رأس المال ومفهوم العمل المستدام وحالات عدم المساواة الحديثة

كيف يمكن مكافحة الوجود الفعلي والارتجاعي للفقر واللامساواة بدلاً من التلطي وراء بيانات وإحصاءات مالية جافة ؟

  • رأس المال ومفهوم العمل المستدام وحالات عدم المساواة الحديثة
    رأس المال ومفهوم العمل المستدام وحالات عدم المساواة الحديثة

تثير التغيّرات العالمية السياسية والاقتصادية والتكنولوجية العديد من علامات الاستفهام حول إشكالية العلاقة بين عالم العمل والتنمية المستدامة ورأس المال. على سبيل المثال، الواقع الزراعي العالمي بات مرهوناً للاستثمارات في الأراضي الشاسعة واﻻﺑﺘﻜﺎرات اﻟﺘكنولوجية اﻟﺘﻲ ﺗسيطر ﻋﻠﻴﻬﺎ الشركات عبر الوطنية، أي أنها عملية الإلغاء التدريجي لنسق الإنتاج الزراعي، حيث يخسر المزارع هويته الاجتماعية والثقافية والاقتصادية كمنتج وكعامل، ليتحوّل إلى مجرّد مستهلك. وهذا الواقع يستوجب طرح التساؤل التالي:

هل سيؤدي تطوّر الاقتصاد والتكنولوجيا إلى تحقيق التنمية المستدامة المجتمعية الجوهرية؟

من حيث المبدأ، المفهوم الواسع للعمل لا يقتصر على الوظيفة، بل يتجاوزها إلى تعميق الصلة بمفهوم العمل المستدام القائم على توسّع سياسات فرص العمل وصون حقوق العمال ورفاهيتهم، والتي تكون قادرة على مواجهة التحديات المرتبطة بجدلية الفجوة بين رأس المال وفقر العمال، حيث باتت الشكوك تزداد فيما يتعلق بإمكانية تحقيق المساواة والعدالة الاجتماعية. 

وانطلاقاً من ذلك، لم يعد مقبولا ً التعاطي مع الواقع المتأزم لأسواق العمل، من منطلق الرفض القائم على اعتبارات أيديولوجية فقط، من دون وجود رؤية عملية. فأكثر ما يقلق قوى السوق هو اضطرارها إلى تحديد موقف من مشروع عالمي مستدام اجتماعياً. 

في هذا الإطار، هنالك تحرّكات عمالية واجتماعية ذات تأثير وتعمل على مواجهة المنظومة الرأسمالية وخلق حالة من الاستقلال النسبي عن قوى رأس المال. على سبيل المثال، يمكن اعتبار المفاوضات المستمرة داخل منظمة التجارة العالمية المتعلقة بمنح عمال الدول النامية حرية تنقّل أكبر في أسواق الدول المتقدمة، خطوة إيجابية على صعيد: ترسيخ حقوق العمال وزيادة مكاسبهم. إعادة التوازن بين رأس المال وعالم العمل. 

على الرغم من أنه لم يتبلور حتى هذه اللحظة أي بديل استراتيجي يمكن أن يقارع النمط الرأسمالي السياسي والاقتصادي السائد، لكن يمكننا القول إن هامش الحركة المتاح للمجتمع هو دائماً أوسع بكثير من ذلك المتاح للاقتصاد. فالتأثير الاقتصادي في تكوين وتكييف المجتمع منطقي وفاعل بشكل كبير، ولكنه حتماً لا يستطيع أن يحدّده. وبالتالي يمكن إعادة بناء المجتمعات وفقاً لرؤية سياسية واقتصادية مستدامة، تكون بالحد الأدنى قادرة على الإجابة عن التساؤلات التي تدور حول جدلية: 

لماذا هنالك الكثير من الأفكار عن كيفية توزيع الدخل وليس عن كيفية توليد الدخل؟

في هذا السياق، حتى إذا قررنا تجاوز جدلية كيفية توليد الدخل وحاولنا تبني أطروحة توزيع الدخل، فإننا لا نستطيع تجاهل إشكاليات عدم المساواة الحديثة القائمة على: 

1-         توسّع حجم رأس المال الخاص وزيادة دخل الأغنياء بشكل غير متناسب. فالفجوة بين هؤلاء وبين طبقة العمال عميقة للغاية وهنالك صعوبة في ردمها. 

2-        عدم المساواة النظامية  Homoploutiaحيث بتنا نلحظ اتساع نطاق شريحة الرأسماليين الأثرياء والعاملين بأجور مرتفعة (مثل الرؤساء التنفيذيين، المحللين الماليين، الأطباء، الرياضيين، المشاهير، أشخاص ورثوا الكثير من الأصول...إلخ). إنها نخبة رأسمالية جديدة وهي من بين أغنى الرأسماليين وأغنى العمال كذلك.

منطقياً، من غير المحتمل أن يتم تقليص تلك الفجوات بسهولة نتيجة التطورات الحاصلة على صعيد الذكاء الاصطناعي التي تؤدي إلى تقليص العمالة وزيادة الحصة المتراكمة في رأس المال. وإذا كان الحل الوحيد لتلك المعضلات يكمن في توزيع أكثر عدالة لرأس المال الخاص عن طريق زيادة نسب الضرائب المرتفعة أو الالتزام برفع معدل تشغيل الأيدي العاملة، ولكن عملياً لا يوجد أي تحرّك ملموس في هذا الاتجاه سواء في الاقتصادية المتقدمة أو الناشئة. وهذا الواقع، يستوجب طرح علامات استفهام حول:  

كيف يمكن سياسياً الاستفادة القصوى من الفرص الاقتصادية والتقدم والتكنولوجي بطريقة تلفت الانتباه إلى مصلحة المجتمعات والفئات المحرومة؟

إن التحديات الساسية تكمن في كيفية غربلة الأغنياء ومواجهة الفجوات التي تمتاز بها الاقتصادات، وهنا يستوجب الاعتراف بأنه لن يتم القضاء على الفقر من دون وجود فكر سياسي، إذ إن طبيعة السوق تتأثر بشدة بالاستراتيجيات السياسية، التي تستطيع تغيير وبشكل جذري هيكلية الأسواق بما يمكن أن يسمح بالحد من تلك الفجوات وتحقيق المساواة وتمكين جميع    الطبقات من الاستفادة من النمو الاقتصادي المستدام.

على نور ما تقدّم، يتضح أن التعامل مع قضايا التنمية المستدامة من قبل الاقتصاديين والتكنوقراط على أساس أن لا علاقة لها بالأفكار السياسية وفلسفة الحكم، وكأنها ليست أكثر من تمارين في الاقتصاد التطبيقي، أمر في غاية الخطورة. فقد حان الوقت كي يتم الجمع بين الفلسفة السياسية والاقتصادية، وذلك ليس من أجل أن تصبح الدول أكثر إنتاجاً لجودة المجتمعات المستدامة بشرياً بدلاً من تنمية الأشياء. 

وفي المحصلة، وانطلاقاً من مبدأ التفاعل النقدي مع الليبرالية الاقتصادية والتطور التكنولوجي لا بدّ لنا من طرح الإشكالية السياسية الجوهرية والقائمة على التساؤل التالي:

كيف يمكن مكافحة الوجود الفعلي والارتجاعي للفقر واللامساواة بدلاً من التلطي وراء بيانات وإحصاءات مالية جافة تشير إلى الفوائد المزعومة للنمو الاقتصادي والتطور التكنولوجي؟