إعلام في مرمى النيران: تحليل نقدي للحرب الإعلامية بين إيران والكيان الإٍسرائيلي

كشفت الحرب الإعلامية هشاشة الإعلام العربي، الذي تحول في كثير من الأحيان إلى أداة ترويج لأجندات خارجية أو طائفية، بعيدًا عن المهنية.

  • الجذور المتشابكة للصراع: جغرافيا، عقيدة، وسياسة (أرشيف).
    الجذور المتشابكة للصراع: جغرافيا، وعقيدة، وسياسة (أرشيف).

في قلب المواجهة المشتعلة بين إيران والكيان الإسرائيلي، لم تعد الحرب محصورة في ساحات القتال، بل امتدت إلى جبهات الإعلام والشبكات الرقمية. صار الإعلام أداة فارقة في هذه المواجهة، ساحتها تنافس السرديات وتضارب الحقائق، وتحول الخطاب الإعلامي إلى وسيلة تعبئة وتوجيه للرأي العام. في خضم هذه المعركة، يسعى هذا المقال لتفكيك المشهد الإعلامي، مجيبًا عن تساؤلات حيوية: من يشكل وعينا؟ كيف؟ ولمصلحة من؟

الجذور المتشابكة للصراع: جغرافيا، وعقيدة، وسياسة

الصراع بين إيران و"إسرائيل" ليس نزاعًا عابرًا أو خلافًا سياسيًا مؤقتًا، بل هو تراكم تاريخي لصراع عقائدي طويل يعكس تحولات إقليمية وصدامات على النفوذ والرموز. وبالرغم من غياب الحدود البرية المباشرة، تمتد ساحات المواجهة في فلسطين ولبنان وسوريا والعراق واليمن لتصبح صراعًا على النفوذ الإقليمي والسيطرة الاستراتيجية.

منذ الثورة الإسلامية عام 1979، تبنت إيران خطابًا عدائيًا للكيان الإسرائيلي، تطور لاحقًا إلى صراع متعدد الأبعاد: عسكري، استخباراتي، وسيبراني، مدعوم بتحالف إسرائيلي-أمريكي متين ومحاولات إيران لامتلاك التكنولوجيا النووية ودعم حركات المقاومة المسلحة كحزب الله وحماس.

يرى الخطاب الإيراني المواجهة ضمن سياق عقائدي غيبي، فيما يعتمد الخطاب الإسرائيلي على سرديات دينية ترتبط بـ'أرض الميعاد' و'الشعب المختار'، ما يحول الصراع إلى حرب رموز لاهوتية يصعب حسمها.

تاريخيًا، ومع سقوط الاتحاد السوفياتي، تصاعد دور إيران كعدو بديل للغرب، وتم تصنيفها ضمن 'محور الشر' وفُرضت حرب اقتصادية وعسكرية عليها، فأصبح الإعلام العربي انعكاسًا واضحًا لهذه التحولات، متداخلاً مع قضايا كالقضية الفلسطينية والتطبيع ومفهوم المقاومة.

المشهد الإعلامي العربي: صراع الإرادات

تحول الإعلام العربي إلى ساحة حرب بالوكالة تعكس عمق الانقسامات السياسية والأيديولوجية في المنطقة. لم يعد الإعلام ناقلًا للخبر، بل أداة لصناعة الوعي الجماهيري وتحطيم معنويات الخصوم، عبر تشويه الصور، وإطلاق الشائعات، والتضليل الممنهج، وحتى الهجمات السيبرانية على المؤسسات الإعلامية. ويمكن تصنيف الإعلام العربي إلى 3 كتل رئيسية تؤثر في تشكيل وعي الجمهور:

· إعلام المقاومة: يمثله إعلام مثل الميادين، والمنار، والعالم. هذا التيار يتبنى سردية قريبة جداً من الرواية الإيرانية، يصور إسرائيل كـ"عدو مطلق". يستخدم خطابًا تعبويًا مشحونًا عاطفيًا ودينيًا، ويركز على "المظلومية الفلسطينية" و"مقاومة الاحتلال". يعتمد نجاح هذا الإعلام على قدرته على مواجهة العقوبات، وتجاوز الحجب، والتنافس مع السرديات الأخرى.

· إعلام التطبيع والمحور المناهض لإيران: يشمل قنوات مثل العربية، والحرة، وسكاي نيوز عربية، وبعض القنوات الخليجية الأخرى. يحمّل إيران كامل المسؤولية عن التوتر الإقليمي، مصورًا إياها تهديدًا للأمن العربي، فيما يُخفف من وطأة الخطر الإسرائيلي. يستخدم خطابًا تحذيريًا قوميًا، ويعيد تعريف المقاومة لتصبح مرادفًا لـ"الإرهاب" أو "الوكالة الإيرانية".

· إعلام الحياد الانتقائي: مثاله الأبرز هو قناة الجزيرة، التي تحاول الظهور كمحايدة، لكنها تكشف عن تحيزات ضمنية خلال الأزمات. تنتقد إيران بشكل غير مباشر، وتستضيف ضيوفًا إسرائيليين لفرض التطبيع. كما تركز على البعد الإنساني مع تضخيم الخلافات داخل 'محور المقاومة'. هذا المسلك قد يُعد تواطؤًا رمزيًا.

يعاني هذا المشهد الإعلامي من تآكل معايير المهنية والتحقق، فوسائل الإعلام تتبنى سرديات طرف واحد، وتستخدم لغة تحريضية بدلًا من التفسير الموضوعي. كما تحولت المصطلحات إلى أدوات تزييف، وغيّب الإعلام الجانب الإنساني، ليصبح امتدادًا مباشراً لخطاب السلطة السياسية، ما أفقده مصداقيته وثقة الجمهور به.

اللغة كأداة حرب: معركة المصطلحات

لم تعد اللغة في الصراع الإعلامي مجرد وسيلة لنقل الأخبار، بل تحولت إلى ساحة مواجهة مركزية. تُستخدم المفردات ببراعة لبناء الأطر الذهنية وتوجيه الفهم العاطفي والسياسي للجمهور، فكل كلمة تُنتقى بعناية لتخدم سردية محددة أو تُضفي شرعية على موقف أو تسحبها منه.

يتجلى ذلك في التباين الاصطلاحي بين التيارات الإعلامية، فمصطلح "المقاومة" في الإعلام الموالي لإيران لا يصف فعلاً عسكرياً فحسب، بل يُشبع الخطاب بدلالات أخلاقية وروحية تُثير البطولة والشرعية.

في المقابل، يصرّ الإعلام المناهض لإيران على استخدام مصطلح "الميليشيات"، ليُجرد هذه الجماعات من أي صفة وطنية ويُصورها كأدوات خارجة عن القانون. الأمر ذاته ينطبق على تعبيرات مثل"الرد الشرعي" في مقابل "العدوان"، إذ تُستخدم اللغة لتحديد من هو المعتدي ومن هو الضحية وفقاً للسياق السياسي.

هذه المعركة اللغوية من أخطر أدوات الهيمنة الرمزية. يُعاد من خلالها هندسة التصورات السياسية، لا عبر الصور أو الوقائع، بل عبر المفردة الواحدة. إنها حرب سرديات خفيّة تنسج وعي الجماهير بطريقة تدريجية وعميقة.

السوشيال ميديا: قوة جديدة وتحديات مضاعفة

برزت وسائل التواصل الاجتماعي كقوة إعلامية جديدة خارجة عن سيطرة الإعلام الرسمي، إذ صار الجمهور مشاركًا نشطًا في إنتاج وتداول المحتوى، ما أتاح نشر روايات بديلة أكثر سرعة وتأثيرًا. ساهمت منصات السوشيال ميديا في إظهار شهادات المدنيين ونقل وقائع مباشرة. كما برزت منظمات إعلام رقمي مستقلة عالميًا، مثل Bellingcat وWikiLeaks، كقوى بديلة كشفت عن معلومات حساسة وقدمت روايات مختلفة عن تلك التي يتبناها الإعلام التقليدي أو الرسمي، ما أثر في تشكيل الرأي العام.

مع ذلك، أعادت هذه المنصات تشكيل وعي الجماهير بشكل معقد، فكل فرد يعيش في "فقاعة" تؤكد قناعاته المسبقة، ما يعوق الحوار البنّاء ويعزز انتشار الشائعات والمعلومات المضللة. أظهرت دراسات حديثة، منها تقرير موقع DemandSage (2025)، أن نحو 26% من المحتوى الإلكتروني كاذب، وأن 86% من سكان العالم تعرضوا لمعلومات مضللة، مع تصنيف 40% من المحتوى المنشور في منصات التواصل كأخبار زائفة. 

هذا الواقع يستدعي تطوير معايير مهنية جديدة تتناسب مع العصر الرقمي، وخصوصاً مع تزايد استخدام الذكاء الاصطناعي في صناعة التضليل والأخبار الزائفة، ما يفرض تحديات غير معهودة، ويُحتّم توعية مكثفة بأهمية التحقق النقدي من المحتوى.

الإعلام الدولي: مصالح الكبار وخرائط الانحياز

تغطي وسائل الإعلام الدولية الصراع بين إيران وإسرائيل وفق أجندات سياسية واقتصادية تخدم مصالح القوى الكبرى، ما يترجم إلى انحياز واضح في التغطية. 

· الإعلام الغربي (الولايات المتحدة وبريطانيا): يُقدم سردية راسخة تعتبر إسرائيل "الواحة الديمقراطية" الوحيدة في منطقة مضطربة وكيانًا مُهددًا، وخصوصاً من إيران. يركّز هذا التناول على "التهديد النووي الإيراني" كخطر وجودي، مُبررًا بذلك السياسات الإسرائيلية. في المقابل، تُهمّش معاناة وحقوق الفلسطينيين، وتُقلل انتهاكات إسرائيل ضد المدنيين، ما يعكس تحالفات سياسية عميقة ويُسهم في تشكيل رأي عام دولي داعم لهذه السياسات.

· الإعلام الروسي: يُبرز نقدًا حادًا للهيمنة الغربية، ويُصور إسرائيل كأداة للسياسة الأميركية في المنطقة. يُسلط الضوء على العمليات العسكرية الإسرائيلية كتصعيد غير مبرر يخدم أجندات غربية توسعية، فيما يُقدم إيران كدولة تدافع عن مصالحها السيادية والإقليمية. كما يكشف عن ازدواجية المعايير الغربية في إدانة أطراف والتغاضي عن انتهاكات أخرى بهدف تشكيك المشاهد الدولي في مصداقية الروايات الغربية.

· الإعلام الصيني: يتبنى موقفًا حذرًا يدعو إلى ضبط النفس والتهدئة دون توجيه لوم مباشر إلى أي طرف. يعكس هذا الخطاب استراتيجية الصين في توسيع نفوذها الاقتصادي والسياسي بعلاقات متوازنة مع الجميع، ويسعى لتقديم الصين كقوة وساطة دولية تسعى للاستقرار، مُستغلًا مكانتها كعضو دائم في مجلس الأمن.

· إعلام أمريكا اللاتينية: يتخذ موقفًا نقديًا حادًا للهيمنة الغربية، ولا سيما السياسات الأميركية والإسرائيلية في الشرق الأوسط. يقدم سردية متوافقة مع محور إيران، مُعتبرًا الصراع جزءًا من مقاومة أوسع ضد 'الاستعمار الجديد' و'الهيمنة الإمبريالية'. يُركز على فضح الانتهاكات ويدعو للتضامن مع الشعوب المضطهدة، مستندًا إلى تجارب المنطقة التاريخية مع الاستعمار.

إعلام المستقبل: ضرورة استراتيجية لوعي الأمة

كشفت الحرب الإعلامية هشاشة الإعلام العربي الذي تحول في كثير من الأحيان إلى أداة ترويج لأجندات خارجية أو طائفية، بعيدًا عن المهنية. هذه الأزمة تمثل فرصة حقيقية لإعادة بناء إعلام عربي مستقل، قادر على تجاوز الانقسامات، والتمسك بالقيم المهنية، وتحقيق الاستقلالية الفكرية.

ولتحقيق ذلك، لا بد من رؤية وخطوات واضحة: يجب التفكير في إنشاء مؤسسات مستقلة للتحقق من الأخبار والمعلومات المضللة، على غرار "أريج، ومسبار، وتبين"، وتطوير منصات تدريب صحافي متخصصة تركز على أخلاقيات المهنة في العصر الرقمي، وتدريب صحافيين على مواجهة تحديات التضليل والذكاء الاصطناعي.

إضافة إلى ضرورة صياغة ميثاق إعلامي عربي موحد يلتزم بالمهنية والموضوعية ويخدم قضايا الشعوب بعيدًا عن التمويل والأجندات الخارجية. هذه المبادرات هي حجر الزاوية لإعلام عربي نزيه وشجاع، يمتلك الجرأة على نقد الذات قبل نقد الآخر، ويرفض أن يكون أداة في يد السلطة أو السوق، ويُصِرّ على أن يكون الضمير اليقظ للأمة، والصوت المدوي للشعب، والمرآة الناصعة للحقيقة.

فلنبدأ من القاعدة: من المربين، والطلاب، والصحافيين، والمجتمع الذي يطالب بحقّه في إعلام لا يُخدّر وعيه، بل يوقظه ويحفّزه على التفكير النقدي؛ إعلام يصنع المعنى الحقيقي، يواجه الزيف والكذب، ويصوغ مستقبل أمتنا بوعي ومسؤولية لا تهادن، بل تُقاوم وتُبادر وتصنع الفارق.