إيران ومعادلة ما بعد الهيمنة: المقاومة عقيدة، الردع واقع، السيادة استراتيجية

إذا استطاعت إيران الصمود في وجه نظام العقوبات الحالي، وردع العدوان الخارجي، مع المحافظة على تماسكها الداخلي، فستبرز كأول دولة حديثة لا تكتفي بالمقاومة، بل تتكيف وتنمو في ظل الضغوط الأميركية.

  • عرض عسكري في ايران بمشاركة 3000 سفينة.
    عرض عسكري في ايران بمشاركة 3000 سفينة.

في نظام عالمي يتَسم بتشرذم متزايد، وتوسّع إمبريالي، وتراجع الثقة بمعايير ما بعد الحرب الباردة، برزت إيران ليس فقط رمزاً للمقاومة، بل نموذَجاً يُحتذى به للاستقلال الاستراتيجي في ظل ضغط خارجي مستمر. هذه ليست مجرد قصة تحدٍّ، بل قصة بلد يصقل عقيدة وطنية شاملة، عقيدة تجمع بين التماسك السياسي، والردع العسكري، والتكيف الاقتصادي، وفهم عميق للاختلالات السلوكية الدولية.

في صميم التفكير الاستراتيجي الإيراني الحالي، يكمن إدراكٌ، مفاده أن الولايات المتحدة، وخصوصاً في عهد ترامب، تحولت من فرض نظام دولي ليبرالي إلى استخدام أدوات قسرية علناً للمحافظة على هيمنتها. لم يكن نظام العقوبات، وسياسة "الضغط الأقصى"، والاغتيالات، مثل اغتيال اللواء قاسم سليماني، مُصمَّمة لتغيير السلوك الإيراني من خلال التفاوض، بل لإجبار النظام على الانهيار أو الخضوع. وعليه، صقلت إيران ردها عبر المقاومة التي ليست خياراً سياسياً، بل ضرورة استراتيجية.

الإجماع الوطني رأس مال استراتيجي

من السمات المميزة لموقف إيران في هذه الفترة التوافق التام بين القيادة والشعب. تكشف خطابات القائد الأعلى للثورة وأولويات الرئيس بزشكيان الاقتصادية عن تشخيص مشترك لمشهد التهديدات، وهو أنّ الولايات المتحدة لا تسعى للإصلاح أو إعادة التوازن، بل لتحييد إيران استراتيجياً وخنقها اقتصادياً. هذا هو المفتاح. عندما تشعر دولة قومية بتهديد وجودي، غالباً ما تفسح المنافسة السياسية المجال للوحدة، ويصبح البقاء الوطني هدفاً مشتركاً عبر الخطوط الأيديولوجية.

إن إعلان تسمية العام الجديد "عام الاستثمار من أجل الإنتاج" من جانب القائد الأعلى السيد علي خامنئي ليس مجرد خطاب. إنه يشير إلى جهد لاستيعاب الحرب الاقتصادية كجزء من عقيدة المقاومة. فبدلاً من محاولة إعادة الاندماج في نظام مالي عالمي صممته وضبطته واشنطن، اختارت طهران بناء نموذجها الاقتصادي الفريد، الذي يشمل  تعزيز الإنتاج المحلي، وتعميق العلاقات بالشركاء غير الغربيين، وتعزيز التوطين الاقتصادي للحد من التعرض للعقوبات الثانوية. إنه تحول من المشاركة إلى الترسيخ.

الذاكرة الاستراتيجية: عقلية ما بعد الإمبريالية

إن رفض إيران التعامل مع الولايات المتحدة، وفقاً لشروط واشنطن، ليس شكلاً من أشكال الجمود الأيديولوجي، بل هو حساب استراتيجي قائم على الذاكرة. كشفت سياسة ترامب الخارجية القائمة على الضغط على أوكرانيا، وابتزاز حلفاء الناتو، ومحاولة انتزاع الثروات من دول الخليج، عن بنية إمبراطورية متهالكة. بالنسبة إلى طهران، الدرس واضح لا لبس فيه، وهو أنّ حلفاء أميركا تابعون، وخصومها أهداف. المشاركة ليست سوى مقدمة للإكراه ما لم تُفضِ إلى التبعية.

في هذا السياق، يتماشى قرار طهران تعزيز استقلاليتها الاستراتيجية مع تصورها الراسخ والذي يفيد بأن القوة الأميركية غير مستدامة في نهاية المطاف. تعتمد الولايات المتحدة بشكل متزايد على الإكراه بدلاً من التوافق، والتهديدات بدلاً من المعاهدات، والوجود العسكري بدلاً من السلطة الأخلاقية. ترى القيادة الإيرانية في مقاومتها ليس فقط بقاءً في قيد الحياة، بل تراها نذيراً لعالم متعدد الأقطاب ما بعد أميركا. لذا، فإن موقفها ليس انعزالياً، بل هو مضاد للهيمنة، وقائم على الصمود طويلاً حتى أفول الولايات المتحدة الأميركية بصورة نهائية.

عقيدة الردع الاستراتيجي العسكرية

يتجلى هذا التحول الاستراتيجي بوضوح في الإشارات العسكرية الإيرانية. فعلى مدار الأشهر الثلاثة الماضية، أظهرت سلسلة المناورات العسكرية غير المسبوقة استعراضاً منسقاً للقوة بين الحرس الثوري الإيراني والجيش والقوات الجوية الفضائية. وكان التوقيت والنطاق مقصودين. ونقلت هذه المناورات أربع رسائل استراتيجية:

1) التكامل بين الأفرع: يُشير التعاون السلس بين المؤسسات العسكرية المتوازية إلى أن الوضع الدفاعي لإيران موحَّد ومنسَّق وموجَّه مركزياً، الأمر الذي يُقوّض الرواية الغربية عن التشرذم المؤسسي داخل القوات المسلحة.

2) حماية الأصول: عبر تركيز مناورات الدفاع الجوي حول نطنز وفوردو، تُعلن إيران أن بنيتها التحتية النووية تُشكل محوراً رمزياً وعملياً لأمنها القومي، وأن أي هجوم على هذه المواقع سيؤدي إلى رد فعل غير متناسب وعظيم وقاس.

3) الخداع والخداع المضاد: تُمثل هذه التدريبات أيضاً رداً على الحرب النفسية. ودأبت وسائل الإعلام الغربية والإسرائيلية على ادّعاء تدهور أنظمة الدفاع الجوي الإيرانية. تُعقّد العروض الحية التي تُجريها طهران للبطاريات المتنقلة، والرادار، وشبكات الدفاع الطبقية، حسابات العدو، وهو ما يجعل الضربات الاستباقية باهظة التكلفة.

4) إشارات الردع: الهدف الرئيس هنا هو الغموض الاستراتيجي مع القدرة الموثوق بها. عبر استعراض الجاهزية من دون تحديد حدود للرد، تزيد إيران في حالة عدم اليقين، التي يجب على الخصوم مراعاتها عند تخطيط أي حرب أو حماقة ضدها

ليس الهدف كسب حرب مع الولايات المتحدة، القوة العظمى المسلحة نووياً، بل رفع تكلفة الاشتباك العسكري، إلى حدٍّ كبير، بحيث يصبح الخيار العقلاني لواشنطن هو التراجع والانكقاء بدلاً من المواجهة المفتوحة. هذه هي نظرية الردع الكلاسيكية، المطبَّقة من خلال عدم التماثل.

ظهور الأسلحة الاستراتيجية القائمة على البلازما: تغيير لقواعد اللعبة 

يُمثّل التطوير المُعلن لسلاح استراتيجي جديد قائم على البلازما، والذي يتجاوز السرعة والقدرة للصواريخ الأسرع من الصوت بسبعة أضعاف، تصعيداً كبيراً في الخطاب والقدرات. أقرت وزارة الدفاع الأميركية، بشكل غير مباشر، بإمكان حدوث ذلك عبر عمليات رصد  من خلال الأقمار الاصطناعية التابعة لوكالة ناسا.

تكمن الفائدة الاستراتيجية لهذا السلاح في قدرته على العمل كرادع نهائي. فعلى عكس الصواريخ التقليدية، يمكن لأسلحة البلازما أن تجعل معظم أنظمة الاعتراض المعروفة غير ذات نفع. إن تفعيل هذا السلاح يمثل دخول إيران مستوى جديداً من الحرب التكنولوجية، وهو مستوى يُضيّق فجوة عدم التكافؤ مع الخصوم المتفوقين تكنولوجياً، وهي حقبة جديدة ستجعل الولايات المتحدة وحلفاءها الصغار يعيدون حساباتهم.

في نظرية الردع، لا يقل الإدراك قوة عن الامتلاك. ومن خلال إدخال حالة من عدم اليقين في مصفوفة تهديد الخصم، تشتري طهران لنفسها مساحة للردع؛ مساحة تصبح فيها التهديدات العلنية بالغزو العسكري غير قابلة للتصديق بشكل متزايد.

المقاومة كنموذج عالمي

لعل البعد الأكثر تحولاً في العقيدة الاستراتيجية الإيرانية الحالية هو قدرتها على إلهام التقليد. يُقدّم النموذج، الذي تُطوّره إيران، والقائم على التعزيز الداخلي، والتطوير التكنولوجي المحلي، والتوطين الاقتصادي، والردع غير المتكافئ، مفردات جديدة لدول العالم.

لقد اختبرت أوروبا، في عهد إدارة ترامب الحالية، بشكل مباشر، معنى أن تكون حليفاً يُعامل كخاضع. وأثارت عقوبات واشنطن، التي تتجاوز الحدود الإقليمية، وانسحابها من المعاهدات، واستخدامها الدولار سلاحاً، استياءً في عواصم، مثل برلين وباريس ولندن وكييف. قد يُقدّم نموذج إيران مساراً بديلاً لهؤلاء، مساراً قائماً على التعلم من الإيرانيين كيفية صون السيادة من دون الخضوع.

بهذه الطريقة، لا تُقدّم إيران نفسها قوةً إقليمية فحسب، بل باتت أيضاً بديلاً فلسفياً للتبعية العالمية. رسالة طهران إلى دول الجنوب العالمي، وبشكل متزايد إلى أجزاء من أوروبا، واضحة، وهي أنه لا يُمكن التفاوض بالإكراه، والمقاومة المستدامة هي البديل الأفضل من الخضوع.

تراجع الهيمنة الأميركية

ترتكز عقيدة إيران على أن الولايات المتحدة تفقد الثقة العالمية، وتُرهَق عسكرياً، ويزداد انقسامها داخلياً، بحيث إن استراتيجية واشنطن العالمية، في عهد ترامب، هشةٌ وقائمة على المعاملات. أما في عهد بايدن، فاتسمت بالتفكك. وترتّب طهران أوراق اللعبة على المدى البعيد.

إذا استطاعت إيران الصمود في وجه نظام العقوبات الحالي، وحماية أصولها الاستراتيجية، وردع العدوان الخارجي، مع المحافظة على تماسكها الداخلي، فستبرز كأول دولة حديثة لا تكتفي بالمقاومة، بل تتكيف وتنمو في ظل كامل طيف الضغوط الأميركية. سيُمثل هذا لحظةً فاصلةً في العلاقات الدولية، وهو انهيار الأحادية القطبية، ليس من خلال الثورة أو الحرب، بل من خلال الصمود والتكيف والمقاومة، وهو النموذج الإيراني الذي أثبت نجاعته فيما بعد ثورتها الإسلامية.

ختاماً، في ظل واقع دولي مضطرب ومشهد إقليمي متغير، تُرسّخ إيران حضورها فاعلاً استراتيجياً لا يخضع للإملاءات، ولا ينكسر أمام الضغوط. لقد صاغت، عبر مزيج من العقيدة والممارسة، نموذجاً فريداً عن المقاومة الممنهجة، والردع الذكي، والسيادة المصمَّمة بعناية. وإذ تُعيد تعريف معادلات التبعية والاستقلال، فإنها لا تُدافع عن نفسها فحسب، بل تفتح أيضاً أفقاً جديداً لدول كثيرة في الجنوب العالمي، تسعى للخروج من أَسر هيمنة الولايات المتحدة. لقد باتت طهران تُجسّد معادلة ما بعد الأحادية، بحيث لا تُقاس القوة فقط بما تمتلكه الدولة، بل بما ترفض أن تتخلى عنه: الكرامة، والسيادة، والاستقلال.