بريطانيا و"حرب الأشباح": تفكيك خطاب الهيمنة في تقرير ميلي كوك

تفرض الوقائع الجيوسياسية اليوم منطقاً مغايراً، ليس التصعيد هو السبيل للحماية، بل بناء نظم قانونية وأمنية عادلة، والاحتكام إلى المؤسسات.

  • الادعاء بأن بريطانيا
    الادعاء بأن بريطانيا "في حالة حرب" يمثل محاولة لإعادة تعريف العدوان خارج الأطر القانونية.

في إطار مراجعة السياسات الدفاعية والأمنية للمملكة المتحدة لعام 2025، أصدرت مستشارة الأمن القومي السابقة ميلي كوك (Milli Cooke) تقريراً بعنوان: "الردع في القرن الحادي والعشرين: إستعادة الجاهزية البريطانية في عصر التهديدات الهجينة"، جاء فيه توصيف صادم: "بريطانيا في حالة حرب فعلية مع روسيا"، رغم عدم وجود قتال أو إعلان رسمي للحرب.

هذا التصريح الخطير يثير تساؤلات جوهرية حول ماهية التهديد، ومفهوم الحرب، والغاية السياسية من عسكرة الخطاب، خصوصاً في سياق هشّ تتقاطع فيه القوانين الدولية، والتوازنات الأوروبية، وصراعات النفوذ بعد البريكست.

أولاً. الإطار القانوني: خرق لحدود تعريف العدوان في القانون الدولي

إن الادعاء بأن بريطانيا "في حالة حرب" نتيجة لهجمات سيبرانية أو حملات تضليل أو عمليات تجسس، يمثل محاولة لإعادة تعريف العدوان خارج الأطر القانونية المعترف بها، فميثاق الأمم المتحدة (1945)، في مادته 51، يربط استخدام القوة بحق الدفاع عن النفس فقط في حال وقوع "هجوم مسلح". ولم تُسجل حتى اللحظة أي ضربة عسكرية روسية ضد بريطانيا.

كما أن دليل تالين 2.0، المرجع في القانون السيبراني، يُقرّ بأن الهجمات الرقمية لا تُعد عدواناً إلا إذا أحدثت دماراً يماثل الضرر الناتج عن سلاح تقليدي، وهو ما لم يُثبت في الحالة البريطانية.

يضاف إلى ما سبق، مبدأ مسؤولية الدولة في القانون الدولي، الذي يشترط إثبات علاقة مباشرة بين الفعل والسلطة الرسمية للدولة المتهمة، وهو ما غاب تماماً في المزاعم البريطانية ضد روسيا.

وعليه فان النتيجة القانونية لهذا "الخطاب" البريطاني هو سعيه لفرض سياق عدائي دائم يشرعن عسكرة الفضاء الرقمي، متجاهلاً المبادئ القانونية التي تنظم استخدام القوة، ويهدد بنسف هيكلية القانون الدولي القائمة على التدرج، الإثبات، والتناسب.

ثانياً. البعد السياسي: صناعة "الخطر الروسي ـــ الروسوفوبيا" كأداة لإستعادة الدور القيادي

بعيداً عن الاعتبارات القانونية، يظهر التقرير كوثيقة إعادة تموضع سياسي في مرحلة ما بعد البريكست، تقوم على الإستفادة من "الخطر الروسي ـــ الروسوفوبيا" لتحقيق أهداف داخلية وخارجية:

1 ـــ داخلياً: يسعى الخطاب الأمني المتشدد إلى حشد الشعب البريطاني خلف الحكومة رغم تراجع شعبيتها بسبب الأزمات الإقتصادية وتآكل الثقة في النخبة السياسية، "فالعدو الخارجي" هو دائماً صمّام أمان للسلطة.

2 ـــ خارجياً: تحاول بريطانيا إثبات أنها لا تزال قوة قيادية على المستوى الأوروبي رغم خروجها من الإتحاد الأوروبي، وذلك عبر التحالفات الأمنية الثنائية (مع دول البلطيق، النرويج، بولندا...)، وإعادة التموضع في الناتو كقوة دفع ضد روسيا.

3 ـــ رمزياً: تتقمص بريطانيا دور "حامي الديمقراطيات الغربية" في مواجهة "الاستبداد الشرقي"، في خطاب يُذكّر بعقود الحرب الباردة، ويُوظّف كأداة لإستعادة النفوذ في بيئة أوروبية متغيرة.

4 ـــ المفارقة: التقرير لا يُركّز على ما "تفعل" روسيا فحسب (وفقاً لتصورات الكاتبة)، بل يستخدمها لبناء تصور جديد عن ما "يجب أن تكونه" بريطانيا، دولة عسكرية تقود الردع القاري، وتوجه الأمن الأوروبي من خارج بروكسل.

ثالثاً. البعد الأمني والعسكري: عسكرة غير مبررة لمفهوم التهديد

يدعو التقرير إلى زيادة الإنفاق الدفاعي، وتحديث القدرات النووية والبنية التحتية السيبرانية، وبناء جيش مستعد لـ "القتال على الأرض"، وكأن أوروبا على أبواب نزاع شامل، لكن هذا التوجه يطرح أسئلة مقلقة:

1 ـــ أين الأدلة الاستخباراتية العلنية التي تبرر هذا التصعيد؟

2 ـــ هل هناك تهديد مباشر ووشيك فعلاً على بريطانيا؟

3 ـــ لماذا تُستثنى الدبلوماسية من أي خيار مطروح؟

في الواقع، يُوظَّف الغموض السيبراني لتبرير إجراءات أمنية وقانونية مشددة دون مساءلة، مثل توسيع الرقابة، وتشريع الاعتقال الإستباقي، وتضييق الحريات بدعوى "الردع".

 وعليه فأن الخطر الكامن هو ما يُقدَّم على أنه "استعداد أمني" قد يتحوّل إلى تصعيد إستراتيجي خطير يعيد سباق التسلح إلى أوروبا، ويزيد من فرص الاحتكاك غير المحسوب مع قوة نووية كروسيا.

رابعاً. البعد الإستراتيجي: مشروع هيمنة مقنّع بشعار الأمن الأوروبي

ما هو غير معلن في التقرير أخطر مما هو معلن، فبريطانيا لا تسعى لردع روسيا فقط، بل لتثبيت نفسها كقائد للأمن الأوروبي، عبر تجاوز الإتحاد الأوروبي والالتفاف عليه، كما تسعى لندن لتهميش بروكسل في المجال الأمني، ولتكوين تحالفات موازية (كـ AUKUS وأطر بحر الشمال)، تُعيد تموضع بريطانيا كمركز قيادي، ما يعني عملياً دفع الدول الصغيرة في شرق أوروبا إلى الارتهان الأمني للقيادة البريطانية ـــ الأميركية، بدلاً من الانخراط في منظومة أوروبية متوازنة ومستقلة.

هذه التوجهات التي احتواها التقرير تُسهم في تعزيز الإنقسام داخل أوروبا بين محورين، محور يريد التهدئة والانخراط (فرنسا، ألمانيا) وان بدا في بعض الاحيان خطابه متشدداً، الا انه لم يذهب إلى ما ذهب إليه العقل السياسي البريطاني، وآخر يسعى للتصعيد والتجييش (بريطانيا وبعض دول الشرق) الذي اختصر كل التهديدات على كوكب الأرض بانها قادمة من روسيا.

في الحصيلة الإستراتيجية، التقرير البريطاني الذي يعتبر مشروعاً وبرنامج عمل لا يبني أمناً أوروبياً مشتركاً، بل يعيد إنتاج منطق الحرب الباردة، ويُقوّض فرص بناء توازنات مستقرة بعيدة عن الهيمنة.

خامساً. سؤال البديل: لماذا تُقصى الدبلوماسية من المشهد؟

من اللافت أن التقرير لا يُشير، ولو عرضاً إلى أي مسار دبلوماسي أو آليات وساطة لتخفيف التوتر مع روسيا وهذا التجاهل متعمّد، رغم الحقائق التالية:

1 ـــ روسيا عضو دائم في مجلس الأمن، وقوة نووية ذات نفوذ عالمي لا يمكن تحييدها أو عزلها دون تكاليف إستراتيجية ضخمة.

2 ـــ القوى الأوروبية الأساسية (فرنسا، ألمانيا، إيطاليا) وان بالغت في الموقف من روسيا، الا انها تدعو باستمرار إلى الحوار مع موسكو، رغم الخلافات، وتعارض المسار البريطاني التصعيدي.

3 ـــ التعامل مع الهجمات السيبرانية أو التهديدات الرقمية لا يستوجب عسكرة شاملة، بل إتفاقيات أمن جماعي إلكتروني، وشراكات تقنية تضع معايير تضبط الاستخدام.

وجواب سؤال البديل الواقعي هو الانخراط في مسار متعدد الأطراف لبناء منظومة أمن رقمية، وتطوير القانون الدولي السيبراني، ومأسسة الحوار مع الخصوم بدل تسعير المواجهة الدائمة.

سادساً. عندما تصبح الحرب قراراً سياسياً مقنّعاً

تقرير ميلي كوك ليس مجرد تشخيص للوضع الأمني من منظور بريطانيا، بل إعادة تشكيل لوعي الخطر، يُوظف لخلق هالة من الطوارئ، وتبرير عسكرة الدولة والمجتمع الأوروبي، إنه وثيقة سياسية موجهة أكثر من كونه تحليلاً موضوعياً، تسعى لإحياء مشروع هيمنة بريطاني جديد في قارة تعاني من الانقسام، والتشظي، وتنامي النزعات السيادية.

في المقابل، تفرض الوقائع الجيوسياسية اليوم منطقاً مغايراً، ليس التصعيد هو السبيل للحماية، بل بناء نظم قانونية وأمنية عادلة، والاحتكام إلى المؤسسات، وتطوير أدوات جديدة لفهم التهديدات الحديثة دون تدمير أسس القانون الدولي.

الحرب ليست قدراً… بل قرار، وعندما تُبنى السياسات على الخوف بدلاً من العقل، يتحول الردع إلى خطر، وتصبح الدولة نفسها مصدراً لانعدام الأمن، وهذا ما ظهرت عليه بريطانيا في تقرير ميلي كوك كمصدراً للقلاقل وانعدام الأمن الأوروبي.