أين أنت يا أوليفيا؟ خليل حاوي يسأل

تراكمت الخيبات، خيبة الحب وخيبة الموت، هذا الثنائي الذي عاش يلاحقه بين شوارع الوطن العربي المنفي على نفسه.

  • أين أنت يا أوليفيا؟ خليل حاوي يسأل
    أين أنت يا أوليفيا؟ خليل حاوي يسأل

لم تسعفه الكلمات والكتب التي تحمل نظريات تشريح الواقع أمام هول الدبابات التي خانت بيغن، وربما اعتقد أنه لن يستطيع بعد اليوم الوصول إلى شارع الحمرا في بيروت ورؤية عشيقته التي كانت تلاحقه في أحلامه. لم يكن يريد التحرر من تلك الأحلام. كان يعشق عبودية الانتظار، ولكن الاحتلال كان قد تخطى الأربعين كيلومتراً، وأصبح في بيروت.

بيروت المدينة التي تعاني من ليالي الضيق والحرمان. وفي شوارعها، ليس هناك إلا مقاوم يهرب بين الزقاق، ويبحث عن كيس رمل يحميه من صاروخ جاء يقصف دمى الأطفال وقطط الشوارع، تلك المدينة التي تنبأ فيها بفكرة الانتحار عندما قال في قصيدته "ليالي بيروت":

ويدي تُمسِكُ في خذلانها

خَنجَرَ الغَدرِ وسُمَّ الانتِحار

رُدَّ لي يا صُبحُ وجهي المستعارْ

رُدَّ لي، لا، أي وجهٍ

وجحيمي في دمي، كيف الفِرار

وأنا في الصبحِ عبدٌ للطواغيتِ الكبارْ

وأنا في الصبحِ شيءٌ تافهٌ، آهِ من الصبحِ

وجَبْروتِ النَّهارْ

تراكمت الخيبات؛ خيبة الحب وخيبة الموت، هذا الثنائي الذي عاش يلاحقه بين شوارع الوطن العربي المنفي على نفسه. كان الحب يأتي من زاوية الموت. ومع كل لحظة عشق مع قصيدته، كانت الرصاصات في بيروت تقتله من جديد، حتى وصل أخيراً إلى قناعة لمحاورة تلك الخيبات، فلم يجد إلا الرصاص ليقتل الحب أولاً، الموت أبداً.

عاش يطارد التاريخ بين الأصل والنظري والفلسفي، ولم يجد في داخله سوى أن هذا التاريخ منفصل عن الذات، وبعيداً عن الإنسانية، وجاءت الدبابات لتسرق الحدود السياسية وهي تدوس على التراب، ولتقتل الأحلام أيضاً، وتقتل الانهمام على الذات، فالتاريخ أصبح بالنسبة إليه لا يكتب بحسب ما أراد هيجل، لأن الفلسفة هنا لا تستطيع أن تقرأ الواقع، بل أدرك أن التاريخ هنا إلى جانب قلعة شقيف لا يُكتب إلا بالدم، ومحاورة لحظة الهزيمة، وأول محاورة هي مع الرصاص، وصوت هدير الطائرات، وتراجيديا الموت، ولحظة الهزيمة، إذ أدرك أنه لم يُهزم فقط عندما حاول أن يصبح ما يريد، بل أصبح كل شيء مهزوماً أيضاً من حوله حتى التاريخ نفسه.

ربما قرأ للكاتب النمساوي ستيفان زفايغ روايته "لاعب الشطرنج"، وأدرك أنه لن ينجو من الجريمة. لقد تبعثرت الأخلاق بين أحذية الجنود، وأصحاب المصانع، ورؤساء الشركات الكبرى، وجنون السياسيين، وأحلام المثقفين التي بنيت على أشلاء الأطفال لبناء بيوت على الطراز الأوروبي، وأدرك أيضاً أنه لم يحافظ على هويته في زمن الرأسمال. لقد سرقوا الشمس، وحانت لحظة الذهاب إلى النوم بجوار الله؛ الشاهد الأخير على المذابح والمجازر بحق الإنسان.

لقد قرّر ستيفان زفايع أنها ستكون المرة الأخيرة التي يلعب فيها الشطرنج، على الرغم من موهبته المذهلة. ولذلك، مات منتحراً إلى جانب زوجته وكلبه بسبب هذيان هتلر بالحرب، ولكنّ خليل حاوي مات منتحراً مع الرصاص بسبب الهزائم، وماء التطبيع في العبوات المغلقة، و"إسرائيل"، والحرية التي بيعت داخل سوق أميركا في براميل من النفط، وحكومات عربيّة كأحجار الشطرنج يحركها لاعبون في الدساتير، ومناهج المدارس. ولذلك، رحل خليل حاوي وحيداً يبحث عن الحرية للحرية نفسها، وبقيت شوارع بيروت التي دفنت مدافع المقاومين من دون قصة الحب مع "ديزي الأمير".

وقف خليل حاوي على حافة الهاوية، وعلى ناصية الحرية طوال حياته، يشتم اليأس المطبق، والتشاؤم الأسود، والأوراق المكتوبة باللغة العبرية، والتي كانت أشجاراً عربية. لحظتها، أدرك أنَّ "إسرائيل" زرعت في رأس السياسة العربية، وأن السلام والتعايش كذبتان كبيرتان لسحقنا وهزيمتنا، وأنّ سكين المطبخ والموت حقيقتان صغيرتان لمقاومتنا ونصرنا.

لم يكن الانتحار الذي داوم عليه كما الصوفي الذي يداوم على صوفتيه محض جنون أو هروب من الرصاصات الفارغة التي لم تحرز النصر، بل كان انتحاراً إيثارياً، وانتحاراً في سبيل الأمل. لم تتوقف حدود الانتحار عند هذا الحد، بل وصل إلى أنه كان انتحاراً يحمل معه رسائل كثيرة، أهمها: كفى هزيمة! ولذلك، انتحر برصاصات مليئة بالخيانات العربية، واجتماعات مجلس الأمن، وحق الفيتو.

يسأل خليل حاوي: "أين أنتِ يا أوليفيا؟"؛ تلك الطفلة التي أصبح بسببها هائماً يبحث عن وجهها بين النساء، كمحاولة لتعويض غيابها، ولكنه لم ينجح في ذلك. كان يريد أوليفيا فقط؛ شقيقته المتعلق بها حد التقديس، والتي كان يدللها ويقبّلها، ويسمع أحلام طفولتها المستقبلية، ويحرسها كأنها خيمته الأخيرة، ولكن المرض سرقها منه، وأصبحت عصفورة للموت، فيما أصبح هو في قفص الانتظار والفقدان.

 كان يقول: "غريب أمر هذه الطفلة! ما زلت حتى اليوم أترقب عودتها ولكنها لا تأتي. أين أنتِ يا أوليفيا؟"، وليعرف لماذا لم تعود أوليفيا، ومن أجل الإجابة التي عاش يطاردها، انتحر خليل حاوي. لقد كان انتحار "البحث عن الإجابة". وعندما أدرك أن الموت هو سبب عدم عودة طفلته التي كان يتفقّد كل الألعاب التي تلعب بها، انتحر كمحاورة أخيرة مع السبب.