بعد فشل خطة التهجير: أميركا تسعى للهروب من غزة

 ترى أميركا في هذه الحرب أنّ خسائرها أكبر بكثير من خسائر "إسرائيل"، فهي تخسر حكم الشرق الأوسط فعلياً.

  • الحرب على غزة.
    الحرب على غزة.

منذ عدة أيام، نشرت صحيفة تايمز خبراً عن لقاء جرى بين وزير الدفاع البريطاني ورئيس الوزراء الفلسطيني. لقاء جرى خلاله عرض عدة مفاجآت، بداية من ذهاب وزير الدفاع البريطاني بنفسه ليقابل رئيس وزراء فلسطين في مدينة رام الله في الضفة الغربية، ومن ثم الطلب منه مهمة تولّي إدارة قطاع غزة مقابل إنهاء الحرب، مما دفع رئيس وزراء فلسطين إلى رفض الطلب البريطاني. 

على الرغم من رفض حركة فتح الدخول إلى قطاع غزة إلا أنه تمّ تكليف وزير الدفاع البريطاني بتشكيل فريق عسكري من قادة الجيش البريطاني لتدريب قادة الحركة على إدارة قطاع غزة والسيطرة عليه. 

وهنا السؤال، لماذا رفضت حركة فتح حكم قطاع غزة ولماذا بريطانيا كُلّفت بالمهمة؟ رغم أن تصريحات رئيس وزراء "إسرائيل" تقول "لن يحكم غزة سوى الجيش الإسرائيلي"، أين دور أميركا من كل الذي يحصل؟ 

مشروع التهجير إلى سيناء: انتهى

توجد قاعدة مهمة ترتكز عليها الإدارة الأميركية العسكرية، مفادها أينما اشتبك الجيش الأميركي ستجد الجيش البريطاني أمامه يحمل السلاح، فقد أدّت بريطانيا دور الذراع العسكرية للجيش الأميركي في عدة حروب من أفغانستان إلى غزو العراق ومؤخراً في الحرب على غزة.

وبالتالي عندما يقابل وزير الدفاع البريطاني رئيس وزراء فلسطين ويعرض عليه إنهاء الحرب مقابل تولّي مهمّة حكم غزة سنكتشف أن بريطانيا تؤدي دور ساعي البريد. ويبقى السؤال الأصح هو كيف قرّرت أميركا إنهاء الحرب على الرغم من تصريحات رئيس الوزراء الإسرائيلي المتمثّلة بسحق حماس. هنا، الذي يرسم المعادلات هو الإدارة الأميركية، فهي لم تقرّر فقط إنهاء الحرب بل حدّدت موعد نهايتها. 

الأخطر من ذلك تصريح رئيس وزراء فلسطين محمد أشتية باستقباله وزير الدفاع البريطاني، ومن ثمّ لقائه بعدة قيادات من المخابرات الأميركية. والرسالة كانت واضحة من الطرفين "الحرب في أيامها الأخيرة"، "إسرائيل" لن تحكم غزة، ولن تحتل أي أرض من أراضي القطاع وحتى أنها لن تطرد سكانها. تصريحات تؤكد فشل خطة "إسرائيل" الرئيسية "التهجير إلى مصر والأردن". 

كلّ هذه التصريحات من الممكن أن تتغيّر مع تغيّر سياسة الإدارة الأميركية نظراً لمجريات سير الحرب، إلا أنه رغم كل العروض المغرية التي قدّمتها واشنطن وبريطانيا للسلطة الفلسطينية، رفض رئيس وزراء فلسطين العرض.

 سبب رفض أشتية يعود إلى عدم قدرته على الإيفاء بوعده لأنّ حماس تغيّرت من ما قبل 7 أكتوبر إلى ما بعده. وشرطه اقتصر على موافقة حماس على العرض وأن تكون جزءاً منه. إذا دقّقنا جيداً في كلام رئيس وزراء فلسطين وحاولنا فهم تفاصيل ما بين السطور، سندرك أن أشتية فهم جيداً طريقة طرح العرض الأميركي الذي أتى بعد فشل "الجيش" الإسرائيلي في تصفية حماس.

خطة الإدارة الأميركية البديلة هي استبدال "جيش العدو" بقوات السلطة الفلسطينية، بمعنى أدقّ أميركا تسعى إلى انتشال "جيش" الاحتلال بعد غرقه في قطاع غزة واستبداله بقوات السلطة الفلسطينية. 

وبذلك ستضع حماس أمام خيارين، إما خيار القبول بحكم حركة فتح وبالتالي تكون "إسرائيل" نجحت في حكم قطاع غزة من خلال وكيلها (السلطة الفلسطينية)، أو أن حماس تقاتل حركة فتح وتعتبرها عدوّها وبالتالي أيضاً تربح "إسرائيل" عبر انشغال الفلسطينيين فيما بينهم. وأعتقد أن رئيس وزراء فلسطين فهم خطة الأميركي فقرّر أن يرمي الكرة في ملعب حماس، خاصة عندما قال لو أنّ حماس وافقت على العرض حركة فتح ستقبل به. 

اقتراحات واشنطن لحكم غزة

منذ فترة وجيزة، قال وزير الخارجية الأميركي في مجلس الشيوخ إن الإدارة الأميركية برئاسة بايدن انتهت من كتابة ثلاثة اقتراحات لحكم قطاع غزة بعد نهاية الحرب. أوّل اقتراح إحضار قوات دولية وقوبل بالرفض من حماس، مصر، والأردن، أما الاقتراح الثاني فيقضي بحكم "إسرائيل" لقطاع غزة، لكنّ "إسرائيل" ترفض هذا الاقتراح. أما الاقتراح الثالث فهو أن السلطة الفلسطينية هي التي تحكم القطاع، ولكنها أضعف من حكم غزة في ظل وجود حركة حماس، فالحلّ الوحيد هو أن تشارك حماس في الحكم حتى ولو بدرجة تمثيل أقلّ. 

في محاولة لفك شيفرة كلام بلينكن، في النقطة الأولى، إذا كان حلّ القوات الدولية لن ينفع فهذا يعني أن أميركا وأوروبا غير قادرتين على فرض الأمر الواقع على حماس، بما في ذلك مصر والأردن. والذي يؤكد هذا الكلام هي المساعدات المالية التي قدّمتها أوروبا لمصر في الأيام الماضية (10 مليارات دولار). 

النقطة الثانية، "إسرائيل" ترفض أن تحكم القطاع بعد نهاية الحرب، وهذا حرفياً عكسُ تصريحات رئيس الوزراء الإسرائيلي الذي قال "لن يحكم القطاع سوى الجيش الإسرائيلي". وبالتالي نحن أمام تصريح لوزير خارجية أميركا وتصريح ثانٍ لرئيس وزراء "إسرائيل" متناقضين. 

من نصدّق إذاً؟

في هذه الحالة كلام وزير الخارجية الأميركي منطقي أكثر بسبب توجّهه إلى مجلس الشيوخ الأميركي في حلول فرضت نفسها بعد درس مجريات الميدان، إنما نتنياهو يتحدّث مع جمهوره خاصة بعد قرب موعد الانتخابات، تزامناً مع مظاهرات لأهالي الأسرى تطالب باستقالته؛ وبالتالي هو مُجبر على تطمين المستوطنين بأن الذي حصل يوم 7 أكتوبر لن يتكرّر. ما الضمانة التي سيقدّمها نتنياهو لعدم تكرار ما حصل؟ 

إما تصفية حماس أو وجود قوات الاحتلال في قلب غزة لضمان حماية العمق الإسرائيلي. وهذا ما يفسّر تهديدات نتنياهو اليومية، فهو لن يسلّم بإنهاء الحرب لأنه سيحكم على نفسه بالموت السياسي. أما من جهة أميركا، فقرارها بإنهاء الحرب لا يفسّر عدم استمرارها بدعم الكيان، فبطبيعة الحال لن تسمح بهزيمة "إسرائيل" وأقلّه تعويضها بخسائر أقلّ.

أميركا تخسر حكم الشرق الأوسط

 ترى أميركا في هذه الحرب أنّ خسائرها أكبر بكثير من خسائر "إسرائيل"، فهي تخسر حكم الشرق الأوسط فعلياً. بداية من علاقتها في الأردن (أهم حليف لها بعد إسرائيل وقطر) تدهورت بعض الشيء بعد طردها السفير الإسرائيلي وسحب سفيرها من "تل أبيب"، أما مصر المخنوقة اقتصادياً وسياسياً من قبل واشنطن، فقد ضغطت الإدارة الأميركية على صندوق النقد الدولي لإرسال مساعدات مالية لمصر؛ في إشارة إلى أن مصر فشلت سابقاً في أخذ قرض بـ 3 مليارات دولار، واليوم ترفع سقف مطالبها إلى 10 مليارات دولار. وصولاً إلى توقّف المساعدات العسكرية والمالية الأميركية لأوكرانيا، وفشل ضغوطها الاقتصادية على روسيا بعد انسحابها من دعم أوكرانيا وانشغالها في مساعدة "إسرائيل" في حرب غزة. 

في المحصّلة حسّنت روسيا وضعها العسكري والاقتصادي واستطاعت أن تقوّي خطوطها الهجومية وتضعف خطوط أوكرانيا الدفاعية، وذلك يعني أن أميركا خسرت أيضاً معركة أوكرانيا. ومن ناحية الصين ضغطت أميركا بكل السبل لوقف اقتصاد بكين، والنتيجة اليوم هي وجود الصين في أميركا الجنوبية بعد اتفاقها مع فنزويلا على ضم إقليم إسكويبو الذي تُقدّر ثروته النفطية بـ 11 مليار برميل نفط.

وكالة بلومبيرغ نشرت تصريحاً لأحد مساعدي الرئيس الأميركي وصف فيه المشكلة التي تواجهها الإدارة الأميركية بالعجز عن معرفة كيف ستخرج "إسرائيل" من غزة، فعندما دخل الكيان الحرب فكّر فقط كيف سيدخلها للتخلّص من حماس، هنا تكمن مشكلة واشنطن الرئيسية. كل الذي تفعله "إسرائيل" الآن هو محاولة استغلال الوقت المتبقّي الذي حدّدته أميركا لكي تفعل المستحيل وتهجّر سكان غزة أو تصفّي حماس أو تغرق الأنفاق، أو حتى تقتل قائد حركة حماس يحيى السنوار.

صحيح أن "إسرائيل" ستستمر في قصف غزة وضربها بكلّ أنواع الأسلحة الفتّاكة، لكن ستبقى الكرة في ملعب حماس. أميركا استنفدت كل حلولها من إرسال قادة مخابرات أميركية وصولاً إلى إقحام بريطانيا في مخططاتها. نهاية نتنياهو اقتربت والدليل على ذلك ضربه للمدنيين بكلّ ما أوتي من قوة، فضرب المدنيين دليل ضعف، والرد على ذلك يأتي من المقاطع اليومية التي تعرضها حماس؛ تثبت صمودها في المعركة، والأهم وجودها في كل مكان داخل غزة (شمال القطاع دليل على ذلك). 

حماس نفّذت في شمال القطاع صفقة التبادل الثالثة في إشارة منها على ثباتها في المعركة، حتى الأسرى لم يستطع أحد تحريرهم لا عبر القوات الخاصة الإسرائيلية ولا عبر قوات دلتا الأميركية. جميعهم أُجبروا على الذهاب نحو الهدنة وتنفيذ صفقة تبادل الأسرى. حماس انتصرت في حرب الأهداف العسكرية، وأميركا تبحث عن باب خلفي تهرّب منه "الجيش" الإسرائيلي لإخراجه من غزة على رجله لكنها إلى الآن لم تجد هذا الباب.