الإخفاق الاستخباراتي... أبرز عنوان لنجاح "طوفان الأقصى"

كيف نجحت القيادة العسكرية للمقاومة، تحديداً كتاب القسام بشخص القائد العام لكتائب القسّام محمد الضيف، في تضليل العدو بحقيقة نياتها؟

  • عملية طوفان الأقصى.
    عملية طوفان الأقصى.

توقيت عملية طوفان الأقصى وحجم القوة النارية المستخدمة في الضربة الأولى وقرار استتباعها بهجوم بري والمناورة الهجومية التي تمّ تنفيذها من خلال دخول المقاومين على الأرض واستخدام الطائرات الشراعية لإنزال قوات من الجو والدّفع بقوات خاصة من البحر، كلّها عناصر ساهمت في نجاح المباغتة وإدخال قيادة العدو العسكرية وجنوده في حال من الصدمة الاستراتيجية والتخبّط غير المسبوق وفقدان إرادة القتال. 

لكن خلف هذه النجاحات كلّها سؤال مركزي: كيف نجحت القيادة العسكرية للمقاومة، تحديداً كتاب القسام بشخص القائد العام لكتائب القسّام محمد الضيف، في تضليل العدو بحقيقة نياتها، وخصوصاً أنّه يصعب إخفاء تحضيرات ضخمة تتطلّبها عملية من هذا النوع؟ 

بالإمكان طرح السؤال بصورة معاكسة ليصبح كالتالي: كيف أخفق مجتمع الاستخبارات الصهيوني في إصدار أيّ تحذير أو تقييم يشير إلى احتمال إقدام المقاومة على شنّ عملية بهذه الضّخامة، مستفيداً من قدراته الاستعلامية المتنوّعة والمتطوّرة والمعقّدة التي تسمح له بالإحاطة المعلوماتية بأدق تفاصيل الميدان في غزة؟ 

مما لا شكّ فيه أنّ إخفاق العدو لم يكن على مستوى جمع المعلومات، إنّما على مستوى التحليل الاستخباراتي وتقدير الموقف، فكيف حصل ذلك؟

الإحاطة المعلوماتية الدقيقة بمسرح غزة

يستخدم "جيش" الاحتلال وسائط جمع معلوماتي منوّعة على طول حدود قطاع غزة، تعتمد على عناصر تكنولوجية معقّدة في سياق جهد استعلامي يهدف إلى الإحاطة الشاملة بمسرح العمليات. 

عام 2017، بدأ الاحتلال ببناء جدار حدودي مع قطاع غزة بكلفة بلغت نحو مليار ومئتي مليون دولار، إذ استغرقت الأعمال فيه ما يزيد على ثلاث سنوات. يرتفع الجدار الحديدي 6 أمتار فوق الأرض، إذ تمّ توزيع عشرات أبراج المراقبة على امتداده وتزويده بكاميرات مراقبة فائقة الدقّة وبأجهزة الرّصد والإنذار والرّادارات والمجسّات وأنظمة كشف التسلّل، وهو يدار عبر غرف مراقبة وعمليات لمواجهة أي محاولة اختراق في الوقت الحقيقي.

أما تحت الأرض، فيمتدّ جدار إسمنتي على مسافة تزيد على 60 كيلومتراً بعمق عشرات الأمتار، أعدّ لإعاقة الأنفاق الهجومية الفلسطينية، وتمّ تجهيزه بأجهزة استشعار وكاميرات للكشف عن أي عمليات حفر أو محاولات اختراق تحت الأرض

 وتشمل وسائط الجمع المركبات الجوية غير المأهولة (المسيرات) المجهّزة بوسائط رؤية ليليلة ونهارية وأجهزة استشعار لرصد وجمع المعلومات في الوقت الحقيقي عن الأنشطة في قطاع غزة. 

وتعتمد الاستخبارات الصهيونية على مصادر بشرية تشمل شبكة واسعة من العملاء الذين يتمّ تجنيدهم لجمع المعلومات من داخل القطاع، جزء منهم يتمّ استغلال حاجتهم إلى العمل داخل الخط الأخضر. 

تضاف إلى ذلك جهود الاستخبارات الإلكترونية التي تشمل اعتراض الاتّصالات أو مراقبة الإشارات الإلكترونية وجهود الاستخبارات السيبرانية، إذ يستفيد العدو من قدراته المتقدّمة في هذا المجال لجمع معلومات عن التهديدات المحتملة، ومن المراقبة عبر الأقمار الصناعية لرصد التحرّكات واسعة النطاق والتغيرات في البنية التحتيّة داخل قطاع غزة.

يصدر عن كل وسائط الجمع هذه كمّ هائل من المعلومات الميدانية الأولية التي لا تتحقّق الاستفادة الفعليّة منها من دون إخضاعها للتّحليل الاستخباري، إذ تمرّ بمراحل متعدّدة من التّصفية والتّنظيم والتّصنيف باستخدام أنظمة حاسوب وبرمجيات مخصّصة لتسهيل هذه العملية تمهيداً لتحليل ناتجها من زوايا مختلفة وتقييمها لفهم السّياق الأوسع المتّصل بها والتوصّل إلى استنتاجات شاملة تستخدم لإصدار توصيات لمساعدة المستويات العسكريّة والسّياسيّة في تقدير الموقف ورفد عملية صنع القرار.

محدوديّة التّحليل الاستخباراتي

على المستوى الذّهني لدى محلّلي الاستخبارات بشكل عام، تساهم المعتقدات والافتراضات والمفاهيم والمعلومات المسترجعة من الذّاكرة في تشكيل نماذج عقلية توجّه عملية التحليل الاستخباراتي وتساعد على استيعاب المعلومات الجديدة، بحيث يشكّل كل ما يعتقد المحلّل أنّه يعرفه عن موضوع ما عدسة يدرك من خلالها العالم ويتعاطى وفقها مع معالجة المعلومات الواردة. 

هكذا تنشأ، بحسب مؤلف كتاب "سيكولوجيا التحليل الاستخباراتي" ريتشاردز جيه هوير جونيور، "التحيّزات المعرفيّة" التي لا تعدّ نتاجاً لانعدام الموضوعية فحسب، إنّما تنبع أيضاً من طبيعة العمليات العقليّة البشريّة، إذ يصعب أو حتى يستحيل التغلّب عليها. 

يقع محلّلو الاستخبارات ضحيّة أشكال عديدة من هذه التحيّزات، يعود بعضها إلى القصور في فهم الجهة التي يتعلّق بها التّحليل (عقيدتها وثقافتها وتجربتها وتصوراتها وأساليب عملها وحساباتها الاستراتيجية)، أو تكون تنظيميّة ناجمة عن هيكليّة وأسلوب عمل المؤسّسة التي يتبع لها محلّل الاستخبارات، أو رغبويّة مصلحيّة تؤدّي إلى إسقاط الوقائع في قوالب عقليّة تتلاءم مع التّمنيات أو مع ما يرغب المستوى الأعلى في سماعه بعيداً من الوقائع. 

في كثير من الحالات، يكون الفشل الاستخباراتي ناتجاً من خلل تحليلي، وليس من قصور في جمع المعلومات، إذ يتمّ استبعاد المعلومات الجيّدة بسبب إخفاقها في ملاءمة نموذج عقلي معيّن، وهذا تماماً ما أدى إلى الإخفاق الاستخباراتي الاستراتيجي الذي وقع العدو ضحيّته خلال التحضيرات التي سبقت عملية "طوفان الأقصى".

المقاومة تستبق طوفان الأقصى بعملية تضليل ناجحة للعدو

ساهم توفر فائض معلوماتي عن كل ما يدور في القطاع، وعن الاستحكامات الدّفاعية المعقّدة على حدود قطاع غزة وما سمّاه الاحتلال عملية "السهم الواقي" في أيار/مايو من العام الماضي حين اغتال 6 قياديين عسكريين رفيعي المستوى من حركة الجهاد الإسلامي من دون مشاركة حركة حماس بفعاليّة في المواجهة، في التّأسيس لنموذج عقليّ في ذهن استخبارات العدو يقوم على افتراض خاطئ بأن حركة حماس مرتدعة ولا ترغب في المواجهة حالياً.

من الشواهد على ذلك ما كتبه ناحوم بارنيا -كاتب عمود مخضرم في صحيفة "يديعوت أحرونوت" الإسرائيلية– عن أنّ ثمّة "سوء تقدير فاضحاً لأجهزة الاستخبارات الإسرائيلية، إذ كانت حماس تجري ما بدا كأنّه مناورات تدريبية على طول حدود غزة مباشرة أمام أعين "الجيش"، ولكن يبدو أن المخابرات فسّرت هذه التحرّكات بأنّها مجرد محاولة من حماس للعبث وإثارة قلق القادة قليلاً، وليست مقدّمة لهجوم.

 لقد كان التّفسير الاستخباراتي هو أنهم كانوا يتدربون على "شيء لن يجرؤوا على القيام به أبداً". هكذا إذاً، جرى جانب من تحضيرات "طوفان الأقصى"، بحسب الصحافي الصهيوني، تحت مراقبة "الجيش" الإسرائيلي، لكنّ الخلل كان على مستوى تحليل هذه الاستعدادات وقراءتها. 

وقع المستوى الاستخباراتي لدى العدو ضحيّة تحيّزات معرفيّة منهجيّة، إذ تمّ استيعاب المعلومات عن النشاطات العسكرية لحركة حماس ضمن نموذج عقليّ يفترض بناء على تفكير رغبوي يتلاقى مع تقييم المستوى السّياسي في الكيان الذي يعتبر أنه نجح في تعزيز الرّدع مع غزّة، وكذلك مع تقييم المستوى العسكري الذي لا يرغب في خوض مواجهة في ظلِّ ظروف الانقسام الداخلي التي أثّرت في الجاهزية القتاليّة لـ"الجيش" وإدراكه محدودية الخيارات العسكرية وارتفاع كلفة أي مواجهة في ظلِّ تعاظم قدرات المقاومة في غزة. 

ومما ساهم في إنجاح العملية التّضليلية، ما كشفه أيضاً المحلّل العسكري في صحيفة "يديعوت أحرونوت" يوسي يهوشواع عن أنّ حركة حماس نفّذت خدعة منذ أسبوعين من خلال تنظيم تظاهرات عند السّياج الأمني المحيط بالقطاع أوصى المستوى الاستخباراتي على خلفيتها بالسّماح بدخول العمّال من قطاع غزة في إجراء لتخفيف الحصار المفروض على القطاع، فأنهت الحركة التحرّكات، وساهم ذلك في تعزيز قناعة القيادة العسكرية بتقييم المستوى السياسي بأن حماس لا تريد الحرب.  

الغياب المطلق للإنذار الاستراتيجي بشأن العملية أكّده المحلّل العسكري عاموس هرئيل لصحيفة "هآرتس"، قائلاً إنّ القيادة الأمنية والسياسية في الكيان نامت بين يومي الجمعة والسبت (عشية تنفيذ العملية) مطمئنّة. 

في النتيجة، إخفاق العدو استخباراتي في الدرجة الأولى، إذ كان السّبب الرئيسي في تحقيق نجاحات مضاعفة لعملية "طوفان الأقصى" فاقت المخطّط لها. 

ختاماً، يرى الخبير العسكري والفيلسوف الصّيني سان تزو في كتاب "فن الحرب" الشهير أنَّ "الحرب تعتمد على الخدعة. لذا، عندما نكون قادرين على الهجوم، علينا أن نبدو غير قادرين على ذلك. وعندما نستخدم قواتنا، علينا أن نظهر خاملين"، وهذا تماماً ما طبّقته حماس بنجاح منقطع النظير.

 

 

في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 أعلنت كتائب القسام معركة "طوفان الأقصى"، فاقتحمت المستوطنات الإسرائيلية في غلاف غزة، وأسرت جنوداً ومستوطنين إسرائيليين. قامت "إسرائيل" بعدها بحملة انتقام وحشية ضد القطاع، في عدوانٍ قتل وأصاب عشرات الآلاف من الفلسطينيين.