تونس تئنّ تحت وطأة العصابات والمافيا.. والشباب يبحث عن الحلول خارج البلاد

تونس بلد جميل يملك جميع المقومات الطبيعية والبشرية، وتنقصه الإرادة السياسية الحكيمة والحازمة، وتُعوزه القُدرة على مواجهة عصابات التهريب وتُجار الممنوعات وأصحاب النفوذ والمال.

  • تونس تئنّ تحت وطأة العصابات والمافيا.. والشباب يبحث عن الحلول خارج البلاد
    تونس تئنّ تحت وطأة العصابات والمافيا.. والشباب يبحث عن الحلول خارج البلاد

شاء القدر أن أزور تونس خلال الإجازة المعتادة وأتجوّل في ربوعها. أكثر ما شدّني هناك هو المعاناة اليومية التي يعانيها المواطن التونسي في الحصول على لقمة العيش اليومية وعلى الخدمات الأساسية. 

وعندما سألتُ الناس عن سبب الأزمات التي يواجهونها، ردّ بعضهم بأن هذا نتيجة العشرية السوداء التي مرّت على تونس، كما يصفونها، فيما قال البعض الآخر إن هذا نتيجة السنوات الحمراء التي حكم فيها قيس سعيّد البلاد، كما يقولون، لكن المُجمع عليه أن تونس تُعاني خلال هذه الفترة العصيبة أزمات عدة، أبرزها على الإطلاق غلاء الأسعار وعدم توافر المواد الغذائية الأساسية.

هل السبب في ما يجري في البلاد اليوم يعود إلى الأزمات العالمية، كالحرب في أوكرانيا وارتفاع أسعار الطاقة والحرائق والكوارث الطبيعية التي يسببها تغير المناخ أو أنَّ ما يشهده الشعب التونسي يعود إلى مشاكل أخرى لها علاقة مباشرة بما يحصل للبلاد اليوم.

تونس بلد جميل يملك جميع المقومات الطبيعية والبشرية، وتنقصه الإرادة السياسية الحكيمة والحازمة، وتُعوزه القُدرة على مواجهة عصابات التهريب وتُجار الممنوعات وأصحاب النفوذ والمال الّذين يتحكّمون في الأسواق التجارية وفي الارتفاع غير المسبوق في المواد الأساسية لغاية في نفس يعقوب، فعصابات التهريب كثيرة ومتشعّبة، والدولة بكامل قوّتها عاجزة عن مواجهتها بقوة السلاح، لأن هذه العصابات تملك جميع أنواع الأسلحة.

وبالتالي، تبقى تونس اليوم رهينة لعصابات المافيا التي تُتعب المواطن التونسي وتُرهقه وتُمارس ضده لغة القوة، ما أحدث فجوة كبيرة في جميع أسواق البلاد من شمالها إلى جنوبها ومن غربها إلى شرقها، مع ما تتعرّض له الجارة ليبيا من اضطرابات عسكرية دائمة بين الميليشيات الداعمة لهذه الحكومة أو تلك، ما يبقيها مسرحاً لجميع المناوشات والمزايدات داخلها وحتى خارجها، وهو ما تتأثر به تونس اليوم.

وفي ظلِّ هذه الأحداث المتشابكة سياسيّاً واقتصاديّاً واجتماعيّاً، تتصاعد المشاكل وتتفاقم يوماً بعد يوم، رغم بعض المؤشرات الإيجابية التي تطلقها بعض المؤتمرات، مثل مؤتمر "تيكاد 8" والقمة الفرنكوفونية المرتقبة في جزيرة جربة في تشرين الثاني/نوفمبر القادم، وتتعقد أحوال الشباب الذي بات يخاف البقاء في بلاده نتيجة عدم اهتمام الدولة به، فهو يحتاج إلى الوظيفة المحترمة والعائد المجزي الذي يقيه وأسرته من العوز والفقر والبطالة، كما يحتاج إلى مسكن ملائم يقيه من الحرّ والبرد، وكل ذلك أصبح اليوم عسيراً نتيجة انهيار الدينار التونسي إلى أدنى مستوى له في تاريخه.

الشباب الذي تحدثتُ إلى بعضه بمختلف توجهاته ووظائفه يائسٌ بائسٌ، همّه الخروج من تونس والبحث عن مكان آمن له من جميع النواحي، حتى أولئك الذين يملكون وظائف حكومية لم يكونوا مستعدين لمواصلة المشوار في بلادهم، بل هم كغيرهم يبحثون عن مسالك للخروج، فمن سيبقى إذاً في البلاد إذا عزم جميع الشباب على الخروج منها؟ حتى الكفاءات التونسية والعاملة في الميادين التي تدر أرباحاً لا بأس بها تبحث عن الخلاص، لأنَّ الوضع في تونس لم يعد كما هو، مع نقص كبير في المواد الغذائية الأساسية.

وفي الجانب الآخر، تكابد الدولة وحكومتها من أجل توفير الحد الأدنى، فالخبز لم يعد متوفراً كما كان، وهو المادة الأساسية للحياة في تونس، فترى الطوابير الكبيرة في حرّ الشمس وفي لهيبها من أجل الحصول على قدر محدود، والمشهد يتكرر كل يوم.

كما أنّ الزيت المدعوم من الحكومة مفقود منذ شهور، وهو الزيت الذي لا يستغني عنه أيّ بيت تونسي. كان يُباع بأرخص الأثمان، واليوم مفقود كلياً في البلاد، ليتجه التجار إلى بيع الزيت النباتي بسعر ثمين لا يقدر عليه أغلب الطبقات الشعبية، وقسّ على ذلك كل المواد الأساسية الأخرى من الخضراوات واللحوم والألبان وغيرها.

ما الَّذي يحدث في تونس اليوم؟ هل وصلت حالتنا إلى ما وصل إليه لبنان أو تعدى ذلك بكثير؟ إننا نعاني اليوم مشكلات عدة سببها الأول ليس قيس سعيد والحكومة التونسية، كما يروّج البعض، إنما السبب اليوم في من يتحكّم في تونس وسياساتها وخيراتها. 

إنها زمرة من رؤوس الأموال النافذة الجشعة والطامعة التي تتصرف بنهمٍ، وتريد الربح لنفسها بأيّ ثمن، وتواجه الدولة بكل قوة، وما زالت تمارس ابتزازاتها وتهريبها لجميع المواد الغذائية التي يحتاجها الشعب التونسي. وقد أشار إلى ذلك رئيس الدولة في غير موضع، فهي التي تضع العراقيل والصعوبات في وجهه حتى لا ينجح في مهمته.

من يوقف هذه العصابات التي أنهكت البلاد طولاً وعرضاً؟ ومن يوقف الرؤوس الكبيرة التي محقت السيولة المنتظرة وقضت على كلّ أمل في بلادنا؟ لم يبقَ شيء في البلاد إلا ووضعوا أيديهم القذرة في كلّ مواضعه.

هذا ما يمكن أن نعلمه اليوم وما يجري في هذه القطعة الجميلة من الأرض، وهل يستطيع السيد قيس سعيد مع كلّ ذلك أن يقاوم أكثر من هذا في ظل ظروف سيئة للغاية وعلى جميع المستويات؟