في ذكرى رحيل أنور عبد الملك: كان سبّاقاً في الدعوة إلى التوجّه شرقاً

تتمحور رؤية أنور عبد الملك الأساسية حول قضية "الانتصار للشرق" والرغبة العارمة في تغيير العالم، وهذه الرؤية لا تقتصر على العالم العربي، بل تمتد إلى العالم الثالث بأسره.

  • ينتمي الفيلسوف الماركسي أنور عبد الملك إلى نمطٍ من المفكرين النهضويّين المؤسّسين في بلاده والعالم
    ينتمي الفيلسوف الماركسي أنور عبد الملك إلى نمطٍ من المفكرين النهضويّين المؤسّسين في بلاده والعالم

بعد صدور مقالة "صدام الحضارات" للمفكر الأميركي صموئيل هنتنغتون عام 1993، اعتبر العديد من الباحثين أن هذه النظرية تذكّرنا بنظرية الدوائر الحضارية للمفكر والفيلسوف المصري أنور عبد الملك، لا بل إن مفكراً كبيراً مثل أحمد صدقي الدجاني اعتبر أن عبد الملك سبق هنتنغتون في تحليله للنظام العالمي الجديد. إلا أن ذنبه أنه مفكر عربي لم يُحتضَن كما احتضنت هنتنغتون المؤسسة الأميركية الحاكمة.

وحدث معي الانطباع ذاته عندما قرأت كتاب "تغيير العالم" لعبد الملك، والذي صدر عام 1983. اعتبرت حينها أن عبد الملك سبق هنتنغتون بـ10 سنوات في رؤيته لعالم الحضارات.

ينتمي الفيلسوف الماركسي أنور عبد الملك إلى نمطٍ من المفكرين النهضويّين المؤسّسين في بلاده والعالم، إلا أن اجتهاداته وإنجازاته لم تنَل الاهتمام الفكري الذي يليق بها، فقد عاش معظم حياته مغترباً في باريس، حيث ظلّ الرجل متوجّهاً شرقاً باعتبار أن الشرق سيكون المركز الجديد للقوة والنفوذ والتأثير.

قضى عبد الملك عاماً كاملاً داخل السجون بعدها هرب إلى فرنسا ليدرس الفلسفة وعلم الاجتماع ويتخرّج في السوربون بشهادة دكتوراه دولة في علم الاجتماع العام عام 1969. وقد كانت أطروحته تدور حول الاجتماع المصري ونهضة مصر. وقد تُرجمت الأطروحة في ما بعد إلى العربية وصدرت في كتاب في القاهرة تحت عنوان: "نهضة مصر".

تتمحور رؤية عبد الملك الأساسية حول قضية "الانتصار للشرق" والرغبة العارمة في تغيير العالم، وهذه الرؤية لا تقتصر على العالم العربي، بل تمتد إلى العالم الثالث بأسره.

اهتمّ عبد الملك اهتماماً خاصاً بالفكر الجغرافي - السياسي، وقد ركزت نظريته على الدوائر الثقافية - الجغرافية - الحضارية المختلفة في العالم، وربط هذه الدوائر بالسياسات الاستراتيجية لكل دائرة، وقد فصّل ذلك في كتابه "تغيير العالم"، وهي ثلاث دوائر حضارية في العالم":

1-        دائرة الحضارة الغربية الإمبريالية: ومركزها الولايات المتحدة الأميركية التي تحاول أن تهيمن على النصف الجنوبي للكرة الأرضية، وخاصة أميركا الجنوبية وأفريقيا والمحيط الهادئ حول أستراليا. وأداة هذا النفوذ الهيمنة الاستراتيجية الذرية الغربية.

2-        دائرة الحضارة الغربية الاشتراكية: ومركزها الاتحاد السوفياتي (السابق)، ويمتد تأثيرها إلى أوروبا الشرقية وحوض البحر الأبيض المتوسط وشمال أفريقيا والشرق الأوسط، وجنوب آسيا والمحيط الهندي. أداة هذا التأثير سياسة التعايش السلمي والمساعدات الاقتصادية للدول النامية.

3-        دائرة حضارة الشرق الاشتراكي: ومركزها الصين الشعبية ويمتد تأثيرها إلى دول آسيا الاشتراكية والقارة الآسيوية بشكل عام. أداة هذا التأثير هي النمط الحضاري الجديد النابع من "المسيرة الطويلة إلى الثورة الثقافية" (بقيادة ماو تسي تونغ).

وقد ردّ عبد الملك على التشابه بين أطروحته وأطروحة هنتنغتون بأنه مجرد "سراب"، حيث يرى عبد الملك أن هنتنغتون يضع الحضارات على سلّم قيميّ يفضّل فيه الحضارة الغربية على الحضارات الأخرى، بينما ذلك غير صحيح إذا ما درسنا التاريخ على المدى الطويل في الماضي، وحاولنا استشراف مستقبله على حدّ سواء، فالحاضر ليس مقياساً دائماً لما قبله ولما بعده. "فالحضارة الشرقية الصينية كانت متفوّقة على الحضارة الغربية قبل العصر الحديث، ولا شيء يشير إلى أن هذا سيكون الحال مستقبلاً".

يؤكد عبد الملك في كتابه "تغيير العالم" أن أزمة العالم المعاصر ليست أزمة اقتصادية، على الرغم من انتشار المجاعة إلى جانب البذخ، ولكنها في عمقها أزمة سياسية شاملة، أي أزمة حضارية، أزمة النمط الحضاري المهيمن منذ القرن الخامس عشر.

ولهذا اهتم منذ البدايات "بطموحات القرن التاسع عشر، ونخب دولة محمّد علي بتطلعاتها إلى التحديث وتهيئة الأسباب له؛ فدول أوروبا تحالفت كلها، من دون استثناء، لكسر شوكة محمد علي الذي جعل مصر أولى دول الشرق، اقتصادياً وحربياً وثقافياً، وما إن انكسرت دولة محمد علي حتى انطلقت الدول الأوروبية تحتل جميع الأقطار العربية بالنار والسلاح والتدمير والإرساليات والمرتزقة والبنوك، إلى أن أصبحت الأمة العربية كلها محتلة نحو عام 1882، ثم تكرّرت موجات الغزو والسطو الاستعمارية، وتركزت بشكل أساسي حول مصر، بوصفها قلب التحرك العربي، من معاهدة لندن في العام 1840 إلى حرب حزيران/ يونيو في العام 1967، أي من محاولة كسر محمد علي إلى محاولة كسر جمال عبد الناصر".

رأى عبد الملك أن جوهر أزمة الشرق العربي هو إصرار الغرب كله على تقويض أركان القوة الشرقية بقيادة العرب، في منطقة البحر الأبيض المتوسط وشمال أفريقيا وغرب آسيا. وهذه السياسة معناها بشكل واضح ودقيق أن رسالة الغرب الحضارية تكمن في منع قيام دولة شرقية عصرية في هذه المنطقة: دولة الأمة العربية المتحدة.

ويرجع تاريخ تلك الهجمة إلى بداية الحروب الصليبية وما تلاها من ضرب دولة محمد علي المستقلة ثم التوغل الاستعماري فالاحتلال العسكري، وأخيراً وليس آخراً، محاولات إضعاف الحكم الوطني بكل الوسائل.

الاستشراق

كان أنور عبد الملك قد سبق أطروحة إداوار (إدوارد) سعيد الشهيرة التي كتبها في كتابه "الاستشراق" عام 1978، من خلال مقاله "الاستشراق في أزمة" الذي نشره عام 1962، في مجلة "ديوغينيس"، الذي كشف فيه عن النقص المعرفي للباحثين الأوروبيين تجاه موضوعهم؛ الثقافة العربية، بامتدادها الحضاري الذي لا يمكن قياسه بأدوات المعارف التي تولّدت في ثقافات غربية، قامت منذ بضعة قرون لا غير.

وقد سبّبت له هذه المقالة عزلة عميقة في الوسط الأكاديمي الغربي، حيث وجد عبد الملك صعوبة في نشر مقالاته العلمية في المجلات المتخصصة، ولا شك في أنه قد خسر بعض السنوات في التدرج الوظيفي ضمن المسار الجامعي. 

وقوبلت المقالة بهجوم حاد بعدما عدّها كثيرون "تصفية حساب مع الغرب". ونُشرت ردود على هذه المقالة التي تصف الاستشراق بأنه في أزمة أخلاقية؛ بسبب صلة هذا العلم بالحملات الاستعمارية التي قام بها الغرب في دول الشرق.

وقد التزم عبد الملك الصمت تجاه منتقديه، حتى جاء إدوارد سعيد وأخذ الفكرة إلى آفاق أوسع. فأكد في إحدى المناسبات أن الفضل في كتابه المهم "الاستشراق" يعود إلى عبد الملك وأطروحاته حول الاستشراق، وخاصة مقاله "الاستشراق في أزمة". وقد اعترف أكّد سعيد بأنه استفاد "من رؤية أنور عبد الملك النقدية للاستشراق، والقائلة بأنه ليس أكثر من نهج سياسي غربي يستهدف السيطرة على الشرق ومقدّرات موقعه وثرواته".

يعتقد عبد الملك أن إهمال مفكّري الغرب لمقاله عن الاستشراق يعود إلى رفضه الشديد لـ"إسرائيل" كدولة عنصرية استيطانية. وقد قدّم تفسيراً مركباً لوجود الكيان الصهيوني ودوره ضمن مثلث من أضلاع ثلاثة، الأول أن الاستعمار الصهيوني استعمار قائم بذاته، والثاني أنه إضافة إلى ذلك أداة للاستعمار الغربي.

والثالث أنه ليس استعماراً ضد العرب فقط، بل ضدّ عقلانية العلاقات الدولية. لقد أعطى لنا مثالاً لتفسير كيفية إسهام "إسرائيل" في إرساء فلسفة غير عقلانية في العلاقات الدولية. وهذا ما يواجهه العرب في علاقاتهم الخارجية كل يوم، وقد لا يجد بعضهم لها تفسيراً، حيث يعمل مبدأ ما ضدّ طرف دوليّ ما ومع طرف آخر، بالرغم من تشابه الظروف. فعندما يريد الغرب - مثلاً - الضغط على أي بلد عربي أو حتى غير عربي، فإنه يقوم بقطع كل المساعدات المالية والاقتصادية عنه. أما عندما يريد الضغط على "إسرائيل"، أو يقول ذلك، فإنه يبادر إلى زيادة مساعداته لها على أساس أن ذلك يُطمئنها ويجعلها قادرة على انتهاج سياسة معتدلة تجاه العرب والفلسطينيين.

رحل أنور عبد الملك عن عالمنا في الـ 15 من حزيران/ يونيو عام 2012، تاركاً العديد من الكتب التي كتب فيها رؤيته المعرفية ككاتب مؤسس، وصاحب مشروع حضاري متكامل، منها: "دراسات في الثقافة الوطنية"، "الفكر العربي في معركة النهضة"، "في أصول المسألة الحضارية"، "من أجل استراتيجية حضارية"، "الإبداع والمشروع الحضاري"، "تغيير العالم"، "مصر مجتمع يبنيه العسكريون"، "الجيش والحركة الوطنية"، "ريح الشرق"، "الشارع المصري والفكر"، و"الطريق إلى مصر الجديدة".