الوساطة العربية لوقف الحرب ليست قيدًا أو بديلاً عن المواقف القومية

كي تشعر "إسرائيل"، ومن خلفها أميركا والاتحاد الأوروبي، بقوة الموقف العربي، يجب أن يروا كلامًا ومواقف صارمة مختلفة، غير صيغة رفض التهجير من غزة، الذي يرفضه شعبنا أساسًا.

  • مشاهد من الحرب على غزة (أرشيف).
    مشاهد من الحرب على غزة (أرشيف).

المتابع لجولات المفاوضات المستمرة والمتعاقبة يستشف بأن الموقف الإسرائيلي لا تغيير فيه، رغم تغريدات ترامب التي أفقدها نتنياهو قيمتها وحوله فيها إلى رئيس فاشل، وإن شئت فقل حوله لبايدن 2، حين كرر ترامب قرب التوصل لإنهاء الحرب على غزة، لكن صحيفة نيويورك تايمز كشفت عن تعمد المجرم نتنياهو التسويف وإطالة أمد مفاوضات وقف العدوان أو الوصول لصفقة تبادل أسرى الجانبين، لأسباب أوضحتها الصحيفة وهي الحفاظ على الائتلاف اليميني الحاكم في "إسرائيل" على حساب معاناة الشعب الفلسطيني وذوي الأسرى الصهاينة كذلك. والمؤشرات واضحة أن ترامب لم يتمكن من تنفيذ وعوده للقادة العرب: الأمير محمد بن سلمان، والأمير القطري تميم بن حمد، والأمير محمد بن زايد، بعد أخذه للجزية من دون أن يرف له رمش حياء من السخاء والكرم الذي قدمه له هؤلاء القادة الثلاثة، والذي وصل إلى "750 مليارًا كصفقات وهمية، وإن شئت فقل خاوة، لأسباب منها دعم الاقتصاد الأميركي. ومع ذلك تتواصل المجازر والإبادة الجماعية في غزة تحت بصر وسمع رؤساء وملوك وأمراء العالم العربي والإسلامي، ومؤسسات جامعة الدول العربية، ومنظمة التعاون الإسلامي، والاتحاد المغاربي، ومجلس التعاون الخليجي.

وبات واضحًا أن كل ما يريده نتنياهو من هذه الجولة هو تشريع عمليات القتل لأبناء شعبنا على بوابات مؤسسة غزة الدموية، وكذلك تشريع احتلال العدو لأكثر من 40% من مساحة غزة، وكذلك تشريع غيتو كاتس "معسكر الاعتقال الجماعي" على غرار معسكر أوشفيتس النازي، على أرض رفح تمهيدًا لطرد الناس من غزة، وهذا ما لم يقبل به أبناء شعبنا.

والسؤال: هل حان الوقت لموقف قومي عربي صارم "مصري سعودي قطري إماراتي" على وجه التحديد؟

إن الحرص على دور الوساطة يجب ألا يكون على حساب المواقف القومية ومصالح الأمن القومي العربي، أو قيدًا لمنع الدول العربية من التلويح أو اتخاذ إجراءات حقيقية من مصر والسعودية وقطر والإمارات، من دون الدخول في صراع مسلح حتى لا نزعج أحدًا، وخاصة أن الجانب الصهيوني على مدى واحد وعشرين شهرًا لم يحترم الدور المصري ولا القطري، ويريد سلامًا مجانيًا مع السعودية على الطريقة الإماراتية، وهذا ما ترفضه قيادة المملكة حتى الآن. فمصر هي أكبر دول العالم العربي وتجاور غزة، مسلخ القتل والإبادة الجماعية على يد "إسرائيل"، ولديها حدود تاريخية طويلة مع فلسطين، وأعلنت تكرارًا على لسان قادتها الحاليين والسابقين بأن غزة أمن قومي مصري. أما السعودية، فهي حامية الحرمين الشريفين وعنوان قبلة الأمة روحيًا، وباتت تُشكل ثقلًا اقتصاديًا وسياسيًا واعدًا، وهي أهم حليف اقتصادي لواشنطن منذ العام 1945. والأمر ينطبق على الإمارات وقطر التي تستضيف أهم وأخطر القواعد الأميركية، وأهم الحلفاء الاستراتيجيين للولايات المتحدة، إضافة إلى كون الإمارات ترتبط بعلاقات دبلوماسية مع "إسرائيل".

ناهيك عن أن الوساطة التي تقوم بها كل من مصر وقطر فشلت في وقف العدوان على غزة منذ الثامن من أكتوبر 2023، وعلى الأقل يمكن لمصر أن تفعل ما يفعله الوسيط الأميركي المسجل كوسيط كذبًا، لأنه يتبنى الموقف الإسرائيلي سياسيًا وأمنيًا ودعمًا عسكريًا غير محدود، ويقوم بالضغط على المقاومة وعلى مصر وقطر  في الوقت نفسه.

فمصر والسعودية وقطر والإمارات مدعوون اليوم إلى تغيير المواقف من "إسرائيل" بسبب جرائمها في غزة، فلم يعد مجديًا التمسك بالمواقف السابقة، ولم يعد كافيًا تكرار موقف رفض التهجير، فلم يعد يغطي الموقف المصري والعربي، فالأمر أكثر خطورة، بل تجاوزت "إسرائيل" كل المعقول والخطوط الحمر لمصر والسعودية، وألحقت بالشعب الفلسطيني وبالأمن القومي العربي أفدح الأضرار، وبدت مطامعها واضحة ليست على مستوى فلسطين، بل تجاوزتها إلى سوريا ولبنان وإيران واليمن، ومن يعلم ما الذي تخبئه الأيام من مشاريع ضد مصر والسعودية ودول الخليج؟

لذلك يجب أن تتغير المواقف العربية وبشكل عاجل وقبل فوات الأوان من "إسرائيل"، إلى جانب دور القيام بالوساطة أو إسداء النصح اللفظي من بقية دول العالم العربي.

مرة أخرى، وبصرف النظر عن مواقفكم من حماس والمقاومة في غزة، أو من محور المقاومة بشكل عام، فالعداء لم يكن إلا لـ"إسرائيل" ومشاريع التوسع الأميركي، وليس لأي قطر عربي قريب أو بعيد، وهذا ما أثبتته الأيام والوقائع منذ السابع من أكتوبر 2023. فالمقاومة تتصدى لـ"إسرائيل" وشكلت الخندق المتقدم للأمة في مواجهة المشاريع الصهيونية، وتدفع ثمن ذلك نيابة عنكم، وهذا ما سيسجله التاريخ شئتم أم أبيتم.

منذ العدوان على غزة برزت المواقف والاصطفافات الدولية والإقليمية ما بين مساند لـ"إسرائيل" بالمال والسلاح والدعم السياسي، ممثلًا بمواقف الإدارة الأميركية السابقة والحالية، ومعها دول أوروبا، وفي مقدمتهم: ألمانيا وإيطاليا وبريطانيا وفرنسا وإسبانيا وكندا... حيث قدمت لـ"إسرائيل" كل ما يلزم من الرصاصة حتى طائرات F35 وصواريخ MQ الخارقة لتحصينات بيوت الزينكو للآمنين في غزة، فضلاً عن مليارات الدولارات لدعم الحرب على غزة. في المقابل تمثلت مواقف الدول العربية، أعانها الله، في الشجب والاستنكار. ومرة أخرى، القضية الآن تجاوزت هذه التفاصيل الصغيرة، ولم يعد مجديًا الكلام عن موقف المقاومة منكم أو عن موقفكم من المقاومة في غزة، ف"إسرائيل" تعلن أنها ترسم ملامح شرق أوسط جديد، تستهين فيه بالدول العربية، وفي مقدمتها مصر والسعودية وتركيا وباكستان، التي تتوجه أنظار العدو الصهيوني لتصفية الحساب معهما في المراحل المقبلة بعد أن تتأكد من كسرها لشوكة إيران إن نجحت في ذلك.

السادة قادة مصر والسعودية وقطر والإمارات، أنتم مدعوون لتغيير مواقفكم، على الأقل أسوة بإسبانيا وفرنسا وعدد من دول الاتحاد الأوروبي التي اتخذ بعضها إجراءات عقابية ضد "إسرائيل". فمتى سنسمع عن مواقف أكثر جدية منكم تهز صناع القرار في إسرائيل لوقف عدوانها على شعب فلسطين؟ مع الأخذ بالاعتبار أن الروابط المشتركة بين أمريكا و"إسرائيل" على المستوى الديني واللغوي والجغرافيا السياسية أقل بكثير من روابط الشعب الفلسطيني مع مصر والسعودية وقطر والإمارات، من حيث الدين واللغة والجغرافيا والأمن القومي المشترك، وميثاق الدفاع المشترك لجامعة الدول العربية، مقابل معاهدة التحالف "أورشاليم" بين أميركا و"إسرائيل".

ما شجع "إسرائيل" على جرائمها هو أنها فهمت حدود موقفكم، فلم تُقم له وزنًا، واعتبرت أن هذه التصريحات للاستهلاك المحلي، ورسائل لشعوبكم، وليس ضدها. بل تبجح المتحدثون باسمها أكثر من مرة، مثل "أفيخاي درعي"، بأن ما يجري في غزة هو بموافقة عربية مسبقة. وطبعًا نحن لا نصدقه ونعتبره كذبًا وصبًا للزيت على النار بهدف إحداث شروخ وتبرير ما تقوم به من جرائم ضد الأبرياء في غزة على مدى واحد وعشرين شهرًا.

ولكن لكي تشعر "إسرائيل"، ومن خلفها أميركا والاتحاد الأوروبي، بقوة الموقف العربي، يجب أن يروا كلامًا ومواقف صارمة مختلفة، غير صيغة رفض التهجير من غزة، الذي يرفضه شعبنا أساسًا.

"إسرائيل" تفهم أن تحذيرات البعض بأن ما تقوم به سيهدد أمن المنطقة واستقرارها هو كلام بلا رصيد بتاتًا، لأنها، وللأسف، تدرك بأنه لا توجد دول حتى الآن في المنطقة قادرة على تهديد استقرار وأمن "إسرائيل"، كما أنها تفهم مصطلح استقرار المنطقة بأنه استقرار أمنها هي، وليس أمنكم أنتم، لأن أداة القياس هو أمن "إسرائيل" ومصالح أميركا، ليس أكثر.

ومن هنا، لا بد من تغيير اللغة الرسمية لدى مصر والسعودية ودول الخليج، مع العلم أننا لا ندعوكم إلى خوض الحرب، حفظ الله بلادكم، والأمر متروك لمصالحكم وأمنكم القومي، الذي سيجد نفسه مكسور الجناح أمام الغطرسة الإسرائيلية الأميركية. ودرس سوريا الأخير هو رسالة لمصر والسعودية وتركيا وباكستان النووية. فإلى متى الصمت على المذبحة في غزة التي تشاهدونها صباح مساء؟

المطلوب يا سادة، ولأنكم تملكون أوراقًا مهمة يمكن استخدامها من دون دفع أثمان باهظة، تؤهلكم لممارسة ضغوط حقيقية على "إسرائيل" وأميركا والاتحاد الأوروبي، والتلويح بخيارات أخرى غير دور الوساطة المحايدة، التي اعتبرها نتنياهو مخدرًا طبيعيًا لمصر وقطر طيلة فترة الحرب، ما يتطلب التلويح بخيارات أخرى من قبيل:

على الصعيد المصري:

التلويح بتجميد العمل باتفاق كامب ديفيد مع "إسرائيل".

إعادة نشر القوات المصرية للحفاظ على الأمن على طول الشريط الحدودي مع فلسطين لحماية الأمن المصري.

وقف العمل بالملاحق الأمنية بين مصر و "إسرائيل".

استخدام ورقة قنوات الملاحة العربية ضد "إسرائيل"، ومنها قناة السويس كما يفعل اليمن في البحر الأحمر.

إعادة النظر في الاتفاقيات الأمنية مع أميركا والدول الداعمة لـ"إسرائيل" في حرب الإبادة على غزة.

فتح معبر رفح، وإدخال المساعدات، وخلق أزمة دولية حول ذلك مع "إسرائيل".

أما على الصعيد السعودي والقطري والإماراتي:

ممارسة الضغط على الحليف الأميركي من خلال ربط تنفيذ الصفقات التي بلغت 750 مليار دولار مع ترامب بوقف العدوان على غزة وإعادة الإعمار.

منع الطائرات الإسرائيلية من التحليق في أجواء دولهم أو استخدام مطاراتهم للطائرات التي تعبرها إلى "إسرائيل"، أسوة بما فعله الجيش اليمني في الملاحة البحرية بالبحر الأحمر.

الإعلان صراحة عن تحميل الولايات المتحدة الأميركية المسؤولية عن استمرار الإبادة في غزة.

ورفعًا للحرج: نقترح عقد جلسة مشتركة للجامعة العربية ومنظمة التعاون الإسلامي لإقرار هذه الإجراءات أو غيرها، لرفع الحرج عن حلفاء أميركا في تعبير جمعي عن ملل شعوب تلك الدول وغيرها مما يجري من جرائم في غزة. وثانيًا، لأن مصر دولة كبيرة وقطب كبير في العالم العربي، وينبغي ألّا يقتصر دورها وتأثيرها السياسي عند هذا الحد الذي  لم يعد يليق بمصر، في ظل المتغيرات الكبيرة في المنطقة .

 أما السعودية، فهي عنوان قبلة الأمة وكلمة التوحيد التي تصدح من البيت العتيق صباح مساء. وينطبق الأمر على قطر والإمارات اللتين تملكان التأثير الاقتصادي على السوق الدولية، والأكثر تأثيرًا في السوق الأميركية.