المجازر في السّاحل السّوري: طائفية ممنهجة أم تدخّلات جيوسياسية؟
الردود الدولية المُتخاذلة على المجازر في سوريا – باستثناء إداناتٍ شكلية – تُعيد إنتاج المشهد نفسه الذي شهده العالم خلال مجزرة سربرنيتشا. الصمت هنا ليس حياداً، بل هو تواطؤٌ غير مُعلن.
-
ماذا يحدث في سوريا؟
في مشاهدَ تكاد تكون مُتكررةً من مأساة الحرب السورية، تعود فصول العنف الطائفي لتضرب مناطق السّاحل السوري، حيث تُرتكب مجازر مروّعة بحق مدنيين علويين ومسيحيين، تاركةً وراءها أسئلةً عن دوافعها الحقيقية وارتباطاتها الإقليمية. هذه الأحداث ليست مجرد صراعٍ داخلي، بل تُشير إلى تحوّلات عميقة في بنية الحكم الجديد، وإلى أدوار خارجية تسعى لتحقيق مكاسب على حساب دماء السوريين.
مشاهد الدّم: انتقام طائفي أم هندسة ديموغرافية؟
تتكشف في قرى السّاحل السوري مشاهد إعدامات ميدانية وتهجير قسري، تستهدف بشكلٍ واضح المدنيين العُزّل من العلويين والمسيحيين، وفقاً لتقارير محلية ودولية. هذه الأعمال لا تُبررها أي ذرائع عسكرية، خاصةً أن الضحايا – بحسب أسماء الشهداء – لم يكونوا طرفاً في الصراع المسلح. التفسير الأقرب هنا هو أنَّ هذه المجازر تُمارس كأداة لـإعادة رسم الخريطة الديموغرافية، عبر تفريغ مناطقَ من مكوناتها التاريخية، تمهيداً لفرض سيطرةٍ جديدة تُحاكي مصالح أطراف إقليمية.
إدارة الجولاني: من "وزارة الدفاع" إلى وصاية الميليشيات
أثار تشكيل ما يُسمى "وزارة الدفاع" في الإدارة الجديدة، والتي ضمّت جماعات مسلّحة ذات سجل إجرامي خلال سنوات الحرب، تساؤلاتٍ عن توجهات الحكم الجديد. يبدو أنَّ هذه الوزارة، برغم شعاراتها الوحدوية، تكرّس نهجاً طائفياً يقوم على الانتقام الممنهج، بدلاً من بناء دولةٍ تضمّ كل السوريين. الأكثر إشكاليةً هو تحوّل هذه الجماعات إلى أداة قمعية تُنفذ أجندات خارجية، تحت غطاء محاربة "الإرهاب".
السياق الإقليمي: من يربح من تمزيق سوريا؟
لا يمكن فصل الأحداث الدامية في السّاحل عن الصراعات الجيوسياسية الأوسع:
- الدور التركي: تُشير تحركات أنقرة إلى سعيها لتعزيز نفوذها في شمال سوريا عبر دعم جماعات مرتبطة بها، مع إضعاف التماسك الاجتماعي في مناطقَ حيوية.
- المشروع الإسرائيلي: يجد الكيان الصهيوني في التفتيت الطائفي لسوريا فرصةً لضمان استمرار ضعف الدولة السورية، وتوسيع عملياته العسكرية في الجنوب السوري تحت ذريعة "مواجهة التهديدات".
- صمت دولي: يُفاقم غياب الضغط الدولي من الأزمة، إذ تُعامَل المجازر كجزءٍ من "حرب أهلية"، بينما هي في الحقيقة نتاج تدخلاتٍ مخططة.
الجنوب السّوري: الاحتلال الإسرائيلي وتكريس التقسيم
توازياً مع أحداث السّاحل، يتواصل التوغّل الإسرائيلي في الجنوب السوري عبر قصفٍ متكرر ومنع إعادة الإعمار، في محاولةٍ لـتحويل المنطقة إلى أرضٍ مُحايدة تخدم أمن الكيان الصهيوني. هذا التوغّل ليس منفصلًا عن مجازر السّاحل، فكلاهما يعملان على تقويض السيادة السورية، وتمهيد الطريق لـسوريا مُقسَّمة تُدار من قِبل قوى محلية خاضعة لمصالح خارجية.
دمشق الجديدة: استقرار أم استمرار للتطهير؟
يُطرح سؤال جوهري: ما مصلحة الإدارة الجديدة في دمشق من استهداف مدنيين عُزّل؟ الإجابة قد تكمن في:
1. إضعاف الخصوم السياسيين عبر تصفية كياناتهم الديموغرافية.
2. تكريس الهيمنة الطائفية لجماعات معينة تحت غطاء "الحكم المستقر".
3. إرضاء حلفاء إقليميين يدفعون نحو تغييرات ديموغرافية تخدم مشاريعهم.
لكنَّ هذا النهج يُنتج تناقضاً صارخاً: فبدلاً من بناء شرعيةٍ عبر الإجماع الوطني، تُصبح الإدارة الجديدة رهينةً لتحالفات هشّة مع جماعات إجرامية، وتفقد أيَّ فرصة لمصالحةٍ حقيقية.
المجتمع الدولي بين الصمت والتواطؤ
الردود الدولية المُتخاذلة على المجازر – باستثناء إداناتٍ شكلية – تُعيد إنتاج المشهد نفسه الذي شهده العالم خلال مجزرة سربرنيتشا. الصمت هنا ليس حياداً، بل هو تواطؤٌ غير مُعلن مع هندسةٍ جديدة للشرق الأوسط، حيث تُصبح سوريا نموذجاً لدولٍ مُفككة، تُدار من خلال وصاياتٍ طائفية وعسكرية.
الخلاصة: هل من مخرجٍ من هذه المأساة؟
المشهد السوري اليوم يعكس فشلاً مزدوجاً:
- فشل النخب المحلية في تجاوز الانقسامات لبناء مشروع وطني شامل.
- فشل المجتمع الدولي في تطبيق مبادئ العدالة وحماية المدنيين.
السؤال الأصعب: هل يمكن تحقيق استقرارٍ من دون كسر حلقة الانتقام الطائفي؟ الإجابة تبدأ بالاعتراف بأنَّ دماء العلويين والمسيحيين والسُّنة تحمل اللون نفسه، وأنَّ أيَّ "نصر" يُبنى على الجماجم سيكون دماراً للجميع.
الواقع أنَّ سوريا تُذكّر العالم بأنَّ الحرب ليست حلاً، بل هي جحيمٌ لا يُطفِئ نارها إلا العدل.