اغتيال العاروري ومحاولة استعادة قوّة الرّدع

حاولت حكومة نتنياهو باغتيال العاروري أن تعيد ترتيب "البيت الدّاخلي الإسرائيلي" في ظلّ الانقسام والتّباين بين القيادات العسكريّة والسّياسيّة في إدارة المعركة، والإخفاق الكبير في تحقيق أيّ هدف من الحرب على غزة.

  • اغتيال صالح العاروري (أرشيف).
    اغتيال صالح العاروري (أرشيف).

خرجت "إسرائيل" عن المواجهة الفعليّة في غزّة وانطلقت إلى خارج حدود المواجهة حتى وصلت إلى اختراق الضّاحية الجنوبيّة، واغتالت القائد صالح العاروري كي تبحث عن صورة نصر تستطيع من خلالها تصدير مكسب ما أمام جمهورها الإسرائيلي الذي بات مدركاً لجاهزيّة المقاومة وقدرتها على الاستمرار في المواجهة. فعليّاً ما حدث منذ اللّحظة الأولى بفعل طوفان الأقصى كان مباغتاً والحدث نفسه شكّل ضربة قاسية للمنظومة الأمنيّة والاستخباراتيّة.

يأتي هذا الاغتيال وخط التّفاوض ما زال جارياً حول صفقة تبادل الأسرى. اتّبعت "إسرائيل" سياسة الاغتيالات ضمن استراتيجيّة المواجهة بين محور المقاومة في المنطقة، وتاريخيّاً لجأت "إسرائيل" إلى الاغتيالات التي تتجاوز حدود المواجهة لأنها أداة تعمل من خلالها على تغيير التّاريخ، أو كسب مكسب ما يغيّر من معالم المرحلة السّياسيّة القائمة أو لتفادي الدّخول إلى حرب ومواجهة.

ولكنّ اغتيال القائد صالح العاروري من حماس يعتبر خروجاً حقيقيّاً عن طبيعة الحالة الاعتيادية التي يتعاطى معها الاحتلال بشكل دائم، حيث يسعى لذلك من أجل إحداث تغيير ما في التّاريخ ولتجنّب اللّجوء إلى حرب، ولكن في هذه الحالة كان واضحاً أنّ رغبة الانتقام ما زالت تخيّم على الفعل العسكريّ الإسرائيليّ من دون توقّف، ورغم الإبادة الجماعيّة والمجازر إلّا أنّ "إسرائيل" مدركة أنّه بعد إتمام الشهور الثلاثة لم تحقّق أيّاً من أهدافها العسكريّة المعلنة التي وُضعت لهذا العدوان على غزّة، وكان أهمّها القضاء على حماس أو تقويض مقوّماتها إلى جانب استعادة قوة الردع التي باتت متأكّلة بفعل طوفان الأقصى. 

وبالتّالي استمرّت "إسرائيل" في البحث عن صورة نصر لها خارج حدود المواجهة والمعركة في محاولة تصدير نصر ما، ومحاولة أخرى لاستعادة هيبة المنظومة الأمنيّة التي ضُربت بفعل طوفان الأقصى.

وقد يكون فعل الاغتيال جاء بهدف توسيع رقعة الحرب وجرّ المقاومة اللّبنانية إلى حرب واسعة بالرّغم من دور حزب الله الكبير في معادلة المواجهة الفعليّة وحرب الاستنزاف على الجبهة الشّمالية. 

حاولت حكومة نتنياهو بهذا الاغتيال أن تعيد ترتيب "البيت الدّاخلي الإسرائيلي" في ظلّ الانقسام والتّباين بين القيادات العسكريّة والسّياسيّة في إدارة المعركة، والإخفاق الكبير في تحقيق أيّ هدف، وأهمّها القضاء على حماس واستعادة الأسرى الإسرائيليّين الذي بات عبئاً حقيقيّاً بفعل احتجاجات أهالي الأسرى والتّعبير عن استيائهم من عدم قدرة "الجيش" على استعادة أبنائهم. 

يأتي اغتيال العاروري بعد الإعلان الأميركي الإسرائيلي عن انسحاب عينيّ لقواعد عسكريّة، في إشارة إلى الانتقال إلى مرحلة أخرى من المواجهة مع حماس. وفعلياً تدرك "إسرائيل" أنّ محور المقاومة ككلّ هو جزء من المعركة، لذلك في هذا الاغتيال رسالة إلى إيران، كون العاروري كان حلقة الوصل الأقوى بين طرفي المقاومة وإيران، وبالتالي هي بمثابة تصعيد على المحور ككلّ. إسرائيلياً قد تكون هذه الخطوة تعبّر بالدّرجة الأولى عن رغبة في توسيع رقعة الحرب على المستوى الإقليمي في حال تحوّلت جبهة الإسناد وحرب الاستنزاف من حزب الله إلى مواجهة كاملة. 

عن محاولة استعادة قوّة الرّدع الإسرائيليّة

في العودة إلى معركة سيف القدس عام 2021 كان هنالك تأكّل حقيقي لقوّة الرّدع الإسرائيليّة بفعل المقاومة من غزّة التي فرضها الجهاد الإسلامي في معركة مهمّة شكّلت مفارقة أيضاً في التعاطي مع قوّة الرّدع الإسرائيليّة. 

وبفعل طوفان الأقصى، شكّل هذا الهجوم نقلة في التّعاطي مع قواعد الاشتباك، وضرب قوة الرّدع الإسرائيلية والمنظومة الأمنيّة بأكملها، خصوصاً أنّ في هذا الفعل ضربة لهيبة صورة "الجيش" التي بنتها "إسرائيل" لسنوات وسوّقتها في المنطقة، وإلى جانب ذلك ضربت المنظومة الاستخباراتية التي تخلّفت عن التعامل مع معلومات سبقت الحادثة، وفي ذلك فعليّاً إحراج كبير على المستوى الدّاخلي والعامّ، خصوصاً أنّ "إسرائيل" تعاملت مع "الجيش" كحيّز هامّ في عملية بوتقة الصّهر الإسرائيليّة، والآن في هذا العدوان برز مفهوم فعل العسكرة لدى شرائح الجمهور الإسرائيلي كافة، والذي شكّل "هُويّة" (مرجعيّة) جماعيّة تتجاوز التّناقضات الدّاخليّة الإسرائيليّة. 

وفعليّاً تستعيد "إسرائيل" المعنى الحرفيّ له في عسكرة أنماط الحياة والمناحي العامة في قطاعات التّعليم والصّحة والحيّز العام، وهذا ينسحب أيضاً على الوعي الكلّي العام للجمهور الإسرائيلي.

لذلك أيضاً عندما نتحدّث عن عمق الخلافات والتّصدّعات بين القيادات السّياسيّة في الكابينيت أو مقابل القيادات العسكريّة فعلياً، يتّسع الشّرخ الحاصل حول من يأخذ مسؤوليّة الإخفاقات المتكرّرة منذ اليوم الأول من طوفان الأقصى، وكيف يمكن تجنّب "خدش" يحدث لهذا الحيّز الجامع الذي ما زال يشكّل فعلاً مشتركاً هامّاً للجمهور الإسرائيلي، رغم الإخفاقات، حيث برزت فيه أهميّة الفعل العسكري المشترك والسّعي الدّائم من أجل الحفاظ عليه كجهاز عابر للمصالح السّياسيّة ويستوعب الجميع.

الدّور اليمني وقوة الرّدع الإسرائيلية

لا شكّ أن التحرّك اليمني من قبل أنصار الله في البحر الأحمر شكّل فعلاً مهمّاً في هذا العدوان، بفعل التّهديدات اليمنيّة المستمرّة والتي ضربت مكانة "إسرائيل" الاقتصاديّة في المنطقة عبر البحر الأحمر. ما زالت "إسرائيل" فعليّاً تدفع ثمناً باهظاً لذلك، مكانته كبيرة في مجال الجغرافيا السّياسيّة والجغرافيا الاستراتيجيّة وهي فعليّاً جبهة أخرى يفرضها المحور على هذه المعركة وعلى "إسرائيل" مجابهتها. 

بطبيعة الحال تأخذ "إسرائيل" التّهديدات اليمنيّة على محمل الجدّ وترى أنّ واقعاً جديداً فُرض على الحركة الاقتصاديّة العالميّة، خصوصاً بعد استهداف ناقلة شحن بحريّة في عمق البحر، وتخشى "إسرائيل" ضرب مكانتها الاقتصاديّة في المنطقة عبر البحر الأحمر، فلا تتوقّف أهميّة البحر الأحمر الاستراتيجيّة على كونه ممرّاً ملاحيّاً مهماً فقط، وإنّما يُضاف إلى ذلك كونه معبراً رئيسيّاً لتصدير نفط الخليج إلى الأسواق العالميّة، كما أنّه المنفذ البحري لـ "إسرائيل" والرّابط الأساسي بين التّجارة الرّاغبة في الوصول إلى ما بين البحر المتوسّط والمحيط الهندي وبحر العرب، لذا فمكانته كبيرة في مجال الجغرافيا السّياسيّة والجغرافيا الاستراتيجيّة. 

بفعل طوفان الأقصى أصبحت معركة قوّة الرّدع مصيريّة تقاتل من أجلها "إسرائيل" لاستعادة ما ضرب بفعل ذلك، وقد يكون اغتيال القائد العاروري جاء من أجل بسط قوة ردع جديدة في المنطقة، ولكن يبقى القول الفصل في الميدان.