استراتيجية "الدبلوماسية" الدفاعية، لغة "خشبية" تصدّع ولا تردع
لعلّ أبرز الدروس والعبر من استمرار العدوان على لبنان، معطوفاً على استئناف الحرب على قطاع غزة، هو ترسيخ فكرة أنّ أميركا لم تكن – ولا يمكن أن تكون – وسيطاً نزيهاً في يوماً من الأيام، ولا سيّما عندما يتعلّق الأمر بمصالحها.
-
الرهان على الدبلوماسية وحدها لاستعادة الحقوق وتحرير البلاد من الاحتلال هو رهان خاطئ.
منذ بدء سريان مفعول اتفاق وقف إطلاق النار بين لبنان و"إسرائيل" في السابع والعشرين من تشرين الثاني/نوفمبر 2024، لم تتوقّف يوماً آلة القتل والتدمير الإسرائيلية عن الاعتداء على لبنان.
ومنذ ذلك الوقت، يُعربد "جيش" الاحتلال الإسرائيلي براً وجواً مستبيحاً السيادة اللبنانية التي تحوّلت إلى مجرّد شعار في ظلّ الفرصة المُعطاة للدولة اللبنانية بمستوياتها كافة من قبل المقاومة وبيئتها، لإجبار العدوّ على تنفيذ التزاماته بإنهاء احتلاله للأراضي اللبنانية، وإعادة الأسرى، ووقف انتهاكاته اليومية التي تجاوزت الألفي اعتداء واختراق، وذلك من خلال القنوات الدبلوماسية والقرارات الأممية والعلاقات الدولية.
وعليه تُصبح الأسئلة عن فاعلية ونجاعة الدبلوماسية وحدها، وجدوى الاستناد إلى القرارات الأممية من موقع الاستجداء لتحقيق المصالح الوطنية العليا، أكثر مشروعيّة من أيّ وقت مضى. هذا ناهيك عن خطورة المسارعة إلى التفريط بأوراق القوة وتقديم التنازلات، كشطب المعادلات التي حمت الوطن لعقود من الزمن ومنعت العدوّ من تحقيق أطماعه وأهدافه حتى يومنا هذا.
من نافلة القول إنّ الرهان على الدبلوماسية وحدها لاستعادة الحقوق وتحرير البلاد والعباد من الاحتلال هو رهان خاطئ وخاسر، ولا سيّما أننا نعيش في عالم يحكمه البقاء للأقوى، وتتسيّد فيه لغة الهيمنة والسيطرة بالبلطجة والاستعلاء (أميركا، نموذجاً).
وعليه أصبحت استراتيجية اللجوء إلى القانون والقرارات الأممية واستعادة الحقوق من خلال الدبلوماسية والمواثيق والاتفاقات بين الدول، من الزمن الغابر ما لم تستند إلى قوة تفرض التزام العدو بما ألزم به نفسه من اتفاقات ومعاهدات، فضلاً عن القرارات الأممية.
من هنا نستنتج مرتكزات العدوّ في التنصّل من التزاماته في الاتفاقات التي يعقدها مع الآخرين بشكل مستمر، غزة نموذجاً. ولبنان ليس استثناءً على هذه القاعدة في صراعه مع العدوّ الإسرائيلي، مهما بلغت علاقة بعض اللبنانيين بـ "أصدقائهم" في الولايات المتحدة الأميركية مستوى يمكن الركون إليه لرفع منسوب الثقة إلى حدّها الأقصى بأنّ الدبلوماسية معطوفة على العلاقات الشخصية والدولية المستندة إلى القرارات الأممية و"الشرعية" الدولية يمكن أن تحرّر أرضاً، أو تُخرج محتلاً، أو تُعيد أسيراً، أو تردع طامعاً.
وعليه، يُمثّل الغطاء الأميركي لاعتداءات العدوّ الإسرائيلي منذ وقف إطلاق النار، الضوء الأخضر للعدوّ للتنصّل والهروب من التزاماته. وقد بلغت الوقاحة الأميركية في تبرير انتهاكات العدو وعدوانيّته، تولّي نائب مبعوث الرئيس الأميركي للشرق الأوسط مورغان أورتاغوس وغيرها من القادة والمتحدّثين الرسميين الأميركيين قيادة الدفاع عن العدوّ الإسرائيلي عبر بثّ اتهامات مضلّلة تمّ نفيها على لسان رئيس الجمهورية غير مرّة، كاتهام المقاومة بإطلاق صواريخ من الجنوب، أو عبر إضافة شروط على لبنان من خارج الاتفاق كنزع سلاح المقاومة شمال منطقة الليطاني، أو تشكيل لجان غير عسكرية لحلّ القضايا العالقة والخلافية بين لبنان والعدوّ الإسرائيلي.
ما تقدّم، يُفسّر تمادي العدوّ باعتداءاته وجرائمه التي ذهب ضحيتها شهداء مدنيون وأبرياء، ودُمّرت منازل ومؤسسات وممتلكات، ووصل الأمر بالعدوّ إلى احتلال ما عجز عن احتلاله على مدى أكثر من شهرين من الحرب المفتوحة على لبنان بغطاء أميركي وإقليمي ودولي وبتمويل ودعم مالي وعسكري واستخباراتي وأمني غير مسبوق، من أجل تحقيق الأهداف الاستراتيجية للحرب، وفي مقدّمتها سحق المقاومة، ونزع سلاحها، وإنشاء منطقة عازلة، وتهجير أهل القرى والمناطق الجنوبية إلى ما بعد ما بعد الليطاني، وربما إلى ما بعد الحدود.
وما أقدم عليه الاحتلال خلال الفترة الماضية من اعتداءات أصاب لبنان كلّ لبنان حكومة وشعباً ودولة وكياناً وسيادة، وهذا ما عبّر عنه رئيس الجمهورية العماد جوزاف عون صراحةً من خلال تحميل العدوّ الإسرائيلي المسؤولية عن الاعتداءات، ومطالبته رعاة اتفاق وقف إطلاق النار من قصر الإليزيه، وفي مقدّمتهم أميركا وفرنسا، تحمّل مسؤولياتهم في لجم العدوان الإسرائيلي المستمر على لبنان، وإرغام العدو الإسرائيلي على الالتزام ببنود الاتفاق.
لعلّ أبرز الدروس والعبر من استمرار العدوان على لبنان، معطوفاً على استئناف الحرب على قطاع غزة، هو ترسيخ فكرة أنّ أميركا لم تكن – ولا يمكن أن تكون – وسيطاً نزيهاً في يوماً من الأيام، ولا سيّما عندما يتعلّق الأمر بمصالحها والمتمثّلة بحفظ أمن واستقرار الكيان المؤقّت. وبالتالي، ما يجري من اعتداءات شبه يومية على لبنان يؤكّد المؤكّد، بأنّ رهان البعض في الداخل اللبناني على الدبلوماسية والعلاقات الدولية والقرارات الأممية التي لا تستند إلى حد أدنى من القوّة، لإزالة الاحتلال وإجبار العدوّ على تنفيذ التزاماته، هو سراب في سراب، وأنّ الدبلوماسية وحدها كاستراتيجية دفاعية ووسيلة لتحرير الأوطان وردع الأعداء، ما هي إلّا لعلعة لملء الفضاء الإعلامي، ووهم يتبدّد عند أول استحقاق، تصدّع الرؤوس ولا تردع عدوّاً، ولغة خشبية سرعان ما يطويها الزمن.