بين خطاب الوحدة ومواجهة الهيمنة… قراءة في مواقف الشيخ نعيم قاسم
لبنان أمام فرصة إعادة إنتاج ذاته، والجدل حول المقاومة، والاستقلال، والسيادة، جزء لا يتجزأ من هذا المخاض.
-
قراءة في مواقف الشيخ نعيم قاسم (أرشيف).
في لحظة لبنانية تختلط فيها الأزمات اليومية بالتحوّلات الإقليمية، جاء خطاب الشيخ نعيم قاسم ليعيد طرح الأسئلة العميقة حول معنى الاستقلال، وحدود القرار الوطني، وموقع لبنان في خريطة الصراع المفتوحة. لم يكن كلام الأمين العام لحزب الله مجرّد خطاب مناسباتي، بل بدا أشبه بإعلان موقف سياسي شامل يلامس قضايا الدولة، ويخاطب الداخل والخارج في آنٍ واحد.
منذ الجملة الأولى، يضع الشيخ قاسم الاستقلال في موقعه الطبيعي: مشروع مستمر لا ذكرى تُعاد كل عام. "معًا نصنع استقلالنا"، قالها بنبرة تُحيل إلى مفهوم المقاومة بوصفها القوة التي أعادت إنتاج السيادة في لحظات العجز. وفي تأكيده للوحدة بين المسلمين والمسيحيين، وبين المناطق على اختلافها، يوجّه رسالة واضحة إلى أن المقاومة ليست حالة فئوية، بل مشروعًا وطنيًا يتجاوز الانقسامات اللبنانية التقليدية.
لكن الأهم في الخطاب هو تلك المقاربة التي تربط بين الصمود وصناعة المستقبل. الشيخ قاسم يرفض منطق التبعية، ويعلنها بوضوح: "لا نقبل أن نصبح عبيدًا لأحد". هذا الموقف ليس مجرد تحدٍّ سياسي، بل هو رؤية كاملة لطبيعة المواجهة التي يعتبر أنها تتخطى الميدان العسكري إلى الاقتصاد والسياسة، بل وإلى شكل النظام العالمي الجديد الذي يرسم حدود الدول الصغيرة قبل الكبيرة.
وفي سياق هذه المواجهة، تبرز الاتهامات المباشرة للولايات المتحدة بأنها "تخرّب حياة اللبنانيين". هذه ليست عبارة انفعالية، بل جزء من قراءة سياسية ترى أن لبنان يعيش حربًا اقتصادية تُدار من الخارج، وأن العقوبات والضغوط المالية ليست سوى أدوات في محاولة فرض التسويات. هذه المقاربة تجد صداها لدى شريحة واسعة من اللبنانيين، فيما تثير جدلًا واسعًا لدى آخرين، لكن لا يمكن تجاهل أنها باتت جزءًا من تفسير أعمق لطبيعة الانهيار الذي يشهده البلد.
مع ذلك، تبقى الرسالة الأساسية التي حملها الخطاب موجهة إلى الداخل اللبناني. فالدعوة إلى الوحدة ليست مجرد شعار، بل محاولة لإعادة صياغة معادلة وطنية في مرحلة تتطلب الحدّ الأدنى من التماسك. الشيخ قاسم يقول بوضوح إن المقاومة جزء من هوية البلد، وإن تجاوزها أو تجاهلها يعني إعادة إنتاج أزمات أكبر. وفي المقابل، يطرح رؤية لشراكة وطنية تقوم على احترام دور كل مكوّن ضمن إطار سيادة بلد مهدّد من الخارج ومن الداخل.
لبنان اليوم يقف على مفترق طرق. الانهيار الاقتصادي يضغط، والانسداد السياسي يتعمّق، والحدود الجنوبية مشتعلة تحت سقف معادلات دقيقة. وفي هذا المشهد، يظهر خطاب الشيخ نعيم قاسم كواحد من الأصوات التي تحاول إعادة تعريف النقاش الوطني:
هل يكون الاستقلال مواجهة أم تسوية؟
هل يُبنى المستقبل على الصمود أم على المساومات؟
وما هو موقع لبنان في معادلة القوة الإقليمية والدولية؟
أسئلة مفتوحة، لا يمتلك أحد إجابات نهائية عنها، لكنّ الخطاب يذكّر بأن المعركة على هوية لبنان لم تُحسم بعد، وأن المقاومة ـــــــــــ كما يراها الشيخ قاسم ــــــــــــ ليست خيارًا ظرفيًا، بل هي جزء من تعريف الذات اللبنانية في زمن التحوّلات الكبرى.
هذه ليست دعوة إلى الاصطفاف، بل محاولة لفهم خطاب يفرض نفسه على طاولة النقاش الوطني، سواء اتفق معه البعض أم اختلفوا معه. فلبنان اليوم يحتاج إلى قراءة عميقة لكل ما يُطرح، لأن المستقبل لن يُبنى على صراخ الشارع ولا على لغة الاتهامات المتبادلة، بل على فهم دقيق لمصادر القوة والضغط، وللمعادلات التي تتشكّل فوق أرضه وحوله.
لبنان أمام فرصة إعادة إنتاج ذاته، والجدل حول المقاومة، والاستقلال، والسيادة، جزء لا يتجزأ من هذا المخاض. خطاب الشيخ نعيم قاسم يعيد فتح هذا الجدل… وربما يضعه في سياقه الحقيقي.