حول المسألة الشرقية والهوية... إعادة صياغة المشرق العربي من جديد

تعيد المسألة الشرقية، في كل مرة تواجه مجتمعنا معضلة، صوغ أسئلة الهوية ومدى ارتباطها بمسألة المواطنة، وتحديد نقاط ضعفها وقوتها؟

  •  ماذا تعني الهوية؟ هل هي مفهوم ثقافي أم أنثروبولوجي؟
    ماذا تعني الهوية؟ هل هي مفهوم ثقافي أم أنثروبولوجي؟

لم يخطئ المفكر الراحل جورج قرم في كتابه القيّم "المسألة الشرقية الجديدة" عندما أكد على عودة هذا المصطلح بعد مئة عام ونيف على المسألة الشرقية القديمة التي ظهرت في القرن التاسع عشر كمصطلح يصف ضعف السلطنة العثمانية والإمبراطورية الروسية وصعود القوى العظمى والعصر الاستعماري الأوروبي، حيث فكك قرم المصير المؤلم الذي وصل إليه المشرق العربي خصوصًا والعالم العربي عمومًا، بمنهاج تحليلي استراتيجي وجيوبوليتيكي يكشف دور الدول الإمبريالية منذ القرن التاسع عشر حتى اليوم. 

ولهذا يمكن التأكيد بأن "المسألة الشرقية الجديدة" نشأت بسبب ضعف الدول العربية المشرقية، وتهافت أركانها والنزاع الذي أثاره ذلك بين الدول الطامحة إلى الهيمنة الإقليمية والعالمية لإعادة توزيع مناطق النفوذ فيها وتقاسم أملاكها وثرواتها. 

تعيد المسألة الشرقية، في كل مرة تواجه مجتمعنا معضلة، صوغ أسئلة الهوية ومدى ارتباطها بمسألة المواطنة، وتحديد نقاط ضعفها وقوتها؟

منذ برزت المسألة الشرقية في العلاقات الدولية للمرة الأولى مطلع القرن التاسع عشر، وعُرفت على نحو عام نتيجة لانهيار الإمبراطورية العثمانية، شكلت الأقليات عنوانها الأبرز، والمراد تبديل الخرائط وتغيير أسماء المساحات الجغرافية، وقد كرست اتفاقية "سايكس بيكو" هذا الحدث التقسيمي. قديمًا وها هي تعيد تقسيم المقسم من جديد.

من الإشكاليات التي تواجه الهوية السورية أن المثقف لم يبقَ يعي دوره حيال مجتمعه، بل أصبح دوره مريبًا في تسطيح الوعي الجمعي، لتحقيق منافع أقليته المذهبية أو الطائفية أو الإثنية، ومن يتابع صفحات التواصل «فيسبوك»، يكتشف بسهولة إلى أي درك وصل المثقف في بلادنا والانقسام الحاد الذي يعيشه على الصعيدين العمودي والأفقي.

لكن ماذا تعني الهوية؟ هل هي مفهوم ثقافي أم أنثروبولوجي، أم هي مجال لغوي أو إثني أو مذهبي؟ وهل أصبحت متماهية مع عُصاب الجماعات، يجعلها هويات قاتلة أو مقتولة؟

هذه الأسئلة تضعنا جميعاً أمام عتبة إشكالية مرعبة لمواجهة معطى الهوية وتعقيداتها، بكل ما تستدعيه من مثيرات، أو ما تفترضه من تبديات قهرية، لها تمظهراتها وخطبها الراكزة في سوسيولوجيا السلطة والدين والجماعة، إذ كثيرًا ما تحمل هذه التعالقات معاني غامضة ودلالات ملتبسة، مفارقة أحيانًا، فهي تنعكس على تسويغ منظور محدد للذات والوجود، مثلما تنعكس على أنسنة مفهوم الهوية، وفي استقراء محمولاتها في التاريخ الصراعي، وفي أنثروبولوجيا الجماعات. كما أن محمولها السوسيوثقافي يمثل هو الآخر مرجعية معرفية وتاريخية تتعالق بوظيفتها الإشكالية في التعاطي مع قيم الحداثة والفكر وجدال الثقافات والعقائد.

أقنعة الهوية في هذا السياق ترتبط بمأزق هذه الهوية في التاريخ، فهي أقنعة نصوصية أو عصابية أو مظاهر لقوى طاردة أو قوى مهيمنة أو قوى ترتبط بقوة المركز الحاكم. وهذا التوصيف افترضت له بطبيعة الحال قراءات خلافية وأكثر تعقيداً للصراعات التاريخية، التي هي في جوهرها صراعات عصابية قبلية عبرّت عن نفسها دائمًا من خلال الصراع حول السلطة، ما وضع مفهوم الهوية في سياق إشكالي معقد تشظت فيه الذات الوطنية إلى أنواع من التبعيات التي تستعير التاريخ وصراعاته، حين تشظت عبرها الذات بين العربية والإسلامية والإثنية، تحت سلطة الجماعات إلى فرق ونحل وملل، تلك التي تضخمت فيها الـ»أنا» لتتحول إلى شكل رهابي للقوة القهرية، قوة الجماعة، التي تفرض موقفها الشرعي/ السلطوي مقابل قوى أخرى، باطنية مطرودة ومكفرة.

هذه المآزق الصراعية تركت سؤال هذه الهوية – بمعناه الحديث – المحشو بهذه الصراعات معلقًا وعائمًا إزاء التاريخ المدون بغموض، أو مشوشًا إزاء مسألة الدولة العصابية، أو حتى إزاء الجماعة أو الطائفة. فهي تموضعت في السياق التداولي كرهانات فكرية، وكمنظورات أنثربولوجية وسوسيولوجية، لكنها مطروحة بوصفها أزمة تعايش، وأزمة صراع، ما يعني تعالقها دائماً بالإشكالات السياسية والعقائدية والثقافية التي تعيشها الدولة المعاصرة.

"هوية" الجماعات..

يفسّر الصدام الدلالي اللغوي وحروب التسميات على المناطق (في سورية والعراق)، إلى أيّ مدى ذهبت هوية تلك المناطق ضحية للصدام بين الجماعات، فكلّ جماعة بقيت تعيش عزلتها الخاصة. والعزلة تعزز الانكفاء في حدود هوية ضيّقة، والعكس صحيح أيضًا. فالعزلة والشعور بالتهديد والارتياب من الآخر تخلق في النهاية سوء فهم عميقًا بين الشعب الواحد، ومن ثمّ تهيّئ الأرضية النفسية والمادية للانفصال والانقسام العمودي والأفقي.

لذلك فإن أكبر تحدٍ يواجه دول الهلال السوري الخصيب هو محاولة صناعة المزيد من الهويات الفرعية التي تُقسم الشعب مسمّيات جديدة وعناوين تتيح هي الأخرى لصُنّاعها تبوّء مقعد هنا أو هناك.

لكن من وما الذي يقرّر هوية الجماعة؟ أهي نفسها أم تقلبات ظروفها الحياتية وحظوظها والفرص التي تتاح لها والتحدّيات التي تواجهها، وفيمَ ترغب وفيمَ تأمل؟ أم أنّ هذه الحالات مجتمعة تفعل فعلها هنا بدرجات متفاوتة إذ تختلف الحال من جماعة إلى أخرى ومن زمن إلى آخر؟

غالبًا ما تدخل الجماعات المتورّطة في النزاعات والممسوخة صورتها في خطاب الآخر، على تأسيس صورة زائفة عن نفسها وجماعتها، وستكون تحت ضغط وتأثير موجِّه عصابي، فتزداد لديها شحنة العدوانية والشروع في العنف. وغالباً ما تدخل هذه الجماعات المتورّطة في فخ الهويات «الضيقة ـ القاتلة».

الاختلاف والمختلف

الصراعات الدائرة في مجتمعنا، تبدو في جوهرها صراعات من اجل عدم قبول المختلف، وتمزيق عرى التفاعل المشترك معه، وما يجري في وطننا السوري الآن من حديث مثلاً عن الفدراليات الطائفية، وقبول الكثيرين، تحت دعوى الواقعية، بهذه الفدراليات وأنه لا مجال لوحدة الحياة المشتركة بين السوريين بسبب المشكلات الطائفية والإثنية العميقة، كلها تتجاهل حقيقة أن الجذر الدافع لهذه الدعوى هو عدم القبول بالمختلف.

هي دعاوى مبنية على سوء ظن كبير بالآخر، ولكن المشكلة الأعمق أن هذا الآخر ليس جهة ثابتة ودائمة. إنه جهة تتحول وتتغير حسب الظروف والمتغيرات العامة. والبحث عن جماعة جوهرية نقية ومتوحدة ومتطابقة يمكن ان تؤسس عليها كيانًا أو نظامًا سياسيًا معينًا هو وهم هائل، بل هو من أكبر الأوهام البشرية، والتي جرت تحتها جملة من أفدح الجرائم الانسانية عبر التاريخ.

إن اعتقاد الجماعات الطائفية والمذهبية والإثنية بأن انفصالهم عن بعضهم بعضًا، سيحل المشكلات التي يعانون منها هو وهم هائل، ففضلاً عن كون الانفصال سيحكم علينا جميعًا، بمصير الضعف والانسحاب من ساحة الفعل التاريخي في المنطقة الى أبد الآبدين. 

إن بارانويا الاختلاف، او الارتياب من المختلف، ستستمر بالفعل لإفراز هرموناتها السامة في أرواحنا وعقولنا، وستبحث الجماعات داخل هوياتها الذاتية عن المختلفين لتصفيتهم وطردهم، ثم يبحث المتشابهون لاحقًا عن مختلف آخر وهكذا. 

البشرية في واقع الحال تتقدم بقدر ما تستوعب الاختلاف والمختلف وتدمجه في حركتها العامة. وهذا هو الدرس الذي لا يبدو أن مجتمعنا في سورية الطبيعية يفهمه بشكل جيد.

حول تيارات الحاضر والماضي..

يستمرّ الحديث عن الهوية وسط أوجه كثيرة من الاختلاف والتناقض الفكري والسياسي، خاصة في عالمنا العربي الممزق قطريًا وطائفيًا واجتماعيًا وإثنيًا وعشائريًا من ناحية، والممزق أيضًا بين تيارات الحاضر والماضي وضبابية المستقبل من ناحية ثانية، فالكثير من مجتمعاتنا العربية لا تزال تعيش حالة من «الشيزوفرانيا» المعرفية والسياسية بحكم وجودها الشكلي في القرن الحادي والعشرين وانتمائها الفعلي والجوهري إلى القرن الخامس عشر، وما ينتجه ذلك من تشتت في مفهوم الهوية ذاته، إذ نراه مفهوماً غامضاً في أوساط الغالبية الساحقة في العالم العربي.

تسرب مفهوم الهوية إلى الفكر العربي في نهاية القرن التاسع عشر ومطلع العشرين، إذ لم نكن نقع عليه ضمن المصطلحات المترجمة في تلك الفترة مثل: الحرية، الأمة، القومية، المساواة، الوطن، الوطنية، الثورة…إلخ. ولعل أول من استخدم مصطلح الهوية وكرسه في بعده القومي هو المفكر النهضوي أنطون سعاده من خلال طرحه سؤاله الفلسفي الكبير «من نحن؟» وإجابته عن هذا السؤال بـ «أننا سوريون والسوريون أمة تامة».

وهذا لا يعني غياب المصطلح عن فكر العديد من النهضويين، ولعلنا نذكر هنا أن سلامة موسى كان استخدم مصطلح الهوية نقلاً عن إبراهيم اليازجي.