حرب الـ 120 يوماً…موازين الربح والخسارة
رغم إلحاقها خسائر كبيرة بإيران، فإن "إسرائيل" خسرت حرب الصورة مع كل صلية صاروخية كانت تذهب في اتجاهها. صغر "مساحة" الكيان مقارنةً بإيران جعل من الصورة أكثر وضوحاً في "إسرائيل".
-
هل شكلت هذه الحرب بالنسبة إلى إيران "73" جديدة؟ (أرشيف).
لم يكن ما حدث في الأسابيع الماضية عابراً أو صغيراً. حرب الـ 12 يوماً كانت حدثاً استثنائياً وحتى تاريخياً.
أولاً سمّيتها حرباً لأنها كانت فعلاً حرباً بكل ما للكلمة من معنى، وليست مجرد ضربات متبادلة. فخلالها توقفت بشكل شبه كامل حركة الملاحة الجوية فوق معظم دول الشرق الأدنى وغربي آسيا.
وخلالها أيضاً جنّدت "الدولتان" معظم إمكانياتهما الشعبية والإسعافية والمدنية والعسكرية والإعلامية،... حيث توقفت "البلاد" عن العمل بشكل شبه كلي، وكانت حالة الطوارئ هي السائدة (حتى لو لم تُعلن رسمياً).
في "إسرائيل" مثلاً قضى "السكان" معظم أوقاتهم في الملاجئ، بينما في إيران نزح كثير من سكان العاصمة إلى خارجها. هي حرب أيضاً لأن الحروب أحياناً قد لا تُخاض بالضرورة على الأرض أو وفق المنطق القديم للحروب (جيوش، دبابات،..)، خصوصاً في عصرنا الحالي حيث التكنولوجيا والطيران والمسيرات والصواريخ والخروقات الاستخبارية / السيبرانية تلعب دوراً أساسياً. وهي كانت حرباً لافتة في التاريخ الحديث حيث لا حدود برية تجمع بين الطرفين. هي أيضاً أول حرب يخوضها كيان الاحتلال ضد دولة أُخرى (وليس ضد تنظيم مقاوم) منذ الـ 73.
في المعايير والموازين والاستنتاجات كثير من النقاط التي سنذكرها. فما هي أهم نقاط الربح والخسارة لكل طرف؟
إيران.. الأرباح
تمكنت الجمهورية الإسلامية في إيران من التغلب على الصدمة الأولى التي حصلت فجر 13 حزيران/يونيو من دون انهيار كلي أو جزئي في صفوفها.
كانت ضربات فجر اليوم الأول مباغتة وغادرة نوعاً ما، رغم وجود بعض التحذيرات الدولية العامة بخصوص احتماليتها.
فإيران والولايات المتحدة كانتا تستعدان لجولة مفاوضات جديدة بعد يومين من هذا التاريخ، لذلك شكّل الهجوم الإسرائيلي الواسع صدمة وأدّى إلى خسائر كبيرة في إيران. لكنّ قدرة إيران على امتصاص الصدمة والرد القوي الذي قامت به في الليلة التي تلت الهجوم أعادا إليها التوازن وسمحا لها باستعادة زمام المبادرة.
قدرة الصواريخ الباليستية ونوعيتها ودقتها قد تكون النقطة الإيجابية الأهم في مصلحة طهران في هذه الحرب. علينا الاعتراف هنا أنه بعد حرب غزة وأيضاً حرب لبنان، طغى جو من التشكيك العام في قدرة الصواريخ الإيرانية (الصنع) على الوصول إلى داخل "إسرائيل" وعلى إصابة أهداف حيوية هناك بدقة، والأهم قدرتها التدميرية في حال إصابتها الهدف. لكن إيران قلبت المعادلة تماماً في هذه الحرب، وأثبتت صواريخها وتقنياتها فعالية كبيرة، أولاً من حيث قدرتها على مناورة الدفاعات الإسرائيلية (والأميركية) المتطورة والمكلفة جداً، وثانياً من حيث دقتها (في معظم الأحيان) في إصابة أهداف محددة مسبقاً، وثالثاً من حيث قوتها التدميرية الكبيرة التي أحدثت أضراراً هائلة غير مسبوقة في الكيان.
بشكل عام، لم تستسلم إيران للمطالب الإسرائيلية أو الأميركية. منذ أيام تكلم دونالد ترامب عن "استسلام كامل" مطلوب من إيران من أجل وقف الحرب، لكن هذا الأمر لم يحصل وتوقفت الحرب من دون استسلام كامل لإيران. حتى أن الجمهورية الإسلامية لم تتعهد بأي شيء (حتى الآن) في ما يخص برنامجها النووي (في موضوع التخصيب أو غيره) ويبقى هذا رهناً للتفاوض المستقبلي.
أيضاً لم يتزعزع النظام أو الدولة في إيران بشكل كبير كما كانت تتمناه بعض الأوساط الإسرائيلية والأميركية، كما أوساط أُخرى عالمية، بل على العكس، فقد حصل نوع من التضامن الوطني في البلاد حتى من المعارضين، كبعض النساء والناشطات اللواتي تظاهرن منذ سنوات بعد حادثة مهسى أميني. فقد عززت الحرب من الشعور الإيراني الوطني رغم وجود خلافات سياسية داخلية، حتى إن معارضي الخارج الذين يعيشون في دول غربية لم يستجيبوا (بمعظمهم) لدعوات قلب النظام ولم يتحمسوا لخطابات ابن الشاه السابق، بل اختاروا الوقوف مع أبناء بلدهم في حربهم ضد أحد الكيانات الأكثر كرهاً في العالم حالياً (خاصة بعد الحرب على غزة).
على قاعدة المثل القائل "رب ضارة نافعة"، فقد ساعدت الحرب إيران على كشف شبكات عديدة من المتعاملين مع الموساد، إضافة إلى معامل تصنيع مسيرات ومتفجرات ومؤامرات تخريبية أُخرى. قد يكون بعض هؤلاء العملاء وبعض هذه الورش التصنيعية نتاج عمل وتخطيط عمره سنوات وعقود للعدو الإسرائيلي.
الخسائر
خسرت إيران في هذه الحرب لا سيما في الضربة الأولى، عديداً من القادة العسكريين والأمنيين والعلماء النوويين. بالطبع، يبقى لدى الجمهورية الإسلامية قادة وعلماء كثر باستطاعتهم استبدال من رحل، لكن أحياناً هناك قيمة متميزة لكل شخص وخبرة متراكمة وحضور لا يمكن استبدالها، كما حصل مع إيران بعد اغتيال اللواء قاسم سليماني أو الرئيس رئيسي.
خسرت إيران أيضاً عديداً من المنشآت الحيوية المعنية بالطاقة النووية وبالكهرباء وبالأمور العسكرية (منصات إطلاق، قواعد عسكرية، مخازن، الخ.). كل هذه الأمور يمكن تعويضها بالتأكيد لكنها تحتاج إلى وقت ومال ومجهود.
في الموضوع النووي بالذات، فإنه من غير الواضح حتى الآن بدقة مدى عمق الخسائر المادية أو العلمية التي نتجت عن الضربات، لا سيما الأميركية منها. المنشآت قد تكون تضررت (جزئياً أو كلياً) لكن هذه بالإمكان إصلاحها وإعادة تجهيزها. قد تكون لحقت أيضاً أضرار بأجهزة الطرد المركزي ومخزون اليورانيوم وغيرها من المواد والأدوات والمعدات الحساسة المستخدمة في مشاريع الطاقة النووية، خاصة ما يتعلق منها بالتخصيب، وهذه قد يكون استبدالها أصعب ويأخذ وقتاً أطول لكنه ليس بمستحيل في ظل استمرار وجود الخبرات العلمية الإيرانية والمشاريع البحثية. البرنامج النووي الإيراني خصوصاً الجزء المدني منه لم ينتهِ لكن قد تكون بعض مشاريع هذا البرنامج عادت سنوات إلى الوراء.
قد تتأثر (سلباً) علاقة الجمهورية الإسلامية بدول مجلس التعاون، التي بالتأكيد لم تحبذ مشهد سقوط الصواريخ على الدوحة وما قد يعنيه ذلك مستقبلاً لهذه الدول. حتى لو كان الأمر مرتباً مسبقاً مع قطر أو أنه تم إخطارها، وحتى لو قالت إيران إن الضربات كانت موجهة حصراً نحو القاعدة الأميركية وليس ضد دولة قطر، إلا أن المشهد يترك تداعيات غير إيجابية على العقل الخليجي العام.
هي مشهدية قد تكون الأولى في تاريخ هذه الدول، هذا التاريخ القائم على الاستقرار والاقتصاد والرفاهية للمواطنين والوافدين. هنا، يمكن القول إن قطر "ضحّت" بنفسها قليلاً من خلال هذا المشهد غير المألوف خليجياً لكي يتم الوصول إلى إنهاء هذه الحرب عبر وساطة قادتها هي أيضاً.
الكيان الإسرائيلي.. الأرباح:
تمكنت "إسرائيل" من القضاء على قادة وعلماء إيرانيين كثر كانوا على لائحتها للاغتيالات لسنوات.
تمكنت من تدمير عشرات مراكز تخزين الصواريخ ومنصات إطلاقها وقواعد عسكرية وأمنية ومنشآت للطاقة والكهرباء إضافة إلى منشآت ومراكز أبحاث نووية في الجمهورية الإسلامية الإيرانية.
استطاعت "إسرائيل" أيضاً معرفة أنواع معظم الصواريخ الإيرانية واختبار تأثيرها (الكبير) حتى لو جاء ذلك عبر خسائر جسيمة عاشها الكيان. سيدرس قادة الاحتلال هذه الصواريخ بشكل أكثر دقة من أجل محاولة تطوير وسائل دفاعية مناسبة للتعامل معها مستقبلاً.
استطاعت "إسرائيل" جرّ الولايات المتحدة (مجدداً) الى الدفاع (والهجوم) معها وإقناعها بوجهة نظرها بعد أن كان ترامب يفضل التفاوض منذ أسابيع ولا يمانع برنامجاً نووياً سلمياً وحتى تخصيباً قليلاً لليورانيوم كما في اتفاق 2015.
لا يزال اللوبي الإسرائيلي يطغى على واشنطن ويسيطر على أفكار وعواطف معظم السياسيين في الحزبين في أميركا ومعه لوبي الحرب والسلاح والشركات الدفاعية والتكنولوجية التي تصب بمعظمها في مصلحة الكيان.
استطاع كيان الاحتلال أن يلقى عطفاً وتفهماً من أوروبا في هذه الحرب بعد أن كانت العلاقة قد ساءت على إثر مجازر غزة والتجويع الممنهج لأهلها. مستشار ألمانيا الذي كان ينتقد "إسرائيل" منذ أسابيع في موضوع غزة (في سابقة في تاريخ ألمانيا) عاد واصطف بقوة خلال هذه الحرب مع الكيان قائلاً إن "إسرائيل" تقوم "بالعمل القذر" نيابةً عنّا.
الخسائر
مشهد الدمار والخسائر "والتهجير" في "إسرائيل" لم يكن معتاداً لا بل كان تاريخياً وغير مسبوق.
أُغلق الاقتصاد بشكل شبه كلي خلال هذه الفترة مع ما يعنيه ذلك من خسائر اقتصادية فادحة، خاصة مع إغلاق المطار وانعدام الحركة في ميناء حيفا.
الخسائر المالية العسكرية الكبيرة، أي الكلفة العالية جداً للعمليات العسكرية الجوية وكلفة التصدي للصواريخ الإيرانية التي قيل إنها بلغت وحدها نحو ٧٠٠ مليون دولار يومياً.
رغم إلحاقها خسائر كبيرة بإيران، فإن "إسرائيل" خسرت حرب الصورة مع كل هجمة وصلية صاروخية كانت تذهب في اتجاهها. صغر "مساحة" الكيان مقارنةً بإيران الشاسعة جعل من الصورة أكثر وضوحاً في "إسرائيل" ومن تأثيرها السلبي أكثر وقعاً على "السكان" ومن معاناتهم أكبر.
رغم قول "إسرائيل" إنها قضت على "التهديد الإيراني النووي والصاروخي" إلا أن لا أحد يصدق هذه المقولة باعتقادي، خاصة بشقها الصاروخي. والدليل على ذلك أن إيران أطلقت صواريخ أصابت بئر السبع بدقة قبل دقائق فقط من سريان وقف إطلاق النار.
خسرت "إسرائيل" رهانها على تغيير النظام في إيران، أقله مرحلياً. لا بل أنها أسهمت في زيادة كره وحقد الإيرانيين لها عموماً (في الداخل والخارج) مع توالي مشاهد الضحايا والدمار في العاصمة طهران وباقي المحافظات الإيرانية.
إضافة إلى الأضرار والدمار في الأبنية والأحياء التي يحتاج بعضها سنوات لإعادة بنائه، فقد طالت صواريخ إيران أماكن ومنشآت حساسة، تتعلق بـ"الجيش" والطاقة والاستخبارات والأبحاث والتكنولوجيا، حتى أنها استطاعت الوصول إلى الملاجئ أحياناً! قد يكون أبرز ما وصلت إليه الصواريخ الإيرانية هو معهد وايزمان العريق في التاريخ العلمي والبحثي لكيان الاحتلال.
مع أننا ذكرنا في ميزان الأرباح الإسرائيلية موضوع الولايات المتحدة واستمرار تأثير "إسرائيل" القوي على السياسات في واشنطن، إلا أن الرأي العام الشعبي المؤيد "لإسرائيل" يستمر بالتراجع في الولايات المتحدة. كان واضحاً مدى معارضة الأميركيين (من الجهتين) لتدخل بلادهم في هذه الحرب ولاستمرار دعمها اللامتناهي "لإسرائيل". وكانت القاعدة الجماهيرية للرئيس ترامب "الماغا" من أشد المعارضين لأي حرب جديدة في الشرق الأوسط، بعد أن كان موضوع إنهاء الحروب والعودة إلى "أميركا أولاً" أحد الشعارات الأساسية لتأسيس هذه المجموعة المؤثرة منذ ١٠ سنوات تقريباً. أيضاً لا تزال حربا أفغانستان والعراق تؤثران كثيراً في العقل الجمعي الأميركي، خاصة رواية أسلحة الدمار الشامل غير الصحيحة عن العراق وخطاب كولن باول الشهير.
يبقى علينا الآن انتظار تطورات وقف إطلاق النار ومدى ثباته وديمومته. كما علينا انتظار ما ستحمله المراحل المقبلة من مفاوضات وغيرها، وما إذا كانت الشروط ستظل هي نفسها لدى كل طرف أم أن السقوف ستنخفض قليلاً للوصول إلى حلول مستدامة. يقول الأميركيون إنهم قضوا على إمكانية تطوير إيران سلاحاً نووياً بينما كانت طهران تقول مراراً إنها لا تريد تطوير أسلحة كهذه. ما تريده إيران هو الاعتراف بحقوقها النووية السلمية المشروعة.
قد يكون ذلك من دون يورانيوم أو مع يورانيوم مخصب بنسب قليلة في الداخل أو في الخارج (روسيا مثلاً) تحت إشراف ورقابة دوليين وبشفافية أكبر. لكن قد لا يحصل ذلك تحت إدارة رافاييل غروسي للوكالة الدولية حيث يبدو أنه لم يعد مصدر ثقة إيرانياً. أما المشروع الصاروخي فلا أعتقد أن إيران ستقبل بالتخلي نهائياً عنه، خاصة بعد أن أثبت نجاحه وفي ظل عدم امتلاك إيران وسائل دفاعية مؤثرة أُخرى. قد يتم الاتفاق لاحقاً على تقييد نقل هذه الصواريخ (أو تقنيات تصنيعها) إلى دول وأطراف حليفة لإيران.
إذاً، في النهاية والمحصلة، تبدو إيران في الشكل أكثر قرباً مما يشبه مفهوم الانتصار من "إسرائيل" والولايات المتحدة، نظراً إلى الشروط والأهداف التي وضعتها "تل أبيب" وواشنطن قبل وخلال الحرب، والتي لم تتحقق بطريقة مكتملة أو واضحة. فالحروب تُقاس عادةً بالأهداف التي كانت موضوعة لها وما إن كانت قد تحققت فعلاً.
رغم أن حرب 73 لم تكن انتصاراً كاملاً للعرب في حينه، بيد أنها جاءت مباشرةً بعد نكسة 67 لتعطي معنويات عالية للدول العربية تستعيد بها الروح والزخم. فهل شكلت هذه الحرب بالنسبة إلى إيران "73" جديدة بعد "نكسات" غزة ولبنان وسوريا؟