اتجاهات تأصِيل فلسفة المواجهة مع العدو.. أي منطق يدعو لنزع سلاح المقاومين؟
هل غاب مفهوم المقاومة في ثقافتنا الموروثة، وإذا حضر ففي أيّ جانب منها؟ وهل يمكن إعادة بناء الثقافة الوطنية بحيث ترتكز على المقاومة بدلاً من تسليم السلاح والاستسلام؟
-
نزع سلاح المقاومة يوفّر "شرعنة ضمنية" للاحتلال، وللسردية الصهيونية.
ستبقى المسألة الفلسطينية تعتبر القضية القومية الأم في المنطقة العربية، والمقاومة فيها هي رأس حربتها. ولكنّ هذه المقاومة الفلسطينية مرّت بعدة مراحل في أزمنة مختلفة، وهي مقاومة بدأت منذ أن بدأ العدو الصهيوني في الهجرة وفوداً إلى أرض فلسطين قبل عام 1948.
منذ اتفاق أوسلو المشؤوم أصبحنا أمام واقع جديد في المسألة الفلسطينية وفي حركة مقاومتها، وقد أحكمت السلطة الصهيونية مع السلطة الفلسطينية على الضفة، وأنهت إلى حدٍ ما حركة المقاومة فيها. وانسحبت القوات الصهيونية من قطاع غزة، وتُركت حماس من أجل أن تحكم قبضتها على القطاع، لتقع بعد ذلك في الإشكالية الكبرى، إشكالية الجمع بين الحكم والمقاومة، بين أن تُجبر على تقديم التنازلات من أجل طعام وكساء ودواء أبناء غزة، وبين ألا تترك بندقيتها ولا تساوم عليها. استطاعت حماس إلى حد كبير أن تحدث الموازنة بين الحكم والمقاومة، لكنها أُجبرت على تغيير استراتيجيتها في الجهاد والمقاومة والتعامل مع العدو الصهيوني. وبعد مرور عقود من الزمن من عمر القضية وعمر المقاومة، أعلنت حماس قبولها بحلّ الدولتين، كحلّ مبدئي ولكن لا نهائي.
تعرّض العالم العربي إلى شرخٍ كبير بعد جنوح النظام المصري في عهد السادات إلى الصلح المنفرد مع "إسرائيل" وتوقيع اتفاقية كامب ديفيد في 17 أيلول/سبتمبر 1978 وإعلان بداية عصر التطبيع العربي، وقد لحقت منظمة التحرير الفلسطينية بمسار السادات ووقّعت اتفاق أوسلو المشؤوم في 13 أيلول/سبتمبر 1993، ليتبعه بعد ذلك بسنة واحدة التطبيع مع الأردن وتوقيع اتفاقية وادي عربة في 26 تشرين الأول/أكتوبر 1994.
نجح الكيان الصهيوني في إقامة علاقات مع محيطه، وتمكّن من تحقيق اختراقات تطبيعية مع بعض الدول العربية. وتزايدت هجمة التطبيع لتلتحق فيه الإمارات والبحرين والمغرب بشكل كامل، ولتتجه أنظار الكيان الصهيوني إلى باقي الدول العربية وخاصة السعودية كي تنخرط في مستنقع التطبيع بشكلٍ مكشوف، ولتتحلّل بعد ذلك بعض الدول الأفريقية من ارتباطها بالقضية الفلسطينية ولتتجه نحو التطبيع مع "إسرائيل" كتشاد في عام 2018، والسودان بلد اللاءات الثلاث بعد الانقلاب على نظام البشير، وقد حقّق الكيان الصهيوني نجاحات كبيرة بعد تمكّنه من فتح عدة أجواء عربية للطيران الصهيوني. ثم حدث العدوان الأخير على قطاع غزة فانقلبت بعض الموازين لصالح السردية الفلسطينية في أماكن متعدّدة من العالم. وكشف العدوان زيف السردية الصهيونية القائمة على فكرة ترويج المظلومية والدفاع عن النفس في وجه التهديد الخارجي.
تمكّنت السردية الفلسطينية من كسب التضامن والتأييد الشعبي والرسمي العالمي بفضل جهود المثقّفين والنشطاء الفلسطينيين في مختلف بقاع العالم، وبفضل المتضامنين العرب، وحركة التضامن الدولي، الذين نقلوا معاناة الشعب الفلسطيني وسياسات جرائم الاحتلال إلى العالم. وبالرغم من السيطرة الصهيونية على الإعلام الغربي، تمكّنت السردية الفلسطينية من الوصول والتأثير على الكثير من الشعوب في العالم، بفضل المصداقيّة والأدلة المنطقية، والمشاهدات المباشرة لعذابات الفلسطينيين. ولم تتمكّن الرواية الصهيونية من إخفاء وتبرير قتل الأطفال وحرق النساء، وتدمير المباني واقتلاع الأشجار، وتجويع شعب كامل آمن يعيش تحت إرهاب "دولة" الاحتلال.
وبالرغم من قتامة المشهد السياسي، إلا أننا نستطيع القول بأنّ ثقافة المقاومة في طوفان الأقصى وقوى المساندة أكدت أنها لا تزال متجذّرة ومثمرة في فلسطين ولبنان وصولاً لليمن العزيز.. بل أنّ العوامل السلبية كافة (الداخلية والخارجية) على القضية الفلسطينية لم تتمكّن من كسر إرادة المقاومة الحرة.
يدرك قادة محور المقاومة أنّ إطلاق طوفان الأقصى لم يكن عملية بالسهولة التي يتصوّرها البعض بسبب سريّتها، لأنّ وقوف القوى الكبرى وفي مقدّمتها أميركا وأوروبا مع الكيان الصهيوني، جعل تداعياتها قاسية على أية دولة تتخذ قرار المواجهة العسكرية مع الاحتلال.. الدرس الفلسطيني رغم توهّجه إلا أنه كان قاسياً جداً على حركات المقاومة الفلسطينية وخاصة حركتي حماس والجهاد الإسلامي، كما على حركات المقاومة في لبنان والمنطقة.
كان يمكن أن تكون صور موت أطفال غزة حافزاً للعالم لكي يستعيد إنسانيته، ويبعث رسالة لكلّ مجرمي الحروب بأنهم مسؤولون، وكان يمكن أن تتوقّف المأساة لو عرف همجيّو "جيش" الاحتلال الصهيوني أنّ القانون سيحاسبهم ذات يوم، لكن يبدو أن لا شيء سيحصل ما دامت حضارة النازية لا تزال مهيمنة، وما دام القاتل يعتبر نفسه بريئاً.
يستطيع المثقّف العربي أن يؤصِّل فلسفةً للمقاومة في اتجاهين محاولاً الإجابة عن سؤالين:
الأول: ما هي أسباب السكون الحالي في العالم العربي، حكّاماً ومحكومين، الذي يدهش الصديق قبل العدو مما جعل الوقوف إلى جانب المقاومة الفلسطينية محدوداً داخل المجتمعات العربية وعند أصدقائهم التقليديين في دول عدم الانحياز وفي المعسكر الشرقي القديم، وفي أوروبا الغربية، وانحياز أميركا الكلي للكيان الصهيوني؟
والثاني: هل غاب مفهوم المقاومة في ثقافتنا الموروثة، وإذا حضر ففي أيّ جانب منها؟ وهل يمكن إعادة بناء الثقافة الوطنية بحيث ترتكز على المقاومة بدلاً من تسليم السلاح والاستسلام للقاهر الداخلي أو العدو الخارجي، وتنشط الحركات الشعبية وتجنّد الجماهير؟
وللإجابة عن السؤال الأول يمكن التعرّف إلى أسباب العجز في العالم العربي حتى يمكن معالجتها؛ فالتشخيص يأتي قبل العلاج في الاحتمالات من دون أن يكون لأحدها الأولوية على الآخر بل قد تتضافر جميعها لخلق هذه الحالة من السكون العربي.
في ضوء المعطيات والمؤشرات القائمة، تكيّفت مطالب محور المقاومة مع التحديات الصعبة التي فرضتها تداعيات معركة طوفان الأقصى. وبالرغم من الأضرار التي أصابته واستشهاد رموزه في فلسطين ولبنان، فمن المتوقّع أن يحتفظ بدور مهم على المستوى الإقليمي، وأن يسعى خلال الفترة المقبلة إلى تعزيز حضوره وتجاوز التراجعات، عبر استثمار إنجازات المعركة، وترميم القدرات التي تضرّرت.
تسبّبت المقاومة البطولية في غزة بخسائر كبيرة للاحتلال، عسكرية واقتصادية، وبهجرة أعداد كبيرة من مستوطنيه إلى الخارج، وبأزمات داخلية، وتسبّبت بتحويله إلى كيان منبوذ عالمياً، وأسقطت سرديّته، وهزّت أسس استقراره الاستيطاني في الأمن والاقتصاد. وهدف الدعوة إلى نزع سلاح المقاومة إخراج الاحتلال الإسرائيلي من مأزقه الكبير، ويعني تحويل الاحتلال إلى استعمار "خمس نجوم"، واستعمار بلا تكاليف، ويطلق العنان لمشروعه التهويدي الاستيطاني، بينما يتحوّل اللوم على أبناء فلسطين بحجّة أنهم رهنوا مصيرهم ومستقبلهم بإرادة الاحتلال.
إنّ المطالبة بنزع سلاح المقاومة في فلسطين المحتلة ولبنان، تعني معاقبة للضحية ومكافأة للمجرم، بينما الذي يجب معاقبته ونزع سلاحه هو الاحتلال.
يفتقر نزع سلاح المقاومة للمنطق العقلي والقانوني والسياسي والأخلاقي والإنساني، إذ إنّ المقاومة حقّ أصيل مشروع للشعوب تحت الاحتلال، وهو ما يؤكده القانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة.
نزع سلاح المقاومة يوفّر "شرعنة ضمنية" للاحتلال، وللسردية الصهيونية، باعتبار أنّ "إسرائيل" هي المعتدى عليها، وأنّ المقاومة "إرهاب"، وأنّ عملية نزع السلاح كانت بسبب تعرّض "دولة" عضو في الأمم المتحدة للعدوان، و"حقّها في الدفاع عن النفس".
لعلّ أحد أكبر كوارث اتفاق أوسلو هو موافقة قيادة منظمة التحرير على عدم اللجوء إلى المقاومة المسلحة إطلاقاً، وإدارة المفاوضات والخلافات مع الاحتلال الصهيوني بالوسائل السلمية فقط، بل ومنع أيّ مقاومة مسلحة من الأراضي التي تديرها. وها نحن نرى بأمّ أعيننا كيف رهنت السلطة الفلسطينية نفسها لإرادة الاحتلال، على مدى أكثر من ثلاثين عاماً، وبدل أن تصل إلى مشروع الدولة المستقلة، وجدت نفسها أداة تنفّذ أهداف الاحتلال وتطارد المقاومة، بينما يتوسّع الاحتلال في تهويد الأرض والمقدّسات، ويتقدّم حثيثاً باتجاه ضمّ الضفة الغربية، وحتى تفكيك السلطة إلى كانتونات ومعازل، بعد أن أدّت دورها المرحلي وعُصرت برتقالتها، ولم يتبقّ إلّا إلقاء قشرتها، فهل تأخذ الحكومة اللبنانية درسها من أصحاب أوسلو؟