فرنسا: الانسحاب من مالي وتتويج الفشل

لم تُحسِّن فرنسا الوضع الأمني ​​بشكلٍ كبيرٍ في منطقة الساحل الأفريقي، وقد خسرت 59 جنديّاً في منطقة الساحل، بينهم 52 في مالي، وأنفقت وحدها نحو 880 مليون يورو سنويّاً على عملياتها لـ "مكافحة الإرهاب" في جميع أنحاء المنطقة.

  • فرنسا: الانسحاب من مالي وتتويج الفشل
    فرنسا: الانسحاب من مالي وتتويج الفشل

تحظى منطقة الساحل الأفريقي باهتمام القوى الدولية الفاعلة، ما يجعلها نقطة تقاطع بين مصالح تلك القوى الدولية والإقليمية، لأنها تحتوي العديد من الثروات الطبيعية التي دفعت ثمنها عبر سلسلة من الاضطرابات السياسية التي أثَّرت في استقرارها السياسي والاجتماعي وجوارها الجغرافي.

حرصت فرنسا بعد استقلال الدول التي كانت تابعة لمستعمراتها في السابق على الحفاظ على مكانتها وممتلكاتها الاستعمارية السابقة وتعزيز دورها في المنطقة بهدف حماية مصالحها الأمنية واستثماراتها الاقتصادية، من خلال مجموعة من الاتفاقيات الجماعية أو الثنائية، فضلاً عن الوجود العسكري المباشر.

على الرغم من استقلال جميع دول الساحل، فإنَّ نفوذ فرنسا ظل باقياً في المنطقة، وتضمّن إنشاء قواعد لوجستية وعسكرية ونشر قوات برية نشطة ضمن عمليات "مكافحة النشاط الإرهابي" المتنامي في تلك المنطقة. 

وعلى الرغم من الوجود العسكري الفرنسي في مالي منذ توقيع الطرفين على اتفاقية تعاون مشترك عام 2013، فإنَّ مالي لا تزال تعاني من المتمردين، وينتشر العنف في بوركينا فاسو والنيجر المجاورتين، وفي الأجزاء الشمالية من ساحل العاج وبنين وغانا.

وفي ظل تدهور الوضع الأمني، وتحوُّل أزمة مالي إلى أزمة في منطقة الساحل، أعلنت فرنسا أنها ستخفض قواتها العسكرية في المنطقة إلى النصف، وستكمل عملياتها الأمنية في تشاد وبوركينا فاسو، وستستخدم قواعدها في ساحل العاج والسنغال والغابون.

الانسحاب الهزيمة

أعلنت الرئاسة الفرنسية رسمياً انتهاء عملية "برخان" لمحاربة الجماعات المسلحة في الساحل، مضيفةً أنَّ هذا الإعلان لن تكون له "تداعيات على القوة العسكرية الفرنسية في المنطقة".

يأتي هذا الإعلان بعد نحو 3 أشهر على انسحابها من مالي، فيما لا يزال نحو 3000 جندي فرنسي منتشرين في كل من النيجر وتشاد وبوركينافاسو. وأوضح الإيليزيه أن المبدأ هو "التركيز على التعاون والدعم بشكل أساسي من حيث المعدات والتدريب والاستخبارات، والشراكة العملانية عندما ترغب الدول في ذلك".

واستلمت عملية "برخان" المهمة من عمليتي "سرفال" و"إيبرفييه" في كلٍّ من مالي وتشاد في آب/أغسطس 2014، واتخذت بعداً إقليمياً بررته المصالح الإستراتيجية الفرنسية في الساحل الأفريقي والتهديدات التي تواجهها المنطقة، وعلى رأسها محاربة "الإرهاب".

بلغ عدد عناصر هذه القوة في ذروة انتشارها في منطقة الساحل 5500 جندي. وقد ظلَّت تنشط لمدة 10 سنوات، قبل أن تتوتر العلاقات الفرنسية المالية، وتنسحب فرنسا من مالي بشكل نهائي منتصف آب/أغسطس 2022، مع المحافظة على وجودها في عددٍ من دول الساحل.

وكانت القوات الفرنسية في مالي بناءً على طلب من الحكومة آنذاك. ومع ذلك، منذ الاستيلاء على السلطة في عام 2020، اختلف حكام مالي العسكريون مع فرنسا، وتحولوا بدلاً من ذلك إلى روسيا للمساعدة في قتالهم ضد المسلحين الذين ينشرون الفوضى في أنحاء البلاد. وقد قُتل أكثر من 4000 شخص عام 2021، وأصبحت أجزاء كثيرة من البلاد خارج سيطرة المجلس العسكري في مالي، ووصفت العملية في مالي بأنَّها "أخطر مهمة حفظ سلام في العالم"، بعدما فقد 288 من جنود الأمم المتحدة حياتهم هناك منذ عام 2013.

ساحل العاج تنسحب أيضاً من قوة حفظ السلام في مالي

كذلك، قررت حكومة ساحل العاج التي تدور في الفلك الفرنسي سحب قواتها وشرطتها تدريجياً من قوة حفظ سلام تابعة للأمم المتحدة في مالي المجاورة، في أحدث ضربةٍ لمهمة شهدت انسحاب عدة دول غربية هذا العام. وتعد ساحل العاج سادس أكبر مساهم عسكري في القوة، إذ يبلغ عدد جنودها 857 جندياً، وفقاً لأرقام مينوسما، وهي ثامن أكبر مساهم في الشرطة، وتضم 30 ضابطاً، وتتألف من نحو 18 ألف فرد.

أتى هذا القرار بعدما احتجزت مالي 46 جندياً من ساحل العاج في تموز/يوليو واتهمتهم بأنها مرتزقة. وتقول ساحل العاج إنَّهم كانوا جزءاً من وحدة أمنية ولوجستية تعمل في إطار مهمة حفظ السلام. وقد وجهت نداءات متكررة لإطلاق سراحهم.

بريطانيا على المسار نفسه

أعلنت بريطانيا أنَّها ستسحب 300 جندي من قوة حفظ السلام عقب انسحابات مماثلة نفذتها دول غربية أخرى، بما في ذلك القوة الاستعمارية السابقة فرنسا، فقد صرح وزير الدفاع البريطاني جيمس هيبي أنَّ المملكة المتحدة ستسحب قواتها من مالي في وقت أبكر مما هو مخطط له بسبب عدم الاستقرار السياسي في البلاد.

وقال هيبي إنَّ انقلابَين في مالي خلال 3 سنوات "قوضا" الجهود، وهاجم الحكومة المالية الحالية لعملها مع "مجموعة المرتزقة الروسية فاغنر". وأضاف: "مجموعة فاغنر مرتبطة بالانتهاكات الجماعية لحقوق الإنسان، كما أنَّ شراكة الحكومة المالية مع مجموعة فاغنر تأتي بنتائج عكسية على الاستقرار والأمن الدائمين في منطقتهم".

وأثناء وجودها في المنطقة، قامت القوات البريطانية بدوريات استطلاع بعيدة المدى ضد الجماعات المسلحة في المنطقة، مثل "القاعدة" و"داعش". وتعد بريطانيا أحدث دولة تسحب قواتها من مالي، إذ أنهت فرنسا رسمياً وجودها الذي دام عقداً من الزمن.

ومن المقرر أن يقدم الأمين العام للأمم المتحدة تقريراً بحلول نهاية العام عن مستقبل المهمة التي قيدها المجلس العسكري في مالي بشكل كبير منذ وصوله إلى السلطة في انقلاب عام 2020.

دوافع تقليص الوجود الفرنسي في منطقة الساحل الأفريقي والانسحاب من مالي

في 10 حزيران/يونيو 2021، بعد أسبوع على الانقلاب العسكري الجديد في باماكو، أعلن الرئيس إيمانويل ماكرون نهاية عملية برخان كعملية خارجية، والسماح بدلاً من ذلك بتقديم الدعم والتعاون مع جيوش دول المنطقة. ووصفت السلطات المالية عملية الانسحاب الفرنسي بأنه هدف تم إسقاطه في منتصف الرحلة، وجاء إعلان ماكرون لعدة دوافع على الشكل الآتي:

أولاً: الخسائر المادية الفرنسية الناتجة من الوجود العسكري

لم تُحسِّن فرنسا الوضع الأمني ​​بشكلٍ كبيرٍ، فقد خسرت 59 جنديّاً فرنسياً في منطقة الساحل، بينهم 52 في مالي، وأنفقت وحدها نحو 880 مليون يورو سنويّاً على عملياتها لمكافحة الإرهاب في جميع أنحاء المنطقة. ومع ذلك، وعلى الرغم من عدم وجود نتائج إيجابية في مالي، فإنها بذلت الجهود نفسها في بوركينا فاسو، وسارت في المسار نفسه إلى حد كبير.

ويبدو أن المخاوف من أن يؤدي الحكم العسكري إلى تفاقم الوضع الأمني لها ما يبررها، ولا يقتصر الأمر على خطر نشوء فراغ بسبب الانسحاب الفرنسي، إذ يسعى المجلس العسكري المحلّي لتعزيز سلطته. ومن المرجح أن تظل إستراتيجية التصدي الشامل للجماعات المتطرفة العنيفة العاملة في البلاد مستمرة.

وكلّفت عملية برخان فرنسا مبالغ مالية كبيرة، إذ تم رصد ميزانية للعملية تُقدر بـ695 مليون يورو عام 2019، ومليار يورو عام 2020، وهو ما يعادل 76% من إنفاق فرنسا على مهامها وعملياتها العسكرية في الداخل والخارج وسط الضغط الاقتصادي الذي نجم عن جائحة كورونا.

ثانياً: إعادة هيكلة أولويات فرنسا في الساحل وتقليص عدد القوات

يمكن اعتبار إعلان فرنسا تقليص دورها بأنّه جرس إنذار للشركاء الأوروبيين والولايات المتحدة الأميركية بأنها لن تكون وحدها في وجه العاصفة المسلحة التي تضرب دول الساحل الأفريقي، وخصوصاً أنَّ خطر الجماعات الإرهابية ينعكس بشكل مباشر على كل القارة الأوروبية، وليس فرنسا وحدها.

وبالتالي، فإنَّ الإستراتيجية الفرنسية ستتوجه نحو تفعيل شراكة أوروبية متكاملة في أفريقيا، واستبدال عملية "بارخان" بعملية أوروبية فرنسية مشتركة. ويمكن أن تكون قوة تاكوبا هي نواة هذه العملية، مع ضرورة إبقاء القواعد والقوات الفرنسية في الحد الأدنى في أماكن نفوذ فرنسا التقليدية.

وقد تعهدت فرنسا في حزيران/يونيو 2021 إعادة نشر قواتها العسكرية في منطقة الساحل، ولا سيما من خلال مغادرة معظم القواعد الشمالية في مالي (كيدال وتمبكتو وتيساليت)، والتخطيط لتقليص قواتها العاملة في المنطقة بحلول عام 2023 إلى 2500 - 3000 جندي فقط من نحو 5000 موجودين حالياً. 

وقد سلمت قاعدتها في" كيدال" لبعثة الأمم المتحدة المتكاملة المتعددة الأبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي في 12 تشرين الأول/أكتوبر 2021. وتم تسليم القواعد في "تيساليت" و"تمبكتو" للقوات المالية في 15 تشرين الثاني/نوفمبر و14 كانون الأول/ديسمبر.

وستستند إعادة تنظيم الوجود العسكري الفرنسي في منطقة الساحل إلى 4 محاور: تقديم المشورة للقوات المسلحة المحلية عبر العناصر الفرنسية في السنغال [EFS] والقوات الفرنسية في ساحل العاج [FFCI]، ودعم المجموعة الأوروبية في القتال وقوات تاكوبا الخاصة، و"إعادة التأمين" لمصلحة القوات المتحالفة والشريكة، لا سيما مع العتاد الجوي، ومتابعة العمليات المستهدَفة ضد قادة التنظيمات الإرهابية.

ثالثاً: الضغط على فرنسا لسحب القوات العسكرية

تصاعدت التوترات بين مالي وفرنسا عندما طردت الحكومة المالية السفير الفرنسي جويل ماير في 31 كانون الثاني/يناير 2022م، ومنحته مهلة 72 ساعة لمغادرة البلاد، وتدهورت العلاقات بعدما تراجع المجلس العسكري في مالي عن التزاماته السابقة بإجراء انتخابات في شباط/فبراير 2022، واقترح الاحتفاظ بالسّلطة حتى 2025.

وقد تزامن انعدام الأمن مع تأكّل الثقة الشعبية بحكومات منطقة الساحل. وبعد انقلاب مالي في آب/أغسطس 2020 على الرئيس المنتخب إبراهيم بوبكر كيتا، وقع انقلاب أيار/مايو 2021، وتدهور الوضع الأمني ​​مع الحكومة التي يَنظر إليها الجمهور على أنها فاسدة وتخدم مصالحها الذاتية، تماماً مثل انقلاب عام 2012 الذي أطلق الأزمة الحالية.

وأظهرت طريقة إطاحة أبو بكر كيتا مدى السرعة التي يمكن أن تؤدي من خلالها إخفاقات الحكم إلى تقويض جهود تحقيق الاستقرار، وخصوصاً إذا دفعت الناس إلى النزول إلى الشوارع، ودعت الجنود إلى التمرُّد.

 وقد كان الأمر مثيراً للقلق بالنسبة إلى الشركاء الأجانب الذين كانوا يضخُّون مئات الملايين من الدولارات في قوات الأمن المالية. وأشار وزير الدفاع الألماني إلى أنَّ بعض قادة المجلس العسكري تم تدريبهم في ألمانيا وفرنسا. وفي أعقاب الانقلاب، علّق الاتحاد الأوروبي بعثاته الأمنية والدفاعية في مالي.

أخيراً، ناهز عدد التدخّلات الفرنسية العسكرية في أفريقيا 40 تدخلاً خلال الأعوام الخمسين الماضية، وكانت الدوافع المعلنة خلالها متعددة، لكن محركها الأساسي استعماري، فالتحديات الاقتصادية الداخلية، والتنافس على الطاقة والنفوذ، فضلاً عن الحنين إلى الميراث الاستعماري، كلها محفزات لتجدد المغامرة في أفريقيا، وهي مغامرة فرنسية تتسارع اليوم في خضم التحولات الجيوسياسية العميقة وتوازن القوة في العالم.