الأهمية الجيوسياسية لمضيق هرمز
مضيق هرمز يشكّل بؤرة التوتر الجيوسياسي في المنطقة، وأيّ تصعيد فيه لن يكون له منتصرون، بل ستدفع كلّ الأطراف تكلفة باهظة.
-
مضيق هرمز (أرشيف).
لا بدّ من مقاربة هذا العنوان انطلاقاً من نظريات العلاقات الدولية، والنظرية المنطقية التي يمكن إسقاطها على مضمون عنوان هذا المقال هي النظرية الواقعية، لأنّ الأهمية الجيوسياسية لمضيق هرمز، تكشف كيف أنّ هذا الممرّ الاستراتيجي يمثّل نموذجاً حياً لصراع القوى، والصراع على النفوذ في العلاقات الدولية.
تنظر النظرية الواقعية في العلاقات الدولية إلى العالم من زاوية القوة والمصلحة الوطنية والصراع الدائم من أجل البقاء وصولاً إلى الهيمنة.
في هذا الإطار، يصبح مضيق هرمز ــــــ كأحد أهم الممرات المائية في العالم ـــــ نموذجاً حيّاً لتجسيد هذه النظرية. ترى النظرية الواقعية أنّ الدولة تسعى دائماً إلى زيادة قوتها وتعزيز أمنها في بيئة عالمية فوضوية، البقاء فيها للأقوى. ويمثّل المضيق، نقطة اختناق حيوية للشحن العالمي، وتحديداً للنفط والغاز، مما يجعل هذه الممرات مراكز حيوية للصراع الجيوسياسي على النفوذ والقوة بين القوى الكبرى والإقليمية نظراً لارتباطها بالاقتصاد العالمي والأمن.
انطلاقاً من مرتكزات النظرية الواقعية، فالدولة هي الفاعل الوحيد والرئيسي في العلاقات الدولية القائمة على أساس القوة وتعظيم الأمن والمصلحة الوطنية ضمن بيئة دولية تنافسية، تهيمن عليها القوى العظمى.
لذلك فإن الولايات المتحدة الأميركية التي تطبّق في سياستها الخارجية النظرية الواقعية، ترى في مضيق هرمز وكغيره من المضائق المهمة في العالم، بعداً قومياً، بسبب حاجتها لنفط الخليج الذي يمرّ عبره، لذلك أقامت الولايات المتحدة الأميركية قواعد عسكرية مكثّفة في منطقة الخليج وعلى باب مضيق هرمز حيث قاعدة العديد في قطر، والأسطول الخامس في البحرين، هذا عدا عن وجود عدد من القطع البحرية الحربية الأميركية في مياه الخليج، لضمان استمرار تدفّق الطاقة ومنع أيّ قوة أخرى من السيطرة على هذا الممرّ.
من ناحية أخرى، تستخدم إيران الممرّ كورقة ضغط ووسيلة للردع في مواجهة خصومها، مستغلةً أهميته الاستراتيجية كشريان حيوي لصادرات الطاقة في العالم، ولإجبار أعدائها وعلى رأسهم الولايات المتحدة الأميركية على التراجع عن سياسة العقوبات والضغوط القصوى، ويشمل ذلك احتجاز سفن مرتبطة بدول معادية أو الردّ على مصادرة نفطها، مما يؤكّد استراتيجية طهران في استخدام هذا الممرّ كأداة فاعلة في صراعاتها الإقليمية، وهذا يتوافق مع السعي الواقعي للقوة والنفوذ في مواجهة الأعداء. فالتهديد بالإغلاق أو الهجمات على السفن وناقلات النفط كما حدث في العام 2022 و2023 تعكس استراتيجيات إيران الواقعية في تغيير موازين القوى لصالحها من دون الدخول في حرب شاملة. في المقابل يأتي الردّ الأميركي والغربي للحفاظ على الوضع الراهن ومنع اختلال التوازن الإقليمي.
في هذا الإطار جاءت مخاوف المجتمع الدولي من لجوء إيران إلى إغلاق المضيق كردّ فعل انتقامي على الحرب الإسرائيلية ضدّها في العام 2025، وأيضاً قيام الولايات المتحدة الأميركية بتوجيه ضربات جوية عبر طائرات شبحيّة لمنشآتها النووية، مما يعكس دينامية اللعبة الصفرية التي تركّز عليها النظرية الواقعية.
التداعيات الاقتصادية العالمية
تثبيتاً لما تقدّم، يمرّ عبر مضيق هرمز ما يقارب من 21 مليون برميل من النفط يومياً أي ما يعادل 20 إلى 30% من الإمدادات النفطية العالمية. إضافة إلى ثلث تجارة الغاز الطبيعي المسال (خاصة من قطر). هذا يجعل المضيق شرياناً حيوياً للطاقة العالمية، وأيّ تعطيل لتدفّقه يهدّد الاستقرار الاقتصادي العالمي. فالدول الاقتصادية الكبرى كالصين والهند واليابان تعتمد بشكل كبير على الطاقة التي تمرّ عبر المضيق، مما يدفعها إلى مراقبة الأوضاع في المنطقة عن كثب لحماية مصالحها. خصوصاً أنه مضيق يحتوي على نقطه ضيّقة (33) كلم مما يجعلها نقطة اختناق استراتيجية، سهلة الاستهداف عسكرياً من خلال عمليات غير متماثلة مثل (الألغام أو الهجمات غير التقليدية)، وهذا ما يزيد من أهميته الاستراتيجية، حيث يتحكّم من يسيطر عليه في تدفّق الموارد الحيوية الضرورية للاقتصاد العالمي.
إنّ وقوع إيران على الساحل الشمالي لمضيق هرمز، يمنحها القدرة على تعطيل الملاحة فيه من خلال أنواع متعدّدة من الأسلحة، ولكن حتى الآن لم تلجأ ايران إلى هكذا عمل، لأنّ التهديدات لم ترتقِ إلى تهديدات وجودية، وهي تفضّل اللجوء إلى تكتيكات المضايقة، مما يرفع أسعار النفط ويتسبّب بأزمة تضخميّة عالمية ويزيد من تكاليف النقل والتصنيع، ويبطّئ النمو الاقتصادي العالمي ويزيد من حدة التوترات الاجتماعية والسياسية، من دون التصعيد إلى مواجهة شاملة. وهذا يتوافق مع الاستراتيجيات الواقعية لاستخدام القوة بشكل محدود لتحقيق مكاسب سياسية.
التداعيات الجيوسياسية والأمنية
إنّ تزايد التوترات في منطقة الخليج، سيؤدّي بالضرورة إلى تزايد الوجود العسكري الدولي في المنطقة (الولايات المتحدة الأميركية وحلف الناتو)، مما يحوّلها إلى ساحة تنافس استراتيجي دائم، وهذا سوف يدفع الدول إلى إعادة تقييم لتحالفاتها وبناء شراكات استراتيجية جديدة لضمان أنّ الطاقة، بما في ذلك الاستثمار في مصادر بديلة للطاقة أو طرق وخطوط إمداد بديلة للنقل.
إنّ الوضع حول مضيق هرمز يعكس جوهر النظرية الواقعية في العلاقات الدولية، وبالتالي الصراع الدائم على القوة والموارد في بيئة تتسم بالفوضوية وغياب سلطة مركزية موثوقة. فالدول تتصرّف وفقاً لمصالحها القومية الضيّقة، وتستخدم كلّ الأدوات المتاحة من اقتصادية وعسكرية وسياسية لتعزيز أمنها ونفوذها. فإيران تستخدم الممرّ كأداة للضغط والردع في مواجهة تهديداتها الأمنية والمصالح المعارضة لها. أما الولايات المتحدة الأميركية وحلفاؤها فيحاولون الحفاظ على الوضع الراهن وضمان تدفّق الطاقة لحماية اقتصاداتهم ومصالحهم الاستراتيجية. أما الدول الأخرى مثل الصين والهند واليابان والدول الأوروبية فتراقب عن كثب وتعمل على حماية مصالحها، مما قد يؤدّي إلى تحالفات جديدة أو صراعات إضافية.
أمام ما تقدّم، يبقى المضيق بؤرة التوتر الجيوسياسي في المنطقة، وأيّ تصعيد فيه لن يكون له منتصرون، بل ستدفع كلّ الأطراف تكلفة باهظة.
فقط من خلال فهم هذه الديناميكيات الواقعية يمكن تحليل المستقبل المتوقّع للمضيق والاستعداد لتطوّراته المحتملة.