استراتيجية "العوازل" الإسرائيلية... وخطة "الأصابع الخمسة"!
محور "موراج" الذي روج له كل من نتنياهو ورئيس أركان "الجيش" قائم على أرض غزة، ويشكل تطبيقاً حرفياً لخطة "الأصابع الخمسة" لرئيس وزراء "إسرائيل" الراحل آرييل شارون، والقاضية بتقسيم غزة إلى 5 مناطق منعزلة.
-
"إسرائيل" لا تريد بعد اليوم أن تقوم للدول العربية قائمة.
لم يُغيّر رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو، صورة الشرق الأوسط وحسب، إنما هو ضالع في تغيير الدولة العميقة في "إسرائيل". وتحضر هنا من جديد الاستراتيجية الدفاعية الإسرائيلية التي استجدت على وقع عملية "طوفان الأقصى" في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023.
رغم كل ما تخطط له حكومة العدو اليمينية المتطرفة، التي تشكل النسخة الأسوأ من حكومات العدو المتعاقبة منذ العام 1948، ما زال هناك من يلوم "حزب الله" على دخوله الحرب في مساندة غزة، ويعتبر ما حصل في غزة محصوراً فيها دون سواها، علماً أن ما تسرب من معلومات عن اجتماعات الحكومة و"الكابينت" الإسرائيليين، وما قالته القيادتان العسكرية والسياسية على السواء، يؤكدان ربط ما حصل في غزة وما زال على مدار سنة ونصف، بكل أحوال المنطقة، ويوم الأربعاء الفائت، طالعنا نتنياهو بخطة لاحتلال محور "موراج"، ليكتمل بذلك عقد الاستراتيجية الدفاعية الإسرائيلية الجديدة.
في ثلاثينيات القرن الماضي، وقبل نشوء الكيان، نادى منظر الصهيونية آنذاك زئيف جابوتسكي بإقامة دولة الجدار الحديدي، وكان يقصد إقامة دولة يهودية مسورة بالجدران، وبالمناسبة كان جد نتنياهو ناثان ميليكوفسكي (جرى تغيير الكنية إلى "نتنياهو" بعد أن استوطنت العائلة في فلسطين المحتلة)، ووالده بن صهيون، صديقين حميمين لجابوتسكي، ومؤمنين بأفكاره، التي لم تنتصر آنذاك أمام أفكار ما يسمى اليسار بزعامة مؤسس الكيان وأول رئيس وزراء له ديفيد بن غوريون. وكان الأخير يدعو إلى إقامة دولة ليهود العالم، فيما جابوتسكي يدعو إلى دولة يهودية. وهذا بالضبط ما يدعو إليه نتنياهو الحفيد وحكومته النازية.
وينطبق الأمر نفسه على ما يجري اليوم من تطورات دراماتيكية على شكل الدولة ومضمونها، لتصبح مطابقة لدولة جابوتسكي مسورة بالجدارن الحديدية ومحاطة بالعوازل وخالصة لليهود فقط.
أين مصر من "موراج"؟
لا شك في أن محور "موراج" الذي روّجه كل من نتنياهو ورئيس أركان "الجيش" إيال زامير قائم على أرض غزة، ويشكل تطبيقاً حرفياً لخطة "الأصابع الخمسة" لرئيس وزراء "إسرائيل" الراحل آرييل شارون، والقاضية بتقسيم غزة إلى 5 مناطق منعزلة من طريق إقامة المحاور (المحور الأمني الأول: "إيرز"، المحور الأمني الثاني: "نتساريم"، المحور الأمني الثالث: "كيسوفيم" الذي لم يُعَدْ بناؤه بعد، المحور الأمني الرابع: "موراج" الذي بوشر ببنائه. وأخيراً، محور "صلاح الدين" المعروف بمحور "فيلادلفيا"). لكن في حقيقة الأمر، للمحورين الأخيرين، الرابع والخامس تحديداً، مهمة تتعلق بالأمن القومي الإسرائيلي تجاه الدولة المصرية، ففي الوقت الذي ترسم وتنفذ فيه القيادتان السياسية والعسكرية الإسرائيليتان الخطط في غزة لا يغيب عن بالها لحظة واحدة، الخطر والتهديد اللذان يشكلهما الجيش المصري عليها.
وهذا ما يعيدنا بالذاكرة إلى مقولة بن غوريون الشهيرة: "عظمة إسرائيل تكمن في انهيار ثلاث دول (يقصد الجيوش)، وهي مصر والعراق وسوريا”. ويا للأسف حتى الآن، نجحت الخطة الإسرائيلية في تدمير الجيشين السوري والعراقي، لذلك، فإن "إسرائيل" تُعبّر، في الآونة الأخيرة، بلسان عدد من المحللين ومراكز الدراسات والمسؤولين عن "قلقها" الكبير إزاء التسلّح المستمر والتدريبات المتواصلة للجيش المصري ومن تطوير قوة مصر العسكرية، وهي تراقب وتشتكي من الانتشار العسكري المصري على طول الحدود مع غزة. وتعتبر ذلك تجاوزاً لاتفاقية "كامب ديفيد" 1978، أو البروتوكول "فيلادلفيا" عام 2005. على الرغم من عدم اكتراث الإسرائيليين لأي من الاتفاقيتين المذكورتين.
ويرى الإسرائيليون أن محور "موراج" سيمنع التواصل الجغرافي بين غزة وسيناء إذا ما عمد "الجيش" الإسرائيلي إلى إخلاء المنطقة الواقعة بين محوري "موراج" و"فيلادلفيا"، والتي تقدر بعرض 5 كيلو مترات، وممتدة من البحر غرباً إلى جدار غزة شرقاً، وتعزيزها بالقوات العسكرية وأسلحة الرصد والتنصت والمراقبة المتطورة جداً، والمدعّمة بالأسلحة التي تحاكي آخر ما وصل إليه عالم التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي.
أين لبنان؟
أبقى العدو على احتلال خمس نقاط عسكرية في لبنان، وأقام مناطق عازلة متقطعة على طول الحدود مع فلسطين المحتلة، ويدعو اليوم مع الأميركي إلى ضرورة تشكيل لجان تفاوض سياسية تمهيداً لفرض التطبيع على اللبنانيين، او أقلّه توقيع اتفاقية أمنية لا ترتقي إلى اتفاقية سلام، لكنها تتجاوز اتفاقية الهدنة عام 1949، وتكون المناطق العازلة والجدران هي الأساس في التصور المستقبلي للحدود الفاصلة بين لبنان والكيان الإسرائيلي المصطنع.
يحصل ذلك بالتزامن مع استهداف كل تحركات المقاومة في جنوب نهر الليطاني وشماله، بل أكثر من ذلك، استهداف القادة في منازلهم مع عائلاتهم، كما حصل في اغتيال القائد محمد بدير برفقة ابنه في منزلهما في الضاحية الجنوبية لبيروت، واغتيال القيادي في " حماس" حسن فرحات برفقة ابنه وابنته في مدينة صيدا. للضغط على الدولة اللبنانية والمقاومة معاً، بهدف جرّ لبنان إلى المفاوضات فالتطبيع ونزع سلاح "حزب الله"، حتى تتحول الدولة اللبنانية على هشاشتها إلى دولة لا حول ولا قوة لها، وسلطة صورية لن يُسمح بأن تملك أي قوة تُذكر، والدلالات التاريخية على ذلك ما زالت قائمة من طريق الفرض على الجيش اللبناني تدمير كل ما يحصل عليه من ترسانة الحزب جنوب النهر.
وأين سوريا؟
من لحظة سقوط نظام الرئيس بشار الأسد، ضربت "إسرائيل" كل مراكز القوة العسكرية السورية، حيث قامت بتدمير كل المطارات والموانئ والمواقع والمؤسسات العسكرية السورية ومن دون أي اعتراض من السلطة الجديدة في دمشق. واجتاحت الجنوب السوري وتمركزت فيه بعمق تجاوز 30 كلم في القنيطرة ودرعا وريفيهما، وفرضت سيطرة أمنية-استخبارية وحظراً جوياً بعمق إضافي تجاوز 40 كلم، يغطي جزءا كبيرا من ريفي درعا ودمشق.
هذا كلّه، تحسّباً للنظام السوري الجديد، مع العلم أنه لم يحرك ساكناً أمام كل الاعتداءات والانتهاكات الإسرائيلية للسيادة السورية، وخرق اتفاق فك الاشتباك عام 1974.
وأكثر من ذلك، راحت "إسرائيل" تتدخل في طبيعة النظام السياسي السوري المرتقب، عن طريق تصديها لحماية بعض الكيانات، سعياً منها إلى تقسيم سوريا إلى دويلات طائفية أو أقلّه إلى دولة لا مركزية او فيدرالية تعمّها الفوضى والخلافات.
الأردن ليس خارج الاستراتيجية؟
رغم اتفاق "وادي عربة" الذي يفرض السلام بين الأردن والكيان العبري، والحضور الأمني الاستخباري الإسرائيلي في المملكة، فإن سياسة الجدران والمناطق العازلة لم تستثنِها أيضاً. وليس سراً أن "إسرائيل" تعمل على بناء جدار يفصل بين فلسطين المحتلة أو الضفة الغربية والمملكة الهاشمية، وفي مطلع العام 2021، قامت بتكديس آلاف الأطنان من الأملاح المستخرجة من البوتاس وبناء جدار ملحي عملاق على طول 45 كيلومتراً مع الحدود الأردنية من جهة منطقة وادي عربة - البحر الميت، وهذا الجدار الملحي الضخم، يراوح ارتفاعه بين 9 إلى 13 متراً، وتبرّره "إسرائيل" بأنه لا يتعدى محاولة صدّ المتسللين في تلك المنطقة التي تفتقر إلى وجود سياج.
وبالتالي تبدو السردية الأردنية صحيحة في هذا الإطار، فمجرد استشعار "إسرائيل" بوجود حالات تهريب سلاح عبر الحدود، جعلها لا تتردد في الشروع ببناء جدار إسمنتي مجهز بأحدث التقنيات حتى تضمن عدم تحويل الضفة إلى غزة ثانية، من وجهة نظر الدولة العبرية.
خلاصة القول، إن "إسرائيل" لا تريد بعد اليوم أن تقوم للدول العربية قائمة، ولا سيما دول الطوق، فبعد مجاولة تحييد المقاومة في لبنان ، ورحيل نظام آل الأسد عن الحكم في سوريا، والتي لطالما شكلت دعامة لقوى المقاومة في المنطقة، والأردن الذي أحكمت "إسرائيل" قبضتها عليه، لكونه في نظرها جزءاً من أمنها القومي لاعتبارات عديدة، تبقى مصر عقدة العقد تجاه مستقبل الكيان، وأعتقد بأن نهايته لا يمكن إلا أن تمر من طريقها، أوليس رئيس مجلس الأمن القومي ووزير الخارجية الأميركية الراحل، المفكر هنري كيسنجر، مَن قال: "لا سلام من دون سوريا ولا حرب من دون مصر".