ماذا أخفت الصين وراء رسائلها التحذيرية إلى "إسرائيل"؟

 واليوم، من الطبيعي، في ظل التوتر الصيني – الأميركي، أن تطال مخرجات هذا التوتر حلفاء الطرفين.

  • ماذا أخفت الصين وراء رسائلها التحذيرية إلى
    ماذا أخفت الصين وراء رسائلها التحذيرية إلى "إسرائيل"؟

ظلّت العلاقات الإسرائيلية الصينية غائبة حتى قرب أواخر السبعينيات، بل إن العداء كان هو السمة المميزة لهذه العلاقات، بالنظر إلى أن "إسرائيل" كانت، طوال أعوام الحرب الباردة، جزءاً من شبكة الدفاع الغربي في مواجهة الشيوعية.

يمكن القول إن فترة التسعينيات لغاية اليوم تتباين عمّا قبلها، بحيث بدأت مرحلة جديدة تميزت بالتعاون، علمياً وتكنولوجياً وعسكرياً وتجارياً. ومن أمثلة هذا التعاون توقيع مذكِّرة بشأن تعزيز التعاون، اقتصادياً وتجارياً، بين حكومة جمهورية الصين الشعبية و"إسرائيل" في تشرين الثاني/نوفمبر 2005م. وهناك اتفاقيات ثقافية بينهما، مثل التي وُقِّعت عام 2007م، لتتم المحافظة على مئة طالب إسرائيلي وافد إلى الصين سنوياً، ومئة طالب صيني في "إسرائيل". وعلى غرار ذلك في المجالات كافةً، نشأت بين الجانبين الصيني والإسرائيلي علاقات متعددة الأوجه.

 واليوم، من الطبيعي، في ظل التوتر الصيني – الأميركي، أن تطال مخرجات هذا التوتر حلفاء الطرفين. انضمت "إسرائيل"، تحت ضغط أميركي، إلى بيان صدر عن مجموعة من الدول الأعضاء في مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، دان السياسة الصينية تجاه الأويغور في منطقة شينجيانغ. وفي العام الماضي، نشأت توترات بين "إسرائيل" والصين بشأن الموقف الصيني تجاه القضية الفلسطينية، بحسب موقع "والاه" الإسرائيلي. 

وفي يوم الأربعاء، 21/9/2022م، وجّهت الصين "رسالة تحذيرية شديدة اللهجة" إلى الحكومة الإسرائيلية، حذّرت خلالها "تل أبيب" من الرضوخ للضغوط الأميركية، والإضرار بالعلاقات بالسلطات في بكين، وذلك بحسب ما كشف موقع "والاه" الإسرائيلي، مساء الأربعاء.

 حذّرت الصين "إسرائيل" رسمياً من الخضوع للإملاءات الأميركية، لأنّ ذلك سيضرب العلاقات الصينية – الإسرائيلية، الأمر الذي يشير إلى أن العلاقات حتى الآن جيّدة ومستقرة، وما هذا الإنذار إلّا كي تبقى علاقاتهما ثابتة، وفق هذه الوتيرة.

وصفت "إسرائيل" التحذير الصيني بأنه حادّ اللهجة ومباشر وفريد من نوعه، كونه الأول، لكنّ الدبلوماسي الصيني وضّح سبب حدّة هذه اللهجة، عندما أعرب للسفيرة الإسرائيلية في الصين أنّ العلاقات مهمّة بالنسبة إلى الصين، ويجب أن تحافظ على مسارها، وخصوصاً في مجال التكنولوجيا، الأمر الذي يقضي بتحييد السياسة جانباً، وهذا ما لا تستطيعه "إسرائيل" في حال طلبت منها أميركا أن تغيّر نهجها مع الصين، إلّا في حالتين:

الأولى: الاتفاق على تحييد مجال التعاون، علمياً واقتصادياً، وعزله عن المجال السياسي، بين "إسرائيل" والصين.

الثانية: إقامة العلاقات بناءً على معلومات حقيقية بشأن صدقية العلاقة بين الصين و"إسرائيل": هل هي صراع وهمي أم فعلي، لأنّ هذا الأمر يمكّن العلاقات من الاستقرار، بعيداً عن أضواء الإعلام والسياسة، كما تفعل تركيا مثلاً بسبب علاقتها بـ"إسرائيل"، بحيث غالباً ما تتذّرع بخلاف مع "إسرائيل" بسبب الفلسطينيين، في حين أنّ لديها، في الخفاء، علاقات وثيقة بـ"إسرائيل" لا تتأثّر بشيء. والاتفاقيات السرية بينهما، ولاسيما في المجالين العسكري والأمني، أكبر دليل على ذلك.

بعد التدقيق في كلام المسؤول الصيني، لوحظ أنّه يطرح رؤية الصين بشأن حلّ هذا التوتر الذي اكتنف العلاقات بـ"إسرائيل"، عبر وقوفها على الحياد إزاء أي تطوّر سلبي يصيب العلاقات بين أميركا والصين، وذلك عندما أشار إلى أنّ الصين تتفهّم العلاقة التي تجمع "إسرائيل" وأميركا. وهذا أمرٌ واقع يفرض على كل من الصين وأميركا تحييد "إسرائيل" خارج نطاق صراعهما، وهذا أمر مستبعد بسبب ما له من نتائج كارثية، يتداركها البراغماتيون من كِلا الطرفين (راجع لقاء وزير الخارجية الصيني الحالي ووزير الخارجية الأميركي الأسبق هنري كسينجر في 20/9/2020م). وفي حال لم تحدث هذه النقطة تحديداً، فإنه يمكن لـ"إسرائيل" تجنّب الانخراط المباشر، والاكتفاء بمضايقة حلفاء الصين في الشرق الأوسط.

يبدو، من سياق الكلام، أنّ الصين ترى أن المواضيع التي تختلف فيها مع "إسرائيل" مواضيع شكلية لا تستحق أن تكون سبباً في توتر العلاقات وعدم استقرارها أو قطعها، عندما قال الدبلوماسي الصيني إن "العلاقات بين الجانبين بعيدة عن الصراع والمواجهة الكبرى". وفي سياق تحديد أهمية العلاقات وعمقها، قال الدبلوماسي الصيني إن هناك مصالح مشتركة طويلة الأمد، الأمر الذي يستدعي الوقوف عند هذه الكلمة من أجل تبيُّن هذه المصالح المشتركة. وأرى في هذا القول مقارنة صارخة وتشديداً على حجم المكاسب العملية للإسرائيليين من علاقتهم بالصين. وهذا الأمر يستدعي من "إسرائيل" إجراء حسابات دقيقة بخصوص كل ما يمس علاقتها بالصين، والأفضل رمي الخلافات جانباً، بحسب ما يُفهم من الدبلوماسي الصيني. 

ومن اللفتات المهمّة للدبلوماسي الصيني، قوله للسفيرة الإسرائيلية إن "الشعب الصيني يتفّهم ألم الشعب اليهودي، لأنّ الصينيين تعرّضوا للاضطهاد من الغرب". وفي هذه الكلمة محاباة منه، ومحاولة للعب على وتر العواطف من أجل نيل الاسترضاء والتهدئة والاستمالة.

يمكن وصف الحالة الراهنة للعلاقات الصينية - الإسرائيلية بالحرجة. وهذا أيضاً قد يكون تهديداً مبطَّناً في حال قمنا بدراسة دقيقة لحجم المكاسب الإسرائيلية في علاقاتها بالصين، تجارياً وعسكرياً وعلمياً ودبلوماسياً. فعلى سبيل المثال، بلغ التبادل التجاري الثنائي بين الصين و"إسرائيل" عام 2019م (4.460) مليارات دولار أميركي، ليرتفع في عام 2021م إلى (7.763) مليارات دولار أميركي، بحسب بيانات منظمة التجارة الدولية. وتتصدّر مفاعلات نووية ومراجل وآلات وأجهزة وأدوات آلية وأجزاؤها قائمة المنتوجات المتبادلة بين الصين و"إسرائيل". 

وأكبر دليل على صحة منطق التفسير هذا، قول الدبلوماسي الصيني إن بلاده "لا تريد أن تكون العلاقة بين إسرائيل وأميركا قائمة على ابتعاد إسرائيل عن أميركا"؛ أي قفوا على الحياد، ودقِّقوا في حجم المكاسب من جرّاء علاقاتكم بنا وبالأميركيين. 

إنّ أكثر ما يزعج الصين من أميركا هو تدخلها في شؤونها الداخلية، من قبيل تركيز الأميركي على التنديد بتعاطي الصين مع ملف حقوق الإنسان في إقليم شينجيانغ، وانحياز حلفائها إليها في المنظمات الدولية. 

وممّا قاله الدبلوماسي الصيني عن صواب، إدانته الشديدة للاتهامات الأميركية للصين بانتهاك حقوق الإنسان، لأن أميركا أكثر دولة تنتهك هذه الحقوق، وتستخدمها لتحقيق مصالحها. والعراق وأفغانستان دليلان صارخان، بحيث تريد أميركا البحث عن أي ملف أمام الرأي العام، محلياً وعالمياً، نتيجة عاملين اساسيين:

الأول: تنفيذ إدارة بايدن أجندتها الخاصّة، أيّا كانت الجهة التي وضعت هذه الأجندة، سواء المؤسسات العلنية أو حكومة الظل. 

ثانياً: تطويق الصين بفعل ما تمثّله من تهديد لأميركا، على نحو يُنهي حكمها العالم وحدها، عبر إرساء وضعية جديدة في النظام الدولي، تتمثّل بتعدّد الأقطاب، لأنّ أميركا لا تتمكن من إزالة الصين، لا عسكرياً ولا اقتصادياً. وكل ما يمكنها فعله هو أن تثير لها مشاكل داخلية وخارجية، تشغلها عن تخطيط تحقيق مزيد من التقدّم، اقتصادياً وعسكرياً. وباعتقادي، فإنهما ستجلسان إلى طاولة النقاش مستقبلاً، قطباً في مقابل قطب.

لم تملك "إسرائيل"، للدفاع عن نفسها، سوى التذرّع بأنّ سلوك الصين لا يخدم مصالحها في المنظمات الدولية، ولاسيما مجلس الأمن. وفي رأيي أن كل هذا من باب الدفاع عن النفس، والتبرير الذي يحفظ ماء الوجه لا أكثر. وأكبر دليل طلب الإسرائيليين المضحك جداً جداً إلى الصين، وهو ألّا تؤثّر علاقتها بإيران في علاقتها بـ"إسرائيل". وهذا في النهاية آلية دبلوماسية دفاعية بحتة.

وعلى عكس التحليلات الشائعة، فإن الإساءة إلى الصين تمت في ظل الحكومات التي تلت نتنياهو وتكتل الليكود. فإنّ هذا الأمر، من وجهة نظرنا، غير دقيق، وسببه ارتباطه بالضغط الأميركي على "إسرائيل"، والأمر ليس أمناً قومياً بالنسبة إلى "إسرائيل"، وخصوصاً أن الصين بعيدة كل البعد عن أي تهديد عسكري لـ"إسرائيل"، بل إنّ تايوان، التي تدخل في صلب الأمن القومي الصيني، ما كانت لتتحرّك لولا محاولات العبث والاستفزاز الأميركيّين.