك الدولي عند تقديم القروض، والمساعدات الاقتصادية والعسكرية وحتى السياسية التي تقدّمها الولايات المتحدة الأميركية في شروط مجحفة. ويُعدّ هذا البنك أحد الإنجازات الأكثر واقعية لدوله، فهو يبحث لها عن دور يصل بها إلى الابتعاد عن الدولار الأميركي وتحقيق ثقل اقتصادي موازٍ للغرب.

ويهدف البنك إلى تمويل مشروعات البنية التحتية للدول النامية وبالعملات المحلية. وبالفعل فقد أصدر البنك أول سندات بالروبية الهندية لتشرين الأول/أكتوبر المقبل، كما أصدر سندات بالراند الجنوب أفريقي الأسبوع الماضي. وهو مستمر في سعيه لزيادة رأسماله عن طريق توسيع العضوية. وبذلك توفّر دول "بريكس" فرصاً جديدة للتجارة والاستثمار عن طريق نظام مالي عادل وآمن للدول النامية التي عانت من تجارب مؤلمة ومؤسفة من خلال تعاملها مع كلّ من صندوق النقد والبنك الدوليّين.

لقد تحمّلت البشرية في العقود الماضية نتائج السياسة الدولية تكلفة عالية، أدت بالكثير من الدول النامية إلى الفقر والمجاعة والهجرة والانقلابات والعقوبات الاقتصادية والحروب وغياب الحريات والحقوق والعدالة، وعدم الاستقرار ونقص المواد الغذائية وصولاً إلى إمكانية استخدام السلاح النووي الذي أصبح الحديث عنه يتردّد بكثرة هذه الأيام.

نعم، هناك نظام عالمي جديد تشكّل وسيؤدي دوراً رئيسياً في التوازن مع مجموعة الدول السبع الصناعية الكبرى أو يتخطّاه! ولعل هذا التكتل "بركس" بعد توسّعه سيعطي المجال للخروج من ويلات العقود الماضية ونقل العالم إلى نظام يحكمه العدل والمساواة. فاقتصادات "بريكس" الحالية (أي الدول الخمس) تمثّل أكثر من 23% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي أي 20 تريليون دولار (لعام 2021) في مقابل 35 تريليون دولار لمجموعة السبع، وأكثر من 16% من التجارة العالمية، كما يشكّل عدد سكانه 42% من مجموع سكّان الكوكب، و30% من مساحته.

لقد وجّهت الدعوة إلى 67 دولة للمشاركة في القمة، كما أبدت أكثر من 40 دولة اهتمامها بالانضمام إلى بركس، بينما تقدّمت 23 دولة بطلبات رسمية للانضمام من بينها (الإمارات والسعودية والبحرين ومصر والجزائر وأثيوبيا ونيجيريا وإيران وتايلند وفنزويلا والأرجنتين).

وقد صرّحت وزير خارجية جنوب أفريقيا يوم الأربعاء 23/08/2023، أن دول "بريكس" اتفقت على توسيع المجموعة، وتبنّت وثيقة تحدّد الخطوط التوجيهية والمبادئ اللازمة لتوسيع العضوية. وقد أعلن رئيس جمهورية جنوب أفريقيا يوم الخميس 24/08/2023، أن مجموعة بركس قرّرت رسمياً دعوة كل من الأرجنتين ومصر وإثيوبيا وإيران والسعودية والإمارات لتصبح دولاً كاملة العضوية في المجموعة اعتباراً من الأول من كانون الثاني/يناير 2024. 

وبذلك، فإن نتائج قمة جوهانسبورغ وخاصة بعد انضمام أعضاء جدد في التكتل، أثبتت أنّ عملاقاً جديداً قد ولد، وبأنّ نظاماً عالمياً جديداً متعدّد الأقطاب قد تشكّل، وبأنّ المرحلة المقبلة ستكون مبنية على مصالح وأهداف مشتركة، لتعزيز التنمية وتحقيق الاستقرار والعدالة والسلام في العالم.