عام على أولي البأس... ما الذي لم تحقّقه "إسرائيل"؟

المعركة في لبنان لم تحسم... صحيح أنّ المقاومة لم تحقّق "نصراً كلاسيكياً"، وأن "إسرائيل" حققت إنجازات استخبارية وأمنية، ولكنها فشلت في هزيمة المقاومة وكسرها.

  • المقاومة وإعادة تثبيت المعادلات.
    المقاومة وإعادة تثبيت المعادلات.

منذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023، لم يعد المشهد في المنطقة كما كان، فـ "طوفان الأقصى" لم يكن مجرّد عملية عسكرية فلسطينية باغتت "إسرائيل"، بل كان الشرارة التي أعادت رسم قواعد الاشتباك في الشرق الأوسط، وأدخلت حزب الله سريعاً على خط المواجهة، حيث تحوّلت جبهة الجنوب اللبناني إلى ساحة إسناد أساسية، بل مناورة مدروسة أعادت تثبيت معادلة الردع، ووضعت "إسرائيل" أمام تحدّيات عسكرية واستراتيجية غير مسبوقة. 

حينذاك، اعتمد حزب الله سياسة "الضغط المحسوب"، فاستهدف مواقع حدودية بعمليات مركّزة من دون اندفاعة شاملة، مانحاً المقاومة الفلسطينية فرصة الحفاظ على المبادرة، ومع كلّ اغتيال إسرائيلي، كان الحزب يوسّع من عملياته ونوعية أسلحته.

قلب الموازين، ومحاولة كسر قوة الردع

"إسرائيل" سعت إلى قلب الموازين عبر مسارين متوازيين: الحرب السيبرانية وعمليات الاغتيال؛ ففي أيلول/سبتمبر، شنّت عملية "البيجر" الإلكترونية التي وُصفت بأنها "جريمة حرب"، تلتها موجة قصف غير مسبوقة تجاوزت 1500 غارة في يوم واحد، رافقتها اغتيالات طالت قادة بارزين في "قوة الرضوان".

والهدف كان دفع حزب الله إلى مواجهة شاملة، لكنّ الردّ جاء محسوباً بصواريخ دقيقة ومسيّرات على مواقع عسكرية حسّاسة، ما أثبت أنّ المقاومة لم تفقد قدرتها على المناورة، بل عزّزت مرونتها وقدرتها على استيعاب الصدمات.

الصدمة الكبرى حلّت باغتيال الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله؛ فللحظة، بدا المشهد وكأنّ "إسرائيل" نجحت في ضرب قلب القيادة السياسية والعسكرية للمقاومة، إذ عمّت أجواء القلق والارتباك صفوف المقاتلين وبيئتهم الحاضنة.

وزادت حدّة الصدمة باغتيال رئيس المجلس التنفيذي في الحزب، السيد هاشم صفي الدين، بعد أيام، حيث كان قد تولّى منصب الأمانة العامة خلفاً للسيد نصرالله.

· توضّح المحجوب، فمن "إعادة لبنان إلى العصر الحجري" كما عبّر وزير "الأمن" الإسرائيلي السابق يوآف غالانت، حتى الوصول إلى ما اعتبره رئيس وزراء الاحتلال، بنيامين نتنياهو أنّ حزب الله بات "أضعف من أيّ وقت مضى"، داعياً الشعب اللبناني إلى "التحرّر من سيطرة الحزب والسعي نحو السلام والازدهار". هنا تأكّدت النيات والأهداف الإسرائيلية المعدّة مسبقاً تجاه لبنان...

لكن واقعاً، ومن البديهيات، كان صمت الحزب ليس انكساراً، والهدف ترتيب الصفوف سريعاً، وهو ما بدأت ملامحه مع بيان نعي السيد نصر الله "قيادة حزب الله تعاهد أن تواصل جهادها في مواجهة العدو وإسناداً لغزة وفلسطين ودفاعاً عن لبنان وشعبه الصامد والشريف".

موقف يعكس قراراً قيادياً، وليس تعبيراً وجدانياً، وهو كان أولى الإشارات على أنّ المقاومة باشرت في ترميم آثار الضربات سريعاً، مثبتة أنّ اغتيال القادة لا يعني سقوط المقاومة.

المقاومة وإعادة تثبيت المعادلات

في ظلّ القصف الإسرائيلي الكثيف وسياسة الأرض المحروقة، نفّذت المقاومة عمليات نوعية، وفعّلت معادلة "بيروت مقابل تل أبيب"، لتؤكّد أنّ العاصمة لن تُستهدف من دون رد قوي.

وكانت أبرز الاستهدافات:

·  معسكر تدريب للواء غولاني في بنيامينا.

·  منزل رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو في قيساريا 

·  مقار قيادية مثل قيادة المنطقة الشمالية، مقر الفيلق الشمالي، مقارّ فرق وألوية.

· قواعد الموساد والوحدات الخاصة: الوحدة 8200، ميشار، رامات ديفيد، حتسور، تل نوف، بلماخيم، إلياكيم، الناعورة، رغفيم، عين شيمر.

·  القواعد البحرية: كستيال ماريس، قاعدة حيفا البحرية، قاعدة أشدود.

· المصانع العسكرية: "رافائيل، تاع، يكنعام عيليت، مصنع المواد المتفجّرة في الخضيرة".

· مقر قيادة الموساد في ضواحي "تل أبيب"، وهو المقر المسؤول عن اغتيال ‏القادة وعن تفجير البايجرز وأجهزة اللاسلكي.

· الكمائن والعبوات الناسفة: تفجير "عبوات في مسارات جنود العدو وحتى داخل المنازل" 

إلى جانب ذلك، برزت قدرات دفاع جوي متقدّمة، وأسقطت مسيّرات استراتيجية، ما أضاف بُعداً جديداً إلى معادلة الردع.

لكنّ الحرب لم تُختصر بالجبهات العسكرية وحدها، بل كانت معركة صمود شعبي، فأبناء الجنوب والضاحية والبقاع دفعوا ثمناً قاسياً من المجازر والنزوح، ومع ذلك ظلّوا يشكّلون الحاضنة اللوجستية والسياسية للمقاومة، مثبتين أنّ مشروعيتها الشعبية لم تتزعزع، واستمرت في توفير الغطاء، في وقت كانت "إسرائيل" تراهن فيه على انهيارها لفرض معادلة جديدة. 

في المقابل، بقي عشرات الآلاف عاجزين عن العودة إلى شمال فلسطين المحتلة، ما شكّل ضغطاً داخلياً متزايداً على حكومة نتنياهو.

بعد أشهر من المواجهة، "إسرائيل" لم تحقّق أهدافها الرئيسية: "إعادة سكان الشمال إلى منازلهم بأمان"، وفقاً لما شدّد عليه نتنياهو في تصريحاته، و"تدمير قدرات حزب الله العسكرية عبر تكثيف العمليات العسكرية"، ولا حتى انتزاع ثقة وتمسّك الحاضنة الشعبية للمقاومة ومحاولة صنع فتنة داخلية عبر التحريض: "لقد استخدمكم حزب الله لفترة طويلة كدروع بشرية" مضيفاً "يا شعب لبنان، القرار لكم. قاوموا واستعيدوا وطنكم، حرّروا بلادكم من حزب الله حتى تنتهي هذه الحرب".

عندها وجدت "إسرائيل" حلاً يلملم شظايا صورتها التي كُسِرت، فلوّحت بالغزو البري لفرض "منطقة أمنية" بعمق 4 كيلومترات على الأقلّ داخل لبنان، بما يزيد عن 60 ألف جندي من مختلف الفرق والألوية، فكان القرار في 30 أيلول/سبتمبر..

الإرباك ما زال يسيطر على الجنود والقيادة، فذاكرة تموز لا تزال محفورة في أذهانهم، لكن لا خيار أمامهم سوى التقدّم، وبعد نحو 3 أيام بدأ التوغّل التدريجي.. والمقاومة؟؟ كانت جاهزة.

حين تكلّم الميدان..

جسّدت المقاومة معادلة أساسية أرساها السيد نصر الله: "إذا جاءت دباباتكم إلى لبنان، فلن تعانوا نقصاً فيها، لأنها لن تبقى لكم دبابات". والمقاومة بالفعل "أعدّت عدّتها".

تصدّت المقاومة مدمّرةً عشرات الدبابات والآليات، وكانت النتيجة نفسها: "حدث أمني صعب في جنوبي لبنان"، كما كان يصفه الإعلام الإسرائيلي.

لاحقأً، أجبر العدو على إعادة تقييم خياراته وقراراته والعودة إلى القرار 1701.

لكن ذلك لم يدم طويلاً، فسرعان ما خرقه العدو مدعوماً بالضغط السياسي الدولي على لبنان، والداخلي على المقاومة، في حين أنّ لبنان والحزب التزما ببنوده كافة، وواصل الاحتلال خرقه بما يزيد على 5000 انتهاك، أسفرت عن استشهاد أكثر من 260 مواطناً وجرح الآلاف، وسط صمت الدول الضامنة التي اكتفت بالإدانة.

من جهته فإنّ الحزب ليس في موقع المتفرّج، فقد رمى الكرة في ملعب الدولة والدول الضامنة، لكسر أيّ ادعاءات تشير إلى تحميله مسؤولية أيّ تصعيد جديد.

"ساعة واحدة سينهار الأمن"، كلمة فصل، أرساها الشيخ نعيم قاسم، مع تفاقم الاعتداءات والاستباحة الإسرائيلية، وقال سابقاً: "قيادة المقاومة هي من تقرّر متى تقاوم وكيف وأسلوب المقاومة والسلاح المستخدم".

المعركة لم تُحسم...

المعركة إذاً لم تُحسم.. صحيح أنّ المقاومة لم تحقّق "نصراً كلاسيكياً"، وأن "إسرائيل" حققت إنجازات استخبارية وأمنية، ولكنها فشلت في هزيمة المقاومة وكسرها.

ويبقى السؤال مفتوحاً: بعد فشلها في الميدان، هل تحاول "إسرائيل" نقل المعركة إلى الداخل عبر الضغوط السياسية والاعتداءات المستمرة؟


رغم التزام لبنان بالاتفاق، وتنازل الحزب الله عن وجوده العسكري جنوب الليطاني، برزت ضغوط أميركية-إسرائيلية-عربية ودولية لنزع "سلاح حزب الله"، وفرض القرار على الدولة اللبنانية، وهذا القرار كان ممهّداً في خطاب القسم لرئيس الجمهورية العماد جوزاف عون ومقررات الحكومة التي جسّدها الرئيس نواف سلام: "حصر السلاح بيد الدولة"، على الرغم من أنّ الولايات المتحدة قالتها بكلّ وضوح على لسان مبعوثها، توم برّاك، "لا يمكننا أن نضمن التزام إسرائيل"..

وعلى الرغم من شرعيّته وفق اتفاق الطائف، أعلن الحزب أنّ السلاح هو "الروح" التي لا يمكن لأحد أن يسلبها، بالتوازي، لم يمانع التوصّل إلى اتفاق داخلي لبناني، بقواعد وشروط عقلانية - سيادية تضمن حقوق لبنان وتحفظ سيادته: الانسحاب الإسرائيلي الكامل، تسليم الأسرى، ضمانات دولية لمنع الاعتداء، والأهم يكمن في التوصل إلى اتفاق على استراتيجية دفاعية.

وبهذا يكون حزب الله قد جسّد أنّ الانتصار "بالنقاط" ليس ضعفاً، بل هو تحدٍ أكبر ونصر موجع تزيد آثاره عن "الضربة القاضية"، وتبقى "الأيام والليالي والميدان" هي المعادلة...